مقدمة
خلال دراستي الجامعية في العشرية الأولى من القرن الحالي عشتُ فترات متقطّعة في عشوائيات محيطة بالعاصمة دمشق. حينها، لم أكن أميّزُ الفروق بين المدينة وعشوائيّاتها، فقد كانتا نسيجاً عمرانياً متصلاً، الأقبح فيه كان الأكثر رحابةً بالنسبة لي. العيشُ في العشوائيات كان يُناسب مدخولي الضئيل وحاجاتي المتواضعة من السكن والطعام. دائرة معارفي في تلك الفترة كانت تسكن العشوائيات. وهناك، مع رفاق وأصدقاء من مختلف الخلفيات الطبقية والسياسية، خاصة من اليسار، تناقشنا في المصير والمستقبل، والماضي. وما كنت أعتقده انتماءً طبقياً يجمعنا بتُّ أراه اليوم تسميةً أخرى للانتماء والعيش في تلك العشوائيات، التي لعبت دور الصمغ الخفي اللاصق لتنافراتنا وتناقضاتنا، والموحِّد لنا في وجه غياب المساواة الخانق والتمييز في سوريا البعثية.
في جرمانا، تنقّلتُ بين بيوت مستأجرة كثيرة، بعضها في حارات نبتت للتو في أراضٍ زراعية ما زالت مثقلة بآثار التراب الرطب، وبعض الكائنات والحشرات التي لم تتكيف بعد مع احتلال البشر الفوضوي للمكان. هناك، سكنت قبواً لا يصله ضوء، حيث لا تأخذ مضخات الماء نفساً من الراحة وهي تلوك الهواء بحثاً عن قطرة ماء تمتصّها من أنابيب سيئة التمديد. في القابون، صعدتُ طوابق عليا من مبانٍ بلا أعمدة ولا قضبان تسليح، حيث تشعر بترنح البناء تحتك من الخطو الثقيل. في الحجر الأسود، كان الجامع في شقة مجاورة ونشازُ المؤذنين يخترق الجدران الرقيقة. في الحجر الأسود يمتزج ماء الشرب بالصرف الصحي، والقمامة تتراكم بين المنازل بكل وداعة. في نهاية مخيم اليرموك، وصلت إلى مكان ينفتح على فراغ تنمو فيه الأنقاض والردميات كجبال. زرتُ مرات عديدة أصدقاء في مساكن العرين والحرس، وفي إحداها، شاهدت شلالاً من الصرف الصحي. قضيتُ بضع ليالٍ في المزة 86، ومثلها في أشرفية صحنايا، تجولتُ وأكلتُ في الطبالة، وضِعتُ في الدويلعة.
رغم كل تلك الغرابة، لم أكن غريباً في تلك المناطق. فقد اعتدتُ بشاعتها من اللحظة الأولى؛ منظر البلوك العاري وكابلات الكهرباء المتدلية وشرايين الصرف الصحي المفتوحة. وعدا عن الفوضى وغياب نظام معماري موحَّد، بلا كود بناء ولا دراسة إنشائية ولا مساحة متروكة للحيز العام؛ فإن ما تشترك فيه تلك العشوائيات أن عناصرها الرئيسية الظاهرة تكاد تقتصر على البلوك والإسمنت، لا التنك والصفيح كبعض العشوائيات الأخرى في العالم. مستطيلات البلوك الإسمنتي بينها، ورماديتهما المصفرَّة، هي ما تعتاده العيون من الأبنية المتراصّة المتسلقة على بعضها بعضاً. وفي الفراغات القليلة التي تتراجع عنها تلك العمارة، وحيث يُتاح للفراغ أن يتموضع، تظهر زُرقة السماء أكثر رمادية. السماء هناك مجرد خلفية لصدأ الأنتينات والساتلايت، وخزانات الماء البلاستيكية الحمراء.
هناك، لا دولة لها مؤسسات بل فوضى مزوّدة -عند الضرورة- بأذرع أمنية. فيها، شهدتُ أول صدام عنيف بين السلطة والناس، حين أخلت قوات حفظ النظام بالقوة سكان منطقة الكبّاس العشوائية لتوسيع الطريق العام. لا تعويضات مالية، لا مساكن بديلة، لا شيء لسكّانٍ مرميين في الشارع يشاهدون الجرافات تهدم الخراب الذي كانوا يسكنونه. حينها، دافع الناس عن بيوتهم البائسة بكل ما أوتوا من قوة، دافعوا عن حقهم في سكن تلك الفوضى، في وجه سلطة لا تراهم إلا عبئاً ثقيلاً يُشوِّه الفراغ. في تلك اللحظة، فهمتُ معنى أن يكون لك بيت، حتى في عشوائية.
