بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتراجع الذي حلّ بدور روسيا العالمي، انبعثت «الفكرة الروسية» كعقيدةٍ حلّت محل الشيوعية، وترافقت مع صعود فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة، من خارج الـ«بوليتبيرو» Politburo الحاكم، عبر رافعة الحرب الشيشانية، وتفجيرات موسكو في العام 1999. و«الفكرة الروسية» هي مُنتَج اليمين الروسي المتطرف، الذي يسعى لاستعادة دور روسيا العالمي، وتشارك في صناعته الكنيسة الأرثودوكسية عبر إضافة سمة القداسة إلى مهمة روسيا، كروما الثالثة، في حين يضيف اليمين، كلاً من «فوبيا الغرب» و«نظرية المؤامرة». حينها يتحد الإيمان الأرثودوكسي مع الوطنية الروسية اليمينة الصاعدة، في مركبٍ عقائديٍ جديد: «يوراسيا الجديدة»، الذي يرى أن لروسيا دوراً أكثر أهمية في آسيا منه في أوروبا.
والتر لاكوير، يذهب في كتابه Putinism، إلى أن كثرة استخدام مصطلح «Geopolitics» لدى منظري روسيا البوتينية اليوم، هو لتضمين حقوقٍ إلهية أو طبيعية معطاة، ومهماتٍ تاريخية لروسيا، بالاشتقاق من موقعها الجغرافي
وتتضمن الجيوسياسة الروسية، نقلَ الخطوط الدفاعية من الحدود الروسية، إلى مناطق أبعد، والتسبب بعدم استقرار يخفّض النفوذ الإقليمي فيها، ويُصعد التوتر مع الدول العظمى، خاصة في الشرق الأوسط. كما تهدف الجيوسياسة الروسية إلى تقويض الوحدة الأوروبية-الأطلسية، وتفكيك الاتحاد الأوروبي، وفرض مقايضة النفوذ الروسي بالاعتراف الغربي بمناطق المصالح الروسية ما بعد السوفيتية.
ويذهب ألكسندر دوغين، إلى أن الصراع في سوريا هو على القوة الجيوسياسية، كما كان عليه الحال دائماً، بين القوة البرية ممثلة بروسيا، والقوة البحرية ممثلة بالأطلسيين. فسوريا تقعُ في مركز المعركة بين ممثلي النظام العالمي ذي القطب الواحد، وذلك متعدد الأقطاب. كما أن انهيار سوريا هو مقدمةٌ لانهيار الدول المسلمة في المنطقة، ووصول ملايين اللاجئين إلى أوروبا، ما سيتسبب في زعزعة استقرارها وإحداث شللٍ سياسيٍ شاملٍ فيها. دوغين يرى أن روسيا تحارب في سوريا دفاعاً عن المصالح الأوروبية، ويرى في «الدولة الاسلامية» تهديداً مباشراً للاتحاد الروسي، بوصفها منتجاً أميركياً، صُمم لخلق الفوضى وتزويد واشنطن بأسباب تخدم تدخلها العسكري في أي لحظة.
«الجيوسياسة» الروسية تسعى لمدّ الصراع في الشرق الأوسط، بين السنة والشيعة، بعوامل تأجيج، تُبقي إمكانية اندلاع حربٍ كبرى، قاب قوسين أو أدنى. وهي تسعى من خلال تحالفها مع إيران والنظام السوري، إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط، وفق الفالق السني الشيعي.
ما يذهب إليه دوغين والجيوسياسيون الأوراسيون، يبدو مختلفاً عن نظرة الخبراء الروس. مثلاً المحلل السياسي الروسي، فيودور لوكيانوف، يرى أن القيادة الروسية لا تعتقد بأن سوريا مازالت موجودة. لذا فهو يرى النجاح في عمليةٍ واقعية تقيم «إسرائيل علوية» في الساحل السوري، تدافع عن نفسها، عن طريق الدعم الخارجي. وباستعراض أنواع الأسلحة، نجد أن روسيا استقدمت طائرات «Su-25» وحوامات «Mi-24»، والهدف الرئيس منهما تأمين دعمٍ جويٍ لصيقٍ للقوات البرية في عملياتها ضد قوات المعارضة. في حين أن طائرات «SU-34» تهدف لحماية أجواء المنطقة الساحلية، التي سرعان ما أضيف لها منظومة صواريخ «S-400»، كما تحركت قطع من أسطول البحر الأسود الروسي إلى شرق المتوسط، وجلبت معها منظومات أسلحة لا علاقة لها بقتال المعارضة ولا «الدولة الإسلامية»، بل تهدف إلى خلق «No fly zone» (منطقة حظر جوّي) فوق مناطق النظام. الأمر يحمل استجابةً روسيةً لدرس الحرب في البوسنة، بعدما شنّت الولايات المتحدة في العام 1996 حملةً جويةً أجبرت صرب البوسنة، وبلغراد وموسكو، على القبول بتوقيع اتفاق «دايتون» للسلام.
