صباح السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، يوقظني صديقي من النوم وهو يصيح: «حرب يا عمر… طوفان على المستوطنات الإسرائيلية». أبحثُ عن هاتفي، وأقرأ الأخبار: «المقاومة تسيطر على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة في عملية هي الأكبر في تاريخها». ترتعش أعصابي، يشرد ذهني للحظة، يهز صديقي كتفي، أتفحّصُ الفيديوهات المنشورة على مواقع التواصل. لطالما شغلني السؤال عن معنى تسمية غلاف غزة حين تُذكَر المستوطنات التي تحيط بها، لكني الآن أدركتُ معناه: لحظةَ أن تمزَّقَ الغلاف، ووُلدَت مساحة جديدة تحت أقدام أهالي غزة.

يأسرني مشهدٌ قصيرٌ يَظهر فيه الناس وهمُ يعبُرون الحدود ويمشون في مساحة واسعة إلى المستوطنات: الآن يمكن أن يُنظَر لأعداد الغزيين بشكل طبيعي. ليسوا عبئًا على المكان. المساحة الضيقة هي المسؤولة عن مشهد التكدُّس الذي يؤذيهم وليس هم، والاحتلال هو من أعطى تعريفًا للمساحة في مخيلتهم، وها هم يستعيدون معنى جديدًا للمساحة. تُذكِّرُني المَشاهد بجدتي عزيزة: «هيها قريتنا على بعد خطوتين يا ستّي… سهلة». هَجَّرَ الاحتلال جدتي عزيزة عام 1948 مع عائلتها من قرية سمسم شرق قطاع غزة، ودُمِّرَت القرية. حَلمَتْ كثيرًا جدتي بالعودة، لكنها توفيت قبل أن يتحقق ذلك. أنظر إلى أقدام الناس وهم يمشون، وقد بدت لي كأقدام جدتي: لقد تحقَّقَ حُلمها الآن. 

مساء اليوم ذاته، تتكثّفُ العتمة ببطء في المدى أمامي. إنها الساعة التي أترك فيها كل شيء وأهرب مثل طفل صغير إلى أحضان والدتي. الساعة التي يودع فيها الناس في غزة بعضهم بعضاً ويكتبون، بشفافيةِ من يُمسك الموتُ يَدَه، مَرثياتهم على صفحاتهم في مواقع التواصل. تتحرك قدمي، أتلفّتُ، فأتذكر أني بعيد عنها. أتفحّصُ الهاتف: لا إجابة حتى الآن على رسائلي الكثيرة.

الهواء بارد في هذه المنطقة التي تبعد عن غزة مسافة 300 كيلو متر. أُفكّر: كيف تبدَّلَ الحال مرة واحدة؟ وكيف بات للأشياء حولي معانٍ جديدة؟ قبل ساعات من الآن كان الهواء الذي يهبط من بين الجبال مُنعِشًا، لكنه الآن يقرص جلدي. وموسيقى الجاز، التي كانت تحيط المكان بنوع من الطمأنينة، تَحوَّلت إلى لحن جنائزي في أذني. ورائحةُ المكان تبدَّلت إلى بارود خانق. كيف تُغيّرُ الحرب معنى الأشياء من حولنا في لحظة؟

يهتز الهاتف إثر الإشعارات التي لا تتوقف حول آخر الأخبار في غزة، غارات جوية على غزة، فيديوهات عبور الحدود نحو المستوطنات الإسرائيلية، عناوين الأخبار الجديدة التي لم نتصور يوما أن نقرأها.

هذه المرة الأولى التي تندلع فيها الحرب وأنا خارج غزة، وهو شيء لم يتخيله حتى أصدقائي. يُسجّلون في كل مرة يعود فيها الإنترنت والكهرباء فيديوهات ويرسلونها لي. أسمعُ دوي القصف، ارتطامَ البيوت المهدمة، أصواتَ الناس. أشعر أنني أُقلِّلُ بذلك شيئًا من المسافة بيني وبين غزة.

تَردُّ والدتي على الرسائل، أُهاتفها، تخفي كعادتها أي مشاعر قلق. تبتسم في وجهي وتوصيني: «لا تقلق يَمَّا وحاول تنبسط في رحلتك». يرسل صديقي صورًا وفيديوهات من غرفته. تترك الغارات الجوية خلفها جبالًا من دخان. يقول صديقي ساخرًا: «مش إنت بس عندك جبال، هي إحنا كمان عنا جبال». ثم يرسل تسجيلًا آخر بصوت خائف: «والله نفدت بريشك يا رفيقي». أُحدِّقُ في الهاتف وأُعاتب نفسي: «آه لو كنت بعرف إنه رح يصير هيك كان ما طلعت من غزة!».

أكثر ما يؤذي في هذا البعد هو أن لا تكون قادرًا على تَحمُّل ثقل القلق مع عائلتك: الموت الذي يحاصر عينيك، تَسارُع دقات القلب حين تنظر إلى وجوه عائلتك. أن لا تصطبغ حواف عينيك بالسواد مثل عيونهم إثرَ السهر وخشية النوم في الليل. لطالما تمنيتُ في أوقات الحرب على غزة لو أننا لم نولد في هذا المكان، وأتذكر في كل مرة أعيش فيها الحرب عِبارة الشاعر العراقي سعدي يوسف الخالدة في ذهني: 

أهو ذنبكَ أنك يوماً وُلدتَ في تلكَ البلاد؟

ثلاثة أرباع قرن وما زلت تدفع من دمك النزر تلك الضريبة

أنك يوماً وُلدتَ في تلك البلاد

 لكنني اكتشفتُ أني غير قادر على تَحمُّل ثقل مراقبة الحرب من بعيد، وأن فكرة الخلاص الذاتي التي لطالما داهمَتْ رأسي في مثل هذه الأوقات، هي فكرة واهية، وتَحملُ قدرًا كبيرًا من الأنانية.

أُفكِّرُ في طريق العودة إلى غزة. تُحذِّرني والدتي: «يمّا ما بتعرف شو ممكن يصير، بلاش تعلق في الحجز في المطار ولّا في الطريق». لكنَّ هَمَّ مواجهة المصير ذاته الذي تواجهه عائلتي يأكل رأسي؟ أَنظرُ إلى السماء وأَستعيرُ حديث صديقي: أنا لا أريد ريشًا لأهرب من غزة، أريد ريشًا يُعيدني إلى غزة، فأتذكّرُ قولَ سعدي يوسف:

يا مقيمًا هنا!

لا سماءَ لِيَخْفقَ فيها جناحاكَ