حجم الظاهرة: ما هي العشوائية؟
الأدبيات التي حمّلت حزب البعث مسؤولية ظهور العشوائيات، كجزء ممّا وصفته بترييف المدن، صدرت بمعظمها عن أوساط البرجوازية المدينية السورية. إلا أن الوصف لم يكن مُصيباً، ويتضمن بُعداً تمييزياً ضد العشوائيات بوصفها ريفاً أُلحِقَ عنوةً بالمدينة. وفي هذا إساءة واضحة للريف. كما أن ترييف المدينة يُحيل إلى إعطائها فضاءً أو هامشاً زراعياً مُجاوراً لجانبها الحضري. وهذا عكس ما حدث، وهو تمدُّد المناطق السكنية العشوائية بلا ضوابط على المساحات الخضراء والأراضي الصالحة للزراعة داخل المدن الكبيرة وفي محيطها. لم يكن هذا ترييفاً للمدينة، بل تقويضاً للمدينة والريف معاً، وإجهازاً على المساحة الفاصلة بينهما، وتحويلاً لها إلى تجمعات لمُهاجرين فقدوا جذورهم الريفية، ولم يكسبوا من المدن إلا الحدود الدنيا من الخدمات.
العشوائيات في سوريا حديثة نسبياً، ارتبطت بشكل أولي بالقفزات في حجم المدن الكبيرة كدمشق وحلب في النصف الثاني من القرن الماضي، وهي الفترة التي ترافقت مع تضخُّم الدولة السورية ونمو مؤسساتها ووظائفها البيروقراطية، خاصة بعد انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1963 وسيطرته على الحياة السياسية في سوريا.لشرح ظاهرة تضخيم الدولة يرجى مراجعة: نزيه الأيوبي، تضخيم الدولة العربية، المنظمة العربية للترجمة، 2010. ورغم أن الحاضنة الرئيسية لحزب البعث كانت فلاحية ريفية، إلا أن الدولة السورية التي أعاد الحزب بناءها كانت شديدة المركزية، وتركّزَ حضورها الأكبر، عبر مؤسسات القطاع العام والوزارات، في المدن الرئيسية ضمن مراكز المحافظات. المُشغِّلُ الأكبر للزاحفين إلى المدن كانت الأجهزة الأمنية والعسكرية حديثة النشأة، والمُحابية لأبناء الأقليات الريفيين. لذا، بدأت تلك المدن تصبح جاذبة لأبناء الأرياف الباحثين عن فرص العمل والتعلم، لهم ولأولادهم.حنا بطاطو، فلاحو سوريا: أبناءُ وجهائهم الريفيين الأقل شأنًا وسياساتهم، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
لكن جاذبية مؤسسات الدولة المركزية وقطاعها العام للباحثين عن عمل سرعان ما اصطدمت بقدرة المدن الكبيرة على الاستيعاب السكّاني؛ إذ فاق تضخُّم حجم الدولة السورية، في الستينيات والسبعينيات، إمكانية المدن الكبيرة على استيعاب النمو البشري المرافق له. فعدا أن المدن الكبيرة في سوريا لم تكن يوماً مـُحِبَّة للمهاجرين الريفيين بمختلف خلفياتهم الطائفية والعرقية، فقد عاملتهم هذه المرة بما يشبه الحساسية الطبقية عندما أبعدتهم عن مراكزها الحضرية التجارية والسكنية. وهناك، حيث تلتقي المدن وأريافها، تركتهم يتدبرون فوضاهم دون تدخُّل. فقد اشترى المهاجرون قطع أرض صغيرة وبنوا عليها مساكنهم دون دراسة هندسية ولا تخطيط حضري. حاجة الوافدين الفقراء للسكن كانت الدافع المباشر خلف نشوء نُويَّات تلك العشوائيات الأولى في سوريا.
وكان يمكن الإبقاء على تلك الأنوية كمناطق ينتشر فيها بناء غير مُرخَّص لو قامت البلديات بتنظيمها وتخديمها بالبنى التحتية الأساسية الخاصة بالمدن؛ من شوارع عريضة ومساحات عامة، ونقل مشترك، وخدمات صحية وتعليمية، وأيضاً شبكة الكهرباء والصرف الصحي. وهذا كان في الأساس جزءاً طبيعياً مفترضاً من وظائف المدن في التوسع، لكن حزب البعث أعاق قدرة المدن على استيعاب القادمين إليها بالطرق التقليدية، وكبّلَ إمكانياتها في التوسع العمراني والتنظيمي عبر حصر مركزية التخطيط بمؤسسات بيروقراطية تخضع للاشتراطات الأمنية والتوجهات العقائدية المتصلبة. وذلك، بغض نظر كامل عن الحاجات السكانية الحقيقية على الأرض، وبانفصال كلّي عن تصور المدينة وأدوارها السكانية والوظيفية والجمالية، وعن الحق فيها. أي أن تضخُّمَ الدولة، وتكبيل إرادة المدن الحرة، ترافقَ مع فشل ذريع في التخطيط الحضري المركزي.