النتائج السلبية المحتملة لانهيار الأنظمة، بحسب الخبراء الروس، تدفع موسكو لتخفيفها عبر إدارة علاقات متنوعة وجيدة مع اللاعبين الإقليميين المتحاربين، والبحث عن فرصٍ جديدة يُتيحها النزاع الإقليمي. أي أن عمل الخبراء والمستشرقين الروس، صارَ محاولة اقتناص الفرص من الفوضى التي ينشرها الجيوسياسيون. وموسكو لا تتردد في استخدام أدوارٍ متعاكسة، لكن براغماتية، لتحقيق أهدافها. وبات ذلك يظهر كنزاع بين الخبراء والمسؤولين الروس، ففي حين، يحاول الخبراء ضبط العمل وفق إيقاعٍ براغماتي، يبدو المسؤولون الروس أكثر تشبعاً بالعقيدة الأوراسية.
يميل الخطاب الروسي، الرسمي، إلى تجنب الدخول في مزالق اليمين المتطرف وحذلقاته، لذا يبدو تدخلها في سوريا، بحسب فيتالي نومكين، الخبير والمستشرق ومستشار المبعوث الدولي إلى سوريا، على أنه لوضع حدّ لنمو التنظيمات الجهادية التي تشكل خطراً عظيماً على الدولة-الأمة. نومكين يُقلل من مساحة الأرض التي تسيطر عليها المعارضة السورية، ويُقدرها بـ 5 في المئة من مساحة سوريا، في حين تسيطر «داعش» على 50 في المئة، والتدخل العسكري الروسي في سوريا يأتي في سياق الصراع مع الجهاديين.
كما أن روسيا لا تترك مناسبةً، إلا وتقحم فيها تقديرها للاستقرار، ورفض تغيير الأنظمة الموجّه غربياً كاستراتيجية. بل أنها تعلي من قيمة الحوار الداخلي، من دون التدخلات الخارجية، لحل النزاعات ضمن الحدود الوطنية. روسيا تبدو في مقاربتها الرسمية الخطابية للشأن السوري، حاملةَ عهدة اتفاقية وستفاليا، وتقدير سيادة الدول-الأمة. خوف موسكو من التغيير الخارجي، دفعها إلى تغذية «نظرية المؤامرة» بكثيرٍ من الأغاليط، وتصنيف ثورات الربيع العربي، وقبلها الثورات الملونة في بعض دول الاتحاد السوفييتي السابقة، في خانة المؤامرات الأميركية. خوف موسكو من قوى التغيير الناعم، وحراك المجتمع المدني، دفعها لانتهاج طرق التغيير الخشن، عبر دعم الحركات الانفصالية في أوكرانيا، ومليشيات شيعية في سوريا.
أفعال روسيا في سوريا، تبدو مناقضةً للكليشيات الرسمية، ويبرز هنا تناقضٌ جديد، ففي التكتيك تسعى روسيا إلى تشجيع الأجسام غير الوستفالية، من جماعات وفصائل مسلحة ومليشيات، على التورط في حروب استنزاف طويلة المدى، تتخلص من الحدود القائمة ومن سيادة الدولة، دفاعاً عن أغراض موسكو في مكافحة التمرد. وروسيا تسعى لتطبيق نموذج الحرب غير الخطية في سوريا؛ وفق تنظير الأوراسي في قسم الدراسات الشرقية في معهد العلاقات الدولية في موسكو فلاديسلاف سوركوف (يكتب باسم مستعار). والحرب غير الخطية هي خلق «حرب بدائية» بين أمتين أو ضمن تحالف واحد من المتقاتلين، حرب الجميع ضد الجميع. والحرب غير الخطية في سوريا، بحسب دراسة عن FPRI تتضمن عدم السعي لاستعادة كامل سوريا، بل تحقيق نتيجتين متوائمتين: تأمين الجيب العلوي في سوريا، كما حدث في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ويمكن التحكم بها عبر اعتمادها الدائم على الرعاية الروسية. ومن جهة أخرى، البحث عن قاديروف سوري بين القبائل الكردية لتأمين الحدود التركية السورية، عبر توحيد الجيوب الكردية الثلاثة في الحسكة وعين العرب وعفرين، وهي كانتونات غير متصلة جغرافياً.
