خلال الأسابيع الماضية، انتفضَ الناسُ في محافظة السويداء على النظام. المشهد يُذكِّر بثورة العام 2011، ويُحيي الأمل لدى شريحة واسعة من السوريين بإمكانية إحداث تغييرٍ سياسي حقيقي قد يجد بعض الحلول للمسألة السورية. ربما لن تكون الأمور ورديةً إلى هذا الحدّ، لكن قد تتمكّنُ الانتفاضة من إنتاج فعلٍ سياسي ربما يُعيُد تشكيل، أو حتى توحيد سوريا، على أسس جديدة. إذ على عكس موجات الاحتجاجات السابقة التي حدثت في السويداء خلال السنوات اللاحقة على العام 2011، تَظهر بوضوح سمات جديدة في الانتفاضة الراهنة، وتحمل عناصر واقعية وأخرى نظرية تشير إلى إمكانية استمرارها وتحقيقها نتائج عملية على أرض الواقع.

انتفاضة أهلية

على عكس الاحتجاجات المُتكررة السابقة التي جرت بعد العام 2011 في السويداء، تتميز الانتفاضة الراهنة بأهليتها، وبامتدادها إلى شرائح جديدة وواسعة من الناس الذين كانوا على الحياد طيلة السنوات الماضية، إذ لطالما اتَّسمَ الحراك الاحتجاجي في السويداء خلال المرحلة الأولى بين 2011 و2014 بنخبويته وتسيُّسه المعارض ضد النظام. بين العامين 2014 و2020 تراجع النشاط الاحتجاجي، قبل أن يتجدّد في العام 2020 بموجاتٍ أكثر اتساعاً ومطلبيّة، وسط مشاركة شبابية كثيفة فيها. ثم جاءت هبة العام 2022، التي توجهت ضد العصابات بشكلٍ رئيسي، وقادتها فصائل محلية مسلحة. بينما كان اقتحام مقر محافظة السويداء نهاية العام 2022 آخر موجةٍ احتجاجية على سوء الأوضاع المعيشية، وتميَّزَ بمشاركةٍ محدودةٍ من أعضاء فصائل غير مسلحين، وبردٍّ عنيف من قبل النظام.

التوسُّعُ الأهلي في الانتفاضة الراهنة، عدداً ونوعاً، ساهم فيه موقفٌ شديدُ الوضوح اتخذته الرئاسة الروحية للموحدين الدروز عبر شيخ العقل حكمت الهجري، وهو ما أعطى مظلةً رمزيةً للانتفاضة. شيخ العقل الثاني، حمود الحناوي، على الصفحة نفسها مع الشيخ الهجري. مدينة السويداء مركزُ المحافظة تبدو أكثر حيرةً من غيرها، إذ أنها تحت النفوذ الديني لشيخ العقل الثالث، يوسف جربوع، وهو الذي اتَّخَذَ خطوةً إلى الخلف من الحراك. قد لا تكون دوافع الشيخ جربوع المباشرة هي الاعتراض على مطالب الناس المُحقّة بالتغيير، بقدر الخوف من التغيير بحد ذاته. وهنا ربما يجدر إلقاء نظرةٍ أعمق على شكل مشيخة العقل في السويداء.

في السويداء ثلاثةُ شيوخ عقل، كلٌّ منهم له منطقة نفوذ اجتماعية في عملية تَقاسُمٍ تطورّت تاريخياً منذ مطلع القرن الثامن عشر. إذ واكبت المشيخةُ سكنَ الدروز في جبل العرب نهاية القرن السابع عشر، وتطورت تدريجياً مع انتشارهم فيه من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. لذا، فأول ما ظهرت المشيخة كانت في بلدة قنوات عبرَ آل الهجري، ثم في مدينة السويداء عبرَ آل جربوع، ثم في بلدة سهوة بلاطة عبرَ آل الحناوي. في فترةٍ ما نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت مشيخةُ عقلٍ رابعة عبرَ آل أبو فخر، وانتهى دورها قبل الاستقلال