وكانت الدولة قد انخرطت منذ الستينيات في قطاع الإسكان بشكل مباشر، واستحدثت مؤسسات إنشائية، أبرزها المؤسسة العامة للإسكان، بغرض تنفيذ المساكن الشعبية لذوي الدخل المحدود وبيعها لهم بأقساط ميسرة وأسعار قريبة من التكلفة. ومع الوقت، طرحت الدولة العديد من برامج السكن الاجتماعي، التي تشيدها المؤسسات العامة وتقوم بتخصيصها أو بيعها للمواطنين بطريقة مُيَسَّرة بأقساط شهرية لمدد تصل إلى 25 عاماً. ومع ذلك، فشلت الدولة في سد الحاجة الكبيرة للسكن. وبحسب الأرقام الرسمية المنشورة، فقد بلغت الفجوة السنوية بين الاحتياجات السكنية المطلوبة وبين عدد المساكن المنفذة، أي متوسط العجز السكني السنوي، حوالى 130 ألف مسكن سنوياً، قبل العام 2011. وفي كل الأحوال، لم يتمكَّن السكن الاجتماعي والتعاوني من تحقيق النسب المرسومة لهما في جميع الخطط الخمسية.منذ إطلاق أول برامجه قبل خمسة عقود نفّذ السكن الاجتماعي 77 ألف مسكن فقط، في حين نفّذ السكن التعاوني بحدود 220 ألف مسكن. وبذا، تكون النسبة التقريبية للحصة الكلية لإنتاج السكن الاجتماعي والتعاوني من مجمل عدد المساكن في سوريا بحدود 7.3 بالمئة، باعتبار العدد الإجمالي للمساكن في سوريا بحدود 4 ملايين مسكن بحسب إحصاء العام 2010. انظر: مازن عزي ووجيه حداد، أوراق: هل من دور متبقٍ للسكن الاجتماعي والتعاوني؟، سيريا ريبورت، 29 أيلول 2021. وفي مواجهة هذا الفشل الرسمي في الاستجابة لأزمة السكن، وفي ما يشكل اعترافاً موارباً وغير رسمي بها، اتخذت اللجنة المركزية في حزب البعث قراراً في العام 1982 بتخديم مناطق المخالفات الجماعية ببعض الخدمات الأساسية.
ووسط هذا الفشل في التخطيط المركزي، وما رافقه من ظواهر البيروقراطية والفساد والجمود العقائدي، أنتجت السلطات السورية مجموعة تشريعات قانونية ساهمت في تفاقم الأزمة. ومن تلك القوانين؛ قانون الاستملاك رقم 20 لعام 1974 وتعديله بالمرسوم رقم 20 لعام 1983، والقانون رقم 9 لعام 1974 لتقسيم وعمران المدن، وقانون التوسع العمراني رقم 60 لعام 1979. ومن أهداف تلك القوانين الحدُّ من ظهور العشوائيات وضبط تجارة العقارات.سيريا ريبورت، نشوء العشوائيات في مدينة حلب، 27 حزيران (يونيو) 2023. أتاحت تلك القوانين للجهات العامة الحق باستملاك الأراضي غير المُنظَّمة في محيط المدن وضمن مخططاتها الإدارية، وتقسيمها وتنظيمها لأغراض النفع العام. لكن، سرعان ما تعطَّلَ تنفيذ تلك المشاريع، وبقيت الأراضي مُستملكة لصالح الجهات العامة دون تعويض لأصحابها. هنا، لجأ أصحاب الأراضي المُستملكة لتقسيم أراضيهم وبيعها لمتعهدي بناء يبنون عليها بسرعة أبنية صغيرة عشوائية غير مُرخَّصة. العملية اكتسبت تسارُعاً في الثمانينيات مع ازدياد الطلب على السكن الرخيص، ومع تبخُّر أحلام أصحاب الأراضي المُستملكة بإمكانية الحصول على تعويض عادل.
ترافقت سلسلة التشريعات القانونية التي تعاملت مع تنظيم وتوسع وعمران المدن أيضاً مع جملة من القرارات التي أصدرتها الوحدات الإدارية لتصنيف الأراضي؛ من زراعية إلى صناعية، سكنية وتجارية. وتماشت تلك القرارات مع العملية البطيئة المُضنية لإصدار المخططات التنظيمية العامة والتفصيلية، بموجب توجُّهات التخطيط الإقليمي. وتسببت تلك القرارات بتعيين مناطق واسعة ضمن المدن، وفي محيطها القريب، وتصنيفها زراعية يُمنع البناء عليها. ووسيلة المنع الأفضل للبناء على تلك الأراضي، من منظور السلطات، هي عدم إصدار رخص بناء نظامية فيها رغم الحاجة الماسة لتوفير المساكن والطلب الكبير عليها، ولكن الخوف من استملاكها في المستقبل دفع أصحابها إلى تقسيمها وبيعها لمتعهدي بناء، الذين بنوا عليها تجمعات سكنية عشوائية فوضوية باعوها بدورهم للباحثين عن السكن الرخيص. في حالات أخرى، ظهرت العشوائيات على أراضٍ وقفية، أو على أملاك خاصة غير مفرزة مملوكة على الشيوع.