والتكتيك الروسي يُفضّل العمل مع مجموعات مختلفة غير متناسقة، أكثر من السعي إلى تشكيل تكتل عسكري واحد قوي. واتضح الأمر في سوريا مع عدم حلّ ميليشيا «الدفاع الوطني» ودمجها في قوات النظام، كما تسربت الأنباء في البداية، الأمر الذي يتناقض مع الرؤية الاستراتيجية الروسية في المحافظة على مؤسسات الدولة السورية. وإذا كان الحفاظ على استقلالية «الدفاع الوطني» هو استجابة للرغبة الإيرانية، فإن السعي الروسي الحالي لإنشاء كتائب «مغاوير»، في معظم فرق الجيش السوري، يندرج في سياق تفضيل العمل مع جماعات مختلفة ضمن الحلف الواحد، ورفع درجة عدم مركزة السلطة إلى حدودها الأعلى، بما يتوافق مع مبادئ الحرب غير الخطية. كما تسعى موسكو إلى استغلال الشقاقات بين الإسلاميين المحاربين للنظام، وتوسيع الفروق بينهم، والاستثمار في اقتتالهم الداخلي، كما يحدث حالياً في غوطة دمشق، التي بدأ التصدع بين فصائلها بعد زيارة وفد روسي إلى الفصيل الأقوى، «جيش الإسلام»، قبل أربع شهور، وسط حديثٍ عن إمكانية عقده لهدنةٍ مع النظام.
في هذا السياق، ساهمت موسكو في تأمين «ممر أخضر» سمح للجهاديين من روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابقة، بالهجرة الجهادية إلى سوريا، حتى بلغ عددهم التقريبي 7000 مقاتل، معظمهم يقاتلون في صفوف «الدولة الإسلامية». تقارير عديدة، ومنها ما نشرته جريدة «غازيتا» الروسية، أشارت إلى تورط جهاز FSB وريث الـ KGB، في التحكم بهجرة الجهاديين.
من جهةٍ أخرى، بدا بوتين حريصاً، قبل تدخله العسكري، على الدفع باتجاه إقامة تحالف جديد ضد الإرهاب، يجمع موسكو مع طهران ودمشق، و«حزب الله» اللبناني. وهو ما تحقق عملياً، بإضافة مليشيات «وحدات حماية الشعب» الكردية و«الحرس الثوري» الإيراني، وعشرات المليشيات الشيعية العراقية والأفغانية. الاستعانة بأجسام غير وستفالية، لمواجهة تنظيمات غير وستفالية، سبق إمدادها بعناصر بشرية من قبل موسكو، هو أحد وجوه الحرب غير الخطية، التي تخوضها روسيا في سوريا، وهو كفيلٌ بنقض ادعاء الدفاع عن «السيادة».
الكرملين يرى التدخل الروسي في سوريا شرعياً، لأنه جاء بطلبٍ من الحكومة السورية الشرعية، ورئيس الجمهورية المنتخب ديموقراطياً، في حين أن «التحالف الدولي» هو غير شرعي، ينتهك السيادة السورية، لأن سوريا لم تُجِز الضربات على أراضيها. وعلى الرغم من قراري الأمم المتحدة، 2170 و2249 اللذان أجازا للغرب ضرب «الدولة الإسلامية»، إلا أن الإطار القانوني الذي يتذرع به الروس هو أكثر إحكاماً. في 30 أيلول/سبتمبر فوّض البرلمان الروسي الحكومة بتزويد الدعم الجوي لقوات النظام السوري في عملياتها ضد «الدولة الإسلامية»، ما منح روسيا إطاراً قانونياً تحتاجه، وسرعان ما أضافت موسكو زيارة الأسد لها، في 20 تشرين أول 2015، إلى رصيدها القانوني، وما تبع هذه الزيارة من تسريب للاتفاقية العسكرية الروسية السورية، الموقعة في دمشق في آب 2015. اعتمادُ روسيا على «الشرعية القانونية» مصممٌ لمحاكاة «الشرعية الغربية»، وللمساعدة في تجنب الانتقادات لانتهاكاتها المعايير الدولية. وشرعية حكومة الأسد حسب الفهم الروسي مستمدةٌ من القانون الدولي، لا من الشرعية الديموقراطية.
التدخل العسكري المباشر
في تموز 2015، زار الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، موسكو، وعقد لقاءاتٍ مع قادة الكرملين، لتنسيق عملية التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، على وقع الهزائم التي تعرض لها النظام السوري والمليشيات الإيرانية، في ربيع العام 2015، على يد المعارضة السورية. هزائم هددت النظام بالسقوط فعلياً، وخساراته لأكثر من 80 في المئة من الأرض، ومعاناته الشديدة في نقص مقاتليه، التي وصلت إلى حدود الثلثين.
بعد ذلك، تصاعدت شحنات الأسلحة الروسية إلى سوريا، خلال آب وأيلول 2015، وتمت إعادة تجهيز القاعدة العسكرية الروسية البحرية في طرطوس، وإنشاء قاعدة عسكرية جوية في مطار حميميم في جبلة في اللاذقية، وانشاء قواعد صغيرة في حماة وحمص وريف دمشق، ومؤخراً في تدمر. روسيا نقلت إلى سوريا 30 طائرة حربية وحوامة، من خمسة أنواع مختلفة، يمكنها تنفيذ 20-30 غارة يومياً، في مثالٍ عن تحقيق أكبر تأثير سياسي عبر استخدام محدود للقوة.