في جميع الحالات، تسارع نمو العشوائيات بطريقة مذهلة على الأراضي المُستملَكة أو الخاصة المُصنَّفة زراعية يُمنع البناء عليها، أو غيرها. وما كادت تُطِلّ التسعينيات حتى غدت العشوائيات تمثل 30-40 بالمئة من المساكن في سوريا.أياس الدايري، مناطق السكن العشوائي في سورية وربطها مع خصائص الأسرة والسكان، المكتب المركزي للإحصاء،2007. وفي الحالتين أيضاً، ولأنها غير منظمة ولا مقسّمة أصولاً، رفضت المصالح العقارية الاعتراف بوجود هذه المناطق السكنية العملاقة، وظلَّت تعتبرها في سجلاتها مجرد أراضٍ مُستملَكة أو مجرد أراضٍ زراعية يُمنع البناء عليها.قاسم الربداوي، النمو السكاني ومشكلة السكن العشوائي في مدن مراكز المحافظات السورية بين أعوام 1981-2010، مجلة جامعة دمشق المجلد 31 العدد الثالث 2015. وبذلك، غدا حوالى 30-40 بالمئة من المساكن في سوريا غير ملحوظ في السجلات الرسمية العقارية.
اللغة، السلطة، والعشوائيات
قبل العام 2011، كانت العشوائيات قد وصلت إلى حدود اتساعها القصوى في المدينتين الأكبر في سوريا؛ إذ بلغ عددها 22 منطقة عشوائية في مدينة حلب، و18 في مدينة دمشق. أحد التعقيدات التي فرضتها شروط تَشكُّل العشوائيات في المدن السورية الكبرى أنها لم تنمُ فقط على أطرافها، ولم تكن مجرد ضواحٍ بعيدة عن مراكزها. بل تداخلت تلك العشوائيات في كثير من الأحيان مع المناطق المنظمة، حتى غدا وضع الحدود الإدارية، التنظيمية والخدمية، بينها صعباً. إذ أن استخدام مواد البناء ذاتها أتاح للعشوائيات أن تأخذ سمات النسيج العمراني نفسها للمناطق المنظمة، وهذا ما تسرَّبَ بدوره إلى الناس، ذلك أن كلمة عشوائية لم تدخل إلا حديثاً معجم اللغة اليومية للسوريين، بينما في كثير من الحالات كان السكان يصفون تلك المناطق بـ«الشعبية» تلطيفاً لوصف «الفقيرة». وغالباً ما اعتمد ذلك التوصيف على الشكل الخارجي للمنطقة المقصودة، وسط خلط واضح بين المناطق المُنظَّمة الفقيرة سيئة التخديم والعشوائيات المُحاذية لها.
ربما يعود ذلك إلى اللغة الرسمية التي تتعامل مع العشوائيات. اللغة التي صيغت بها القوانين السورية ترفض تسمية العشوائيات إلا بمناطق المُخالفات الجماعية. هذه اللغة الرسمية، والعقل المؤسساتي خلفها، لا يجدان في العشوائيات إلا مناطق تكثر فيها المخالفات الجماعية من دون تحديد طبيعتها، وإن كان المعنى المفهوم من سياقها هو مخالفات البناء. اللغة الرسمية تميل إلى عدم الحديث عن «أبنية غير مُرخَّصة»، وإلى حدّ أقل عن «مناطق غير مُنظَّمة»، مقابل التركيز على وصف تلك المناطق بمناطق مخالفة للمخططات التنظيمية، أو مخالفة لأنظمة ضابطة البناء. وفي كلمة «مخالفة» بُعدٌّ تمييزي مسبق، يُحيلُ إلى ارتكاب فعل مخالف للقانون. وهنا، يُحمَّل هذا الوصف قيمة سلبية للموصوف. أي الانتقال من وصف محايد لظاهرة، إلى وصف تمييزي ضدها يَصِمُها مسبقاً بالخروج على القانون، وبالتالي فإن القاطن فيها، وصاحبها، هما بالضرورة مُخالفان للقانون.
لكن القوانين السورية، المتخمة بالحديث عن مُخالفات البناء، لم تضع تعريفاً واضحاً لها، ما زاد من عمق التعميم السلبي للظاهرة. في الحقيقة لا نعرف كثيراً عن المخالفة، إذ أن القوانين الأربعة المتعاقبة الناظمة لمخالفات البناء وتعليماتها التنفيذية، وبدلاً من تعريف مخالفة البناء بحد ذاتها، ربطتها بمفهوم آخر وهو مُخالفة ترخيص البناء. ورخصة البناء هي موافقة على البناء تمنحها الوحدة الإدارية لصاحب الأرض، وذلك وفق اللوائح والقوانين المعمول بها. وكل بناء لا يحصل على رخصة، أو يُخالف بعض ما ورد في الرخصة، يُعتبرُ مخالفاً يخضع لأحكام المرسوم 40 لعام 2012 الخاص بمخالفات البناء. إذ عرَّفَ المرسوم رقم 40 مخالفة البناء بأنها تشييد بناء من دون ترخيص، أو القيام بأعمال بناء مخالفة للترخيص الممنوح. المرسوم 40 نص على هدم كثير من أنواع مخالفات البناء؛ ومنها أبنية غير مُرخَّصة أو مخالفة جُزئياً للترخيص. في حين أتاح المرسوم 40 إمكانية تسوية بعض المخالفات ضمن شروط معقدة، تعني ربط مسألة ترخيص تلك الأبنية بلجان هندسية وفنية، وبالتالي الخضوع للفساد والمحسوبيات.
ورغم اسمه، وكل الإحالات إليه بخصوص مُخالفات البناء، إلا أن المرسوم 40 غالباً ما جرى تطبيقه على مخالفات البناء الفردية، أي الأبنية غير المرخصة أو المُخالفة لشروط الترخيص، ضمن المناطق المنظمة. وفي هذا المحل، تستخدم السلطات البلدية تعبير «مكافحة المخالفات» ضمن الحملات الدورية التي تقوم بها لهدم الأبنية غير المُرخَّصة. والمكافحة تشير إلى طريقة معالجة عامة لآفات أو أمراض أو حشرات. وقد درجت البلديات على تحذير الناس من استغلال فترات الأعياد والعطل الرسمية لبناء «المخالفات»، وشجَّعتهم دائماً على التبليغ عن المخالفات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر مواقع الوحدات الإدارية الرسمية في الإنترنت. أي أن السلطات البلدية شجَّعت المواطنين على الوشاية ببعضهم بعضاً إذا ما ارتكبوا مخالفة بناء، من دون الاستناد إلى معايير هندسية واضحة في تحديد المخالفة، بل فقط على «الحدس الأمني الهندسي». وفي هذا تجريم إضافي مسبق للمخالفة والقائمين بها.
من جانب آخر، أجاز المرسوم 40 تسوية المخالفات في مناطق المخالفات الجماعية «العشوائيات» على أن يتم تأهيلها وتسوية أوضاع المُلكيات القائمة عليها، وإدخالها في المخطط التنظيمي بعد استيفاء الرسوم. لكن، على أرض الواقع، نادراً ما تمَّ استخدام المرسوم 40 في التعامل مع العشوائيات، التي خصّتها السلطات السورية بقوانين التخطيط والتنظيم والتطوير العمراني والاستثمار المتعاقبة. وهذه الحزمة من القوانين، والتي شهدت توسعاً بعد العام 2011، استهدفت إعادة تنظيم العشوائيات، خاصة تلك التي تأثرت بمجريات الصراع والحرب. وفعلياً، أعلنت السلطات السورية بهذه الحزمة من القوانين الحربَ على بعض العشوائيات، استكمالاً للحرب ضد بعض المجتمعات السورية.
العشوائيات، الحرب، والتنظيم
بعد العام 2011 احتضنت بعض العشوائيات في المدن الكبيرة جزءاً وازناً من الاحتجاجات الشعبية. ويعود ذلك نسبياً إلى التهميش الكبير الذي عاشته تلك العشوائيات، وإلى سوء أوضاع سكانها والتمييز الطبقي الممارس ضدهم. كما شكلت الساحات المعترضة على النظام في بعض العشوائيات متنفساً لأهالي المدن، العاجزين عن التجمع والاحتجاج في الميادين العامة وساحات المدن بسبب مصادرة السلطات الأمنية والعسكرية للفضاء العام. مع الوقت، بدأت بعض العشوائيات بتشكيل مناطق متمردة على النظام قادرة على تأمين وحماية سكانها نسبياً. إذ استعصت تلك العشوائيات على الأجهزة الأمنية والعسكرية بسبب طبيعتها العمرانية الفوضوية، وسهولة إغلاق شوارعها الضيقة بالمتاريس، وتشكيل بؤر أولى للاستعصاء الأهلي المُسلَّح. لكن، مع مرور الوقت، واستخدام النظام للأسلحة الثقيلة، تحولت تلك العشوائيات إلى مناطق محاصرة، يحتمي سكانها بخرائبهم من القصف الجوي والمدفعي وسياسات التجويع والحصار. ورغم المحاولات البائسة لكسر الحصار والتقدم نحو مراكز المدن، التي حاولتها فصائل المعارضة المسلحة، إلا أن قوات النظام تمكَّنت من تطوير استراتيجيات لعزل تلك العشوائيات، وقصفها بلا رحمة بغرض إلحاق أكبر دمار ممكن فيها. السلطات السورية شنّت حرباً عسكرية مدمرة ضد أكبر عشوائيات المدن السورية، ولم تكترث لحقوق الناس فيها بالحياة، وأيضاً بالسكن والمُلكية. لذا، فقد وفَّرَت ظروف الحرب للسلطة فرصة للتخلص من بعض أكبر العشوائيات وسكانها الفقراء، عبر تدميرها على أوسع نطاق.