بوتين أعلن أن التدخل هو لضمان استقرار «الحكومة الشرعية» في دمشق، وتهيئة شروط مسبقة للتفاهم السياسي. لكن الكنيسة الأرثودوكسية، وصفت الدور الروسي في الحرب السورية، بالمقدس، كما أن الجماعة السنية، نظرت للحرب ضد الروس، بوصفها مقدسةً أيضاً. حرب مقدسة من طرفين، لم تمنع بوتين من استخدام كامل عدته، من خليط بين التكتيك والاستراتيجية، بين نظريات الأوراسيين والدعم الأرثودوكسي، وتبريرات المستشرقين.
الدرع الحمائي الذي شكلته منظومات الأسلحة الروسية، أجبرَ طيران «التحالف الدولي» والطيران الإسرائيلي على التنسيق مع روسيا، لفض الاشتباك في الأجواء السورية، وفعلياً التنسيق مع موسكو ودمشق. في 9 تشرين أول أوقفت واشنطن برنامج «تدريب وتسليح المعارضة»، الفاشل، وفي 20 تشرين الأول وقعت موسكو وواشنطن مذكرة تفاهم حول سلامة الأجواء السورية.
وهدف التدخل الروسي العسكري، في 30 أيلول 2015، إلى حماية المصالح العسكرية الروسية في الساحل السوري، وبناء قدرات عسكرية في البحر المتوسط تمنع انهيار النظام، وتأمين معاقله عبر الهجوم على المعارضة المعتدلة، المدعومة من الخليج العربي وتركيا. التقدم العسكري الروسي الإيراني، يستهدف التأكد في الحد الأدنى، من إقامة دويلة تضم الساحل ودمشق، ما سيؤثر على أي عمليةٍ سياسيةٍ لإنهاء الحرب، حيث سيتحكمان في مخرجاتها. ومن الصعب على القيادة الروسية، من موقعها الحالي، عسكرياً واقتصادياً، الحفاظ على النظام، واسترداد كامل الأراضي السورية، ودعم ادعائها بقتال «الدولة الإسلامية». بل تميل القيادة الروسية إلى استدامة الصراع في سوريا والعراق، وفرض نفسها كلاعبٍ رئيسٍ في صراعات الشرق الأوسط، وسلطةٍ لا يمكن تجاوزها في إعادة تشكيله.
كما أن التدخل هدف إلى فرض موجة نزوح سورية جديدة إلى أوروبا، بغرض دفع الاتحاد الأوروبي إلى القبول بالدور الروسي كمخلص له من أزمة اللاجئين، وإقناعه بالشراكة مع النظام السوري، في محاربة الإرهاب.
روسيا أصبحت تحظى بموقعٍ قويٍ داخل النظام، ما مكنها من إملاء رأيها حول العملية السياسية في سوريا، لصالح النظام والتحالف الروسي الإيراني. كما هدفت روسيا إلى زيادة التقارب بين الفصائل المتطرفة والمعتدلة، عبر استهداف المعتدلين، وتدمير خطوط إمدادهم ومخازن أسلحتهم ومقراتهم الرئيسية وغرف عملياتهم، واستهداف قياداتهم وحواضنهم الشعبية. استهداف المعتدلين، دفع إلى تشكيل تحالفات تشمل «جبهة النصرة» في مناطق مختلفة، لمواجهة الهجمات الروسية العنيفة، وانضمت 3 مجموعات من المقاتلين الأجانب ومجموعتان محليتان إلى «جبهة النصرة»، بعد التدخل.
التدخل سرعان ما اصطدم بمحددات الأرض، وأُعيق تقدم قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وفي أول أسبوعين، خسرت قوات النظام 24 دبابة نتيجة استخدام المعارضة المدعومة غربياً لصواريخ مضادة للدروع TOW. نتائج التدخل العسكري تأخرت في الظهور، على الرغم من استهداف روسيا للفصائل المدعومة غربياً بقوة، وتجنب ضرب «الدولة الإسلامية». وزارة الدفاع الأميركية، قالت إن 90 في المئة من الضربات الروسية استهدفت مواقع المعارضة المعتدلة، خلال أول أسبوع من القصف الجوي. السياق ذاته مازال مستمراً حتى الآن، لا بل إن موسكو اختلقت أسماء وهمية لتنظيمات وصفتها بالإرهابية، وادعت قصفها، مثل «طالبان الشام». وتعمم وزارة الدفاع الروسية في الخرائط التي توزعها، أن جميع مناطق المعارضة هي تحت سيطرة «القاعدة» و«الدولة الاسلامية». التضليل لطمس الفروق بين الجماعات الإرهابية والثوار، استخدم لشرعنة حرب النظام على المعارضة، ولخدمة تكتيكات عسكرية غير تمييزية ضد المناطق المأهولة. وسعت موسكو لتقويض شرعية مجموعات المعارضة السورية، عبر تقسيمها إلى إرهابية من جهة، وغير إرهابية يمكن ضمها إلى محادثات التسوية من جهة أخرى، لكنها وضعت جميع فصائل المعارضة المسلحة في الشمال السوري وريف دمشق في خانة الإرهاب.
التدخل الروسي جاء بعد التهدئة في الجبهة الأوكرانية، وازدياد حدة الأزمة الاقتصادية الروسية، نتيجة العقوبات الغربية، وانخفاض أسعار النفط، ما يُرجح أيضاً، أنها جاءت في محاولة لصرف الانتباه عن الأزمة الداخلية. كما أن البعض ذهب إلى أن التدخل جاء بعد تصاعد الحديث عن إمكانية إقامة منطقة حظر طيران، بعد التوافق الأميركي-التركي، في حزيران 2015، على السماح لطيران التحالف الدولي باستخدام قاعدة أنجرليك التركية. في حين أشار البعض إلى أن روسيا، في تدخلها، تريد تذكير العالم بأنها قوة كبرى تدافع عن مصالحها، وأن سوريا ستظل تحت هيمنتها. وفي الوقت الذي يصعب فيه تصديق التضليل الروسي، في محاربة «الدولة الإسلامية»، فإن إرسال القوات الروسية إلى سوريا، وقصف المعارضة من بحر قزوين، يُمثل بحسب جلبير الأشقر، «Gulf moment»، للإمبريالية الروسية، فبوتين، يحاكي وعلى نطاق بسيط، ما فعله الأميركيون في حرب الخليج في العام 1991.
روسيا صعّدت حملتها بعد تفجيرات باريس في 13 تشرين الأول، وعرضت شراكة على فرنسا للقضاء على «داعش» في سوريا، وروجت لفكرة أن التعاون والتنسيق بين روسيا والغرب سيهزم «داعش» ويضع حداً للحرب السورية. وزير الخارجية لافروف أكد في 18 تشرين أول على أن هجمات باريس وإسقاط الطائرة الروسية في سيناء، تجعل من المطالب الغربية برحيل الأسد غير مقبولة كشرطٍ مسبقٍ لتوحيد القوات في الحرب ضد «داعش». وسرعان ما جمدت فرنسا بحثاً سابقاً في المنطقة الآمنة مع تركيا.
في 14 تشرين الثاني، عُقد اجتماع ضمّ ممثلين عن أميركا وروسيا والسعودية وقطر وإيران وتركيا والأمم المتحدة والجامعة العربية، في فيينا، ونتج عنه إنشاء «مجموعة دعم سوريا» المعروفة اختصاراً بـ ISSG، التي وضعت خطوطاً عامة لعملية سلام في سوريا.
في 26 تشرين الثاني أسقطت تركيا طائرة Su-24M روسية عقب انتهاكها للأجواء التركية. بوتين وصف العملية، بـ«طعنة في الظهر»، وما استدعى عقاباً اقتصادياً قاسياً من موسكو لأنقرة. واستخدمت روسيا إسقاط الطائرة كذريعة لمهاجمة تركيا وحلف الأطلسي، ودورهم كعقبة تحول من دون مواجهة «الدولة الإسلامية»، وفي ذات الوقت لنشر منظومة صواريخ «S-400».
المشكلة أن الطيران الروسي، كان قد خرق الأجواء التركية مراراً، وسبق أن أسقط الأتراك طائرة درونز روسية، كإنذار. إلا أن موسكو استمرت في قصف مواقع المعارضة السورية، شمال شرقي اللاذقية، والتي يُمثل التركمان غالبية سكانية فيها. أكثر من 40 ألف تركماني سوري، تركوا أرضهم، في جبل التركمان وغربي حلب، بعد استهداف الطيران الروسي لهم، على مدى أكثر من شهر.
روسيا استمرت في تضليلها، واتباع سياسة الـ«reflexive control» وتسمية فصائل المعارضة هناك، بأنها «الدولة الإسلامية» أو تنظيمات إرهابية. وتتضمن الـ«reflexive control» استخدام التضليل لتحييد أي إدراكٍ مختلفٍ للأحداث، ما يقود الخصوم إلى الاستجابة بطرق تخدم المصالح الروسية. في السياق، استخدمت روسيا تحريضاً إعلامياً غير مسبوق ضد تركيا ووصفها بدعم الإرهاب، فيما يشبه الهستيريا. ما يدفع إلى السؤال عن ماهية العدو الخارجي، الحقيقي والمتخيل، بالنسبة للقيادة الروسية، وكيفية توظيفه في السياق الداخلي الروسي. دوغين كان قد نظّر منذ العام 1997، إلى ضرورة تقسيم تركيا، عبر إثارة النزاعات الداخلية العرقية والدينية فيها، وخاصة ورقتي الأكراد والأرمن، بوصفها أحد أهم الأخطار في وجه أوراسيا.