بالمقابل، ازداد البناء خلال فترة الحرب في العشوائيات التي اتخذ أبناؤها مواقف موالية للنظام، أو محايدة تجاه الصراع، غالباً لأسباب طائفية. إذ توسعت تلك العشوائيات، وازداد عدد سكانها، في ظل غض نظر البلديات عن المخالفات، الأمر الذي اعتُبر بمثابة مكافأة للسكان على ولائهم.مازن عزي، على تخوم دمشق: الهندسة الاجتماعية بين العاصمة ومحيطها، تقرير مشروع بحثي، (فلورنسا، إيطاليا: مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا، معهد الجامعة الأوروبية)، 1 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021. ومن ذلك، عشوائيات عش الورور والمزة والدويلعة في دمشق، وجرمانا في ريف دمشق.
حلب الشرقية، وفيها أكبر عشوائيات حلب وأكثفها سكاناً، كانت من أكبر الفضاءات المدينية التي تمكَّنت المعارضة من السيطرة عليها بين العامين 2012-2016، والتي تعرّضت إثر ذلك لأعنف حملات القصف الجوي والمدفعي وعمليات الاقتحام العسكري المتواصلة. في نهاية العام 2016، وبعد تدخُّل فاعل من القوات الروسية والإيرانية، استسلمت المعارضة في حلب الشرقية، وخضعت لتهجير قسري إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال الغربي من سوريا. الدمار الذي لحق بحلب الشرقية كان واسع النطاق، وأشارت تقديرات السلطات البلدية في حلب نهاية العام 2022 إلى وجود أكثر من 1500 مبنى آيل للسقوط فيها. الأمر ذاته تكرَّرَ في أحياء القابون وتشرين وجوبر، مخيم اليرموك والتضامن في العاصمة دمشق، والحجر الأسود في ريفها. عشوائيات دمشق تعرَّضت لقصف بمختلف أنواع الأسلحة، حتى في أوقات الهدن العسكرية. كما تعرضت لحملات هدم واسعة النطاق بعد استسلام المعارضة والتهجير القسري لجميع سكانها.هيومن رايتس ووتش، التسوية بالأرض: عمليات الهدم غير المشروع لأحياء سكنية في سوريا في 2012-2013، 30 كانون الثاني (يناير) 2014. وأيضاً: هيومن رايتس ووتش، سوريا: السكان ممنوعون من العودة الحكومة تهدم المنازل وتنقض حقوق الملكية، 16 تشرين الأول (نوفمبر) 2018. وفي حين استولت ميليشيات موالية على أحياء حلب الشرقية، وسمحت لعناصرها بالعودة إليها والسكن فيها، فإن عشوائيات دمشق وريفها ظلت ممنوعة على النازحين عنها الراغبين في العودة إليها، حتى مدة قريبة. في كل الحالات، العودة دوماً مقرونة بالحصول على موافقات أمنية مسبقة، ما يعني حصرها بشريحة السكان الموالين سياسياً أو الذين ليس لديهم قطيعة تامة مع النظام. أيضاً، بدأت هذه المناطق كلُّها تباعاً بالخضوع لدراسات تنظيمية جديدة، تستهدف إعادة تنظيمها في المستقبل إذا ما توافرت الإمكانات المالية لدى السلطات البلدية المشرفة عليها.
وحين لم تكن نتائج الحرب كافية، بدأت السلطات السورية مشاريع لتنظيم العشوائيات بالقوانين. وبالفعل، صدرت حزمة واسعة من قوانين التخطيط والتنظيم والتطوير العمراني والاستثمار العقاري، التي استكملت الحرب العسكرية ضد العشوائيات. وأبرزها، المرسوم 66 لعام 2012 الذي حدد منطقتين لتنفيذه ضمن العاصمة دمشق، واللتين ستُعرفان لاحقاً باسمَي مشاريع مدينتي ماروتا التي تشمل عشوائيات في كفرسوسة والمزة، ومدينة باسيليا التي تشمل عشوائيات في المزة وكفرسوسة وقنوات بساتين وداريا والقدم. ولإقامة هذين المشروعين-المدينتين، تم إخلاء السكان من تلك العشوائيات دون تعويضهم أو تأمينهم ببدائل مباشرة، وبدأت أعمال البناء في بعض أجزائها منذ العام 2012، لكن لا يبدو أنها ستنتهي في أي مدى منظور.محمود اللبابيدي، رجال أعمال دمشق: أشباح ماروتا سيتي، تقرير مشروع بحثي، (فلورنسا، إيطاليا: مشروع زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا، معهد الجامعة الأوروبية)، 16 نيسان (أبريل) 2019.
بعد ذلك، صدر قانون تخطيط وعمران المدن رقم 23 لعام 2015، بهدف التخلُّص من مناطق المخالفات المتواجدة ضمن المخطط التنظيمي وإدخالها في مناطق التنظيم، وكذلك إعادة تأهيل المناطق التي شهدت كوارث أو حروباً، أو تنفيذ المخطط التنظيمي عن طريق الاستملاك، أو إقامة مناطق سكنية بحسب قانون التطوير والاستثمار العقاري. طُبِّق القانون 23 على منطقة القابون السكنية التي صدر مخططها التنظيمي التفصيلي رقم 105 الصادر في حزيران 2020.
في العام 2018، صدر القانون رقم 10 الإشكالي، القاضي بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، وتعديله اللاحق بالقانون رقم 42 لعام 2018. القانون رقم 10 فعلياً هو مجرد تعميم للمرسوم 66 لعام 2012 بغرض تطبيقه على أي منطقة، وإتاحة مدة أطول للاعتراض على نتائج عمل اللجان فيه. وكتطبيق عملي عليه في دمشق، صدر المرسوم 237 في 14 أيلول (سبتمبر)2021، الخاص بإحداث منطقة تنظيم مدخل دمشق الشمالي المخصصة لتنظيم منطقة القابون الصناعية.
تلك القوانين الثلاثة، اعتبرت كامل الأملاك الداخلة في المناطق التنظيمية ملكاً شائعاً مشتركاً بين «أصحاب الحقوق فيها» بحصص تعادل القيمة المقدرة لملكية كل منهم أو الحق العيني الذي يملكه. المرسوم 66 والقانون 10 سمحا للوحدة الإدارية بالاقتطاع المجاني إلى حدّ 80 بالمئة لكل واحد متر مربع من الأرض، بينما أجاز القانون 23 للوحدة الإدارية الاقتطاع المجاني بنسبة تصل إلى 50 بالمئة من مساحة العقار عند دخوله في التنظيم. القوانين 23 و66 و10 استهدفت العشوائيات المتضررة بالحرب لإعادة إعمارها، وأعطت المستحقين من سكانها أسهماً تنظيمية في المقاسم الجديدة المعدة للبناء ليقوموا ببنائها على حسابهم الخاص. وإذ لم يكترث القانون 23 لتأمين سكن بديل لشاغلي العقارات في العشوائيات، فإن المرسوم 66 والقانون 10 وضعا شروطاً كثيرة لحصول شاغلي العقارات في منطقة التنظيم على سكن بديل غير مجاني ضمن برامج السكن الاجتماعي.
في كل الأحوال، المستحقون للأسهم التنظيمية، بموجب القوانين السابقة، هم فقط أصحاب العقارات المرخصة المسجلة في المصالح العقارية، القادرون على إبراز وثائق ملكية نظامية بعقاراتهم. بموجب المرسوم 66 والقانون 10، يحصل من بنوا منازلهم على أملاك عامة أو على أراضيهم المستملكة على تعويض بدل إيجار لمدة عامين فقط، ويمكن أن يحصلوا على سكن بديل غير مجاني إن توفَّرَ فائض لدى الوحدة الإدارية. ومن كانوا يملكون أرضاً زراعية وبنوا عليها عقاراً سكنياً أو تجارياً، لهم بدل إيجار سنوي إلى حين تسليمهم السكن البديل، أما من كانوا يملكون أرضاً زراعية فيحصلون فقط على تعويض مالي.
وكخُلاصة، يمكن القول إن حزمة القوانين الخاصة بتنظيم العشوائيات تهدف بشكل مباشر إلى تجريد سكان المناطق العشوائية من حقوقهم في السكن والأرض والملكية، وتحويلهم من ساكنين وقاطنين ومالكين لعقاراتهم إلى أصحاب أسهم تنظيمية ومُستحقي سكن بديل ومُستحقي بدل إيجار. وقد يقبع أصحاب تلك الخانات الثلاث سنوات طويلة، وربما عقوداً، قبل تحصيل وَرَثتهم أعشاراً من حقوقهم. وهذا ليس ضرباً في المندل، بل هو استنتاجٌ قائمٌ على مراقبة وثيقة لأداء مؤسسات الدولة السورية، وأداء الشركات الإنشائية في القطاع العام وقدرتها على الإنجاز.
دفاعاً عن العشوائيات
الدولة السورية عبر قوانينها هي صانع العشوائيات الأول. قد تبدو هذه مُصادرة ينتهي من بعدها النقاش. لكن القانون هو من يرفض تعريف مخالفة البناء، ويصر على إسنادها إلى إجراء إداري-تقني آخر هو رخصة البناء. وبالتالي، فالمخالفة قد تكون تجاوزاً لشروط ضابطة البناء أو المخطط التنظيمي، أو لشروط الترخيص، أو لشروط الملكية، أو بيانات السجلات العقارية، أو لمعايير تقنية محلية تضعها الوحدات الإدارية. ولذا، نحن أمام احتمالات كثيرة لإمكانية حدوث المخالفة، أو فعلياً، لإمكانية حدوث تجاوزٍ يمكن للقوانين تصنيفه كمخالفة.
كثيرٌ من تلك المخالفات لا يمس بالسلامة الإنشائية، لكنه ينتمي إلى الحيز الجمالي التنظيمي. والمدينة يفترض أن تكون جميلة ومُنظَّمة، ويفترض أن تطالب السلطات أصحاب المخالفات بتعديلها، إن أمكن، أو أن تغرّمهم. لكن، أن ترفض السلطات وجود أحياء بكاملها، وتمنع تسجيلها كأملاك لأصحابها ومساكن لشاغليها في المصالح العقارية بذريعة أنها مخالفة، فهو أمر ضد الحق في الملكية والسكن. أصحاب تلك الأبنية والمساكن، لم يسرقوها، ولم تهبط عليهم من السماء، بل بنوها أو اشتروها، ووضعوا فيها وعلى إكسائها عملاً له قيمة تبادلية واستعمالية بحسب العرف الماركسي. قد لا يكون في تلك المساكن كثير من فائض القيمة، لكن فيها قيمة حقيقية تساوي الجهد الإنساني الذي بناها، وثمن مواد البناء، وفي كثير من الحالات قيمة الأرض المبينة عليها. حصيلة هذا العمل الإنساني لأجيال أثمرت هذا الشكل من البناء ذي التنظيم الذاتي المُتهرّب من عباءة السلطة، والمشوّه بتعقيداتها ومحظوراتها، لكن ذلك لا يجعل منه إثماً ولا يُؤثم فاعله. من يجب تأثيمه في هذه الحالة هي السلطات التي رفضت بقوانينها الجائرة، غير الإنسانية، الاعتراف بالعشوائيات وسُكّانها.
وفي هذا الهامش من الصدام بين القانون والسلطة من جهة والناس وحقهم في السكن من جهة أخرى، نمت العشوائيات وتضخمت، حتى غدت مُدناً موازية ومتداخلة بالمدن السورية. بالانتقال بين المناطق المنظمة والعشوائية ضمن مدينة واحدة تنفتحُ آفاق جديدة وتتوسع؛ ثقافية وطبقية وطائفية وإثنية. العشوائيات بهذا المعنى هي أبعاد إضافية في الزمان والمكان للمدينة السورية العادية، هي صورة لإعادة تَشكُّل المجتمعات السورية الريفية على هامش المدن في غفلة من السلطة وقوانينها المانعة. وهي في الوقت ذاته تَسرُّبٌ لبعض طبائع ووظائف المدينة إلى تلك المجتمعات. وبهذا، فالعشوائية إن كانت ابنة الصِدام بين القانون والحق في السكن، فهي أيضاً المكان الذي تمكَّنت فيه شرائح من المهاجرين السوريين الفقراء من الاندماج بالمدينة، أو النفور منها ومن بعضها بعضاً.
في النهاية، قيل الكثير في الحق بالمدينة، ونُظِّرَ عنها كثيراً وطُرحت فرضيات كثيرة حولها وحول معنى التشكُّل في فضاءات اجتماعية سياسية وعمرانية ضمنها. وما يقال عن المدن، يسري على العشوائيات. فهي جزء طبيعي من المدن السورية، وجزء أصيل منها مهما طاوله من تَشوُّه. الحق في العشوائية بالنسبة لسكانها هو الحق في مسكنٍ أكثرَ سلامة إنشائية، وفي أحياء أفضلَ تخديماً وإدارة، في مناطق تنتخب هيئاتها وتُقرِّر الأفضل لسكانها. أي أنه الحقّ في «عشوائيات» أكثر إنسانية لا يعيش ناسها تحت وطأة التهديد بالطرد منها، بذريعة تنظيمها. بالإنكليزية ثمة كلمة واحدة للوطن والبيت هي home. هذا ما فهمته حين أخبرني مرة أحد سكان مخيم اليرموك، ونحن نتمشى بالقرب من ساحة بوتسدام في منفاه البرليني، بأن أمنيته الوحيدة المتبقية أن يعود ليعيش في بيته وبين دروب حارته القديمة المغبرة في المخيم. وحين مازحته بالقول «ألا ترى كل هذا الجمال أمامك؟»، قال «لا شك أنه جميل جداً، لكنه ليس الوطن!». حال ذلك الصديق كحال كثيرين ممن تعني لهم العشوائية أكثر بكثير من مجرد منطقة سيئة البناء والتخديم. بالنسبة لأولئك، هذه العشوائية هي بيتهم، بكل مرارته وحلاوته.