ورافق حرب روسيا المفتوحة على الأقلية التركمانية شمال شرقي اللاذقية، استفزازٌ آخرٌ لأنقرة، تمثل بدعم روسيا لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي ذراع عسكرية لحزب «الاتحاد الديموقراطي» الجناح السوري من حزب «العمال الكردستاني» عدو تركيا اللدود. دعمُ روسيا العسكري للقوات الكردية، بدأ يتصاعد بعد إسقاط الطائرة، في ردٍّ هو الأعنف على الأتراك، كان قد ترافق مع دعمٍ سياسيٍ عبر افتتاح ممثلية لـ«الاتحاد الديموقراطي» في موسكو، في تشرين الأول.
في كانون أول/ديسمبر توصل مجلس الأمن إلى القرار رقم 2254 الذي وضع أسس العملية السياسية، بالاستناد إلى مخرجات مؤتمر فيينا، مشيداً باجتماع الرياض الذي أوجدَ مظلةً واسعةً للمعارضة، تمخضت عنها «هيئة المفاوضات العليا»، والتي ستصبح هدف موسكو التالي في التشكيك وتقويض الشرعية. وسعت موسكو إلى إدراج «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» الممثلين في «هيئة التفاوض العليا» على قائمة الإرهاب، وسط استثمار سياسي-عسكري روسي في عقدة «جبهة النصرة».
في نهاية كانون الثاني، عُقدت جلسة محادثات جنيف 3، وسرعان ما عُلّقت بعد تصعيد روسي إيراني على حلب. وأمن الطيران الروسي، تغطية جوية لمجموعة فصائل مسلحة، تحت راية «قوات سوريا الديموقراطية» التي تشكل «وحدات الحماية» الكردية رأس حربتها، لمهاجمة مناطق المعارضة شمالي حلب، بهدف قطع كوريدور إعزاز، الذي يصل تركيا بحلب. التقدم اللاحق الذي أحرزته «وحدات الحماية»، بالاستيلاء على مطار منّغ ومدينة تل رفعت، تزامن مع تقدم قوات النظام وحشد المليشيات الشيعية الموالية لها وفك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء شمال غربي حلب. التقاء قوات النظام وميليشيا «وحدات الحماية» على تخوم كانتون عفرين غربي حلب، الذي أعلنه حزب «الاتحاد الديموقراطي» كـ«إدارة ذاتية»، قطع طريق الإمداد نهائياً أمام المعارضة إلى حلب، وحصرها في ريف حلب الشمالي بين ثلاث جبهات: مع النظام في الجنوب، ومع «وحدات الحماية» في الغرب، ومع «الدولة الإسلامية» في الشرق، ما مثل خطراً حقيقياً على المعارضة في مدينة حلب، التي أصبحت محاصرةً بشكل شبه كامل.
وفي 11 شباط عُقِدَ اجتماع ميونخ لمجموعة دعم سوريا ISSG، وأبدت روسيا فيه مرونةً عالية، ما نتج عنه إطلاق «وقف الأعمال العدائية»، مقابل تحييد الكلام عن توصيات «جنيف 1». الفرقُ في اجتماع ميونخ كان بسبب وجود الخبراء الروس لا القيادات فيه، وسرعانَ ما ماطلت القيادة الروسية، وطالبت بتأجيل موعد بدء «وقف الأعمال العدائية» حتى 27 شباط، وتفريغه من محتواه السياسي لصالح إشكالياته التقنية. ووسط حرجٍ أميركي ورضا روسي، مثّل «وقف الأعمال العدائية» فرصةً للنظام وحلفاءه، لالتقاط الأنفاس، وتثبيت الأرباح على الأرض.
أسلوب الصدمة وإخضاع المعارضة الذي اتبعته موسكو، تسبب في انهيار جولة مفاوضات التسوية في كانون الثاني، لكنه كان موجهاً للاستثمار السياسي مباشرةً. فالتصعيد الروسي العسكري، قبيل المفاوضات السياسية، أو خلالها، هو نهجٌ يتبعه الكرملين في أوكرانيا وسوريا على حدٍ سواء، وهو يهدف إلى فرض التفاوض ضمن شروط مقبولةٍ لروسيا. حصار حلب الذي اكتمل تقريباً قبل بدء سريان «وقف الأعمال العدائية»، كان تهديداً بتوجيه ملايين النازحين إلى أوروبا، ما ترك بقية اللاعبين بدون خيارات حقيقية، ودَفَعَهم لقبول شروط موسكو، في إيقاف دعم المعارضة وقطع خطوط إمدادها من تركيا.
روسيا أعلنت أن حلب وإدلب لن تكونا مشمولتين في «وقف الأعمال العدائية» نتيجة وجود «جبهة النصرة» فيهما. واستمرت الضربات الجوية على فصائل المعارضة المختلفة، وسمتها موسكو حيناً «جبهة النصرة» وأحياناً «الدولة الإسلامية».
في 14 آذار، وفي خطوة مفاجئة، أعلن بوتين عن انسحاب جزئي للقوات الروسية من سوريا، بعد اكتمال مهمتها. وزير الدفاع الروسي قال في موجبات الانسحاب: «لقد أخرج الإرهابيون من اللاذقية، وأعيدت الاتصالات مع حلب، وتدمر تحت الحصار والأعمال القتالية مستمرة لتحريرها من الجماعات غير الشرعية». التضليل الروسي كان في أوضح صوره مع كلام الوزير الروسي: الإرهابيون في اللاذقية، وجماعات غير شرعية في تدمر، علماً أن الجيش الحر يتواجد في اللاذقية و«الدولة الإسلامية» في تدمر.
الانسحاب، كما التدخل، يمكن قراءته كمؤشرٍ على الضعف الداخلي الذي تعانيه روسيا، وأنهما كانا مدفوعان بحسابات داخلية، أكثر من الضرورات الاستراتيجية. فالمؤشرات الداخلية الروسية، تؤكد أن حالاً من التردي أصاب دوائر الحكم والإدارة، بحيث أنه بات متعذراً تنفيذ سياسات داخلية استراتيجية، بل صار لازماً حصرها بخطط مرحلية قصيرة، للتجاوب مع الأزمات، وفق مبدأ «إطفاء الحرائق»، مع الاستهلاك الكبير من رأس المال الروسي، من دون تعويض حقيقي، في ظل تراجع أسعار الخام والعقوبات على موسكو. الحرب في سوريا ظهرت في القنوات الإعلامية الروسية، كألعاب الفيديو، ورُوِّجَ لها بأنها لا تكلف شيئاً، بل على العكس، فقد لعبت دور معرض حي للأسلحة الروسية، ما زاد الطلب العالمي عليها.
الانسحاب الجزئي، كان غامضاً، حيث تمّ استثناء القاعدة الروسية في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم، اللتان ستستمران بعملهما المعتاد لحماية الأمن من البحر والجو، بحسب بوتين، الذي لم يذكر وقف الأعمال القتالية الروسية، بل مجرد «سحب جزء رئيس من قواتنا العسكرية، والإبقاء على مجموعة لحماية القواعد الروسية ومراقبة وقف إطلاق النار، والتدخل في خلق الشروط لعملية السلام». انسحاب شكلي تضمّن تبديلاً للقوات، وأتاح لبوتين التراجع قليلاً، ومشاهدة ردود الفعل قبل أن يتخذ قراراً جديداً بمباشرة الأعمال القتالية.
التدخل الروسي، تمكن من تأمين مناطق النظام، وإرباك الغرب، وفرض الشروط الروسية في التسوية. فروسيا دفعت المعارضة بعيداً عن معاقل النظام، ولم تعد تشكل تهديداً حقيقياً عليه. كما أن التدخل ساهم في حصار حلب، وجعلها مختبراً لتحقيق الضغط العسكري الروسي، في حال استعصت السياسة، وهو ما يشبه الفوز نقطة بنقطة، بديلاً عن الضربة القاضية.
التدخل الروسي قتل حتى منتصف شباط 2000 مقاتل من المعارضة من غير «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة»، ومنهم عدد كبير من القادة، بالإضافة إلى 1400 مدني. منظمة «العفو الدولي» اتهمت في 3 أذار/مارس القوات الروسية والسورية، باستخدام استراتيجية في استهداف المشافي والتجهيزات الطبية، لتهيئة الطريق أمام القوات البرية كي تتقدم في حلب. وكانت المنظمة قد اتهمت في 16 شباط/فبراير القوات الروسية والسورية بشن هجمات متعمدة ضد المستشفيات، أحصي منها 336 هجوم، قتل خلالها 697 شخصاً.
انهار «وقف الأعمال العدائية» منذ منتصف نيسان/ابريل، خاصة في حلب، التي نُقلت إليها مدفعية روسية ثقيلة، وقوات إيرانية نظامية من «الفرقة 65»، بشكلٍ متواصل خلال فترة الهدنة. مفاوضات جنيف الموازية، لم تُعلّق على الرغم من انسحاب وفد «الهيئة العليا للتفاوض»، احتجاجاً على التصعيد وعدم تنفيذ الشروط الانسانية، واستبعاد الحديث عن الحكومة الانتقالية. روسيا بدت أكثر من مرتاحة لانسحاب الوفد المعارض، وعملت على ملء جدول الموفد الدولي باجتماعات مع معارضات صديقة لموسكو، كمعارضة حميميم والأستانة وموسكو. الحل الروسي السياسي في سوريا، ما زال بعيداً عن التخيل، في ظل استمرار إمكانية الحلول العسكرية، وقدرة روسيا على المناورة في المساحة السورية الضيقة، أمام ما يبدو انسحاباً أميركياً غربياً، وتلزيماً لروسيا بالحل.
في نهاية نيسان/إبريل، حاولت روسيا وأميركا، اطلاق «نظام الصمت» كبديلٍ عن «وقف الأعمال العدائية» المنهار، وتصعيد القصف على حلب، واستهداف المشافي والبنى التحتية والمدنيين في القسم الواقع تحت سيطرة المعارضة في المدينة المحاصرة. «نظام الصمت» لم يشمل في البداية حلب، بعد تعنتٍ روسي، والتأكيد على أن حلب تقع تحت سيطرة «جبهة النصرة». التضليل الروسي استمر في اجتماعات غُرف «عمليات مجموعات مراقبة الهدنة» في جنيف وعمّان، عبر تحذير الضابط الروسي الكسندر زورين، المنتدب من قبل موسكو في «غرفة عمليات جنيف» بـ«الرد بشكل مناسب»، في ما لو واصلت الفصائل العسكرية التنسيق مع «جبهة النصرة»، واستمرت بالتصعيد وبعدم الالتزام بقرار وقف النار. ادعاءات زورين مضللة أيضاً، فـ«جبهة النصرة» في مدينة حلب ذات حضور ونفوذ ضعيفين، مقابل قوتها في الريف الجنوبي. زورين، حضر الاجتماعات الاخيرة لـ«مجموعة العمل الدولية» بالبزة العسكرية، في مثالٍ جديد على التعاطي الروسي المنتصر للقادة على حساب الخبراء.
وبعد استهداف آخر المشافي والتجهيزات الطبية، في مناطق المعارضة في مدينة حلب، بغارات جوية، ما أوقع مئات القتلى، عاد التضليل الروسي، وأنكرت موسكو تحليق طيرانها في البداية، ثم ادعت أن مشفى القدس هو مدمرٌ من قبل. قصفُ مخيم النازحين في سرمدا في ريف إدلب، كان مثالاً إضافياً للتضليل، عبر ادعاء موسكو أن «جبهة النصرة» هي من استهدفه.
جيوبوليتكس أم علائم انهيار؟
بالنسبة للأوراسي ألكسندر دوغين، الحرب في سوريا هي المرحلة الثالثة من الصراع بين الأوراسيين والأطلسيين، بعد حربي الشيشان وجورجيا، وهي بالتالي قد تكون اللحظة النهائية في انكشاف الصراع مع الغرب. فإذا قبلت روسيا بالدور الأميركي في سوريا وخانت بشار الأسد، سيكون ذلك عصفاً شديداً بهوية روسيا السياسية، وإذا حدث العكس ستكون نهاية الولايات المتحدة كقوةٍ عظمى متفردة. بالنسبة لدوغين، هزيمة روسيا في سوريا، ستتبعها الحرب في إيران والقوقاز، ما يعني أنه يتوجب على بوتين عدم التخلي عن الأسد، وإلا سيكون ذلك انتحاراً جيوسياسياً لروسيا. في سوريا، الحرب لا تقبل حلاً وسطاً أو تفاهماً، بل هي الطريقة الوحيدة لتأكيد الوقائع.
ولكن بالنظر إلى وضع روسيا الحالي، فالنظام فيها بات يشتق شرعيته من العمل العسكري الخارجي، لا من صناديق الاقتراع. والسلطة الروسية باتت مُحتكرةً من قبل نخبة صغيرة، ربطت مصالحها بشخص بوتين، بعدما طالت العقوبات الغربية معظمها، وصَغُرَت كعكة الفوائد القابلة للتقاسم. الاتجاه إلى الحروب الخارجية، يترافق مع تحول بنيوي في النظام نحو الشمولية، بعد إنهاكِ التعددية وإضعاف المؤسسات الديموقراطية، ما بات يفرض تغييراً في سمات السلطة الروسية، ظهرت نتائجه في سيطرة الأوراسيين على مفاصل القرارات، واستبعاد الخبراء والسياسيين.
نيقولاي بيتروف، في دراسة صادرة عن «ECFR»، يقول إن روسيا باتت رهينة النظام، والنظام رهين بوتين، وبوتين رهين أفعاله التي ضاقت بشكل كبير مروحة خياراتها. لكن دوغين رأى في كتابه بوتين ضد بوتين أن عدو بوتين الأخطر هو النخبة السياسية الروسية المحابية للغرب المحيطة به، والتي أسماها بـ«الطابور الخامس». اليوم تكاد تختفي تلك النخبة من السياسيين والخبراء، لصالح الأوراسيين، الذين يتعاظم نفوذهم الداخلي، وميلهم للحروب الخارجية. ولكن، ألم تكن الحروب الكبرى، في الغالب الأعم، نتيجة حتمية لأفعال إمبراطوريات في طور الانحلال.
الأمر يدفع للتفكير، أهي جيوبوليتكس أوراسية التي تطبقها روسيا في سوريا، أم مجرد محاولة أخيرة لاستعراض القوة عن عجز، ما يستلزم الحشد لها والتعبئة، بوصفها «مقدسة» و«نهائية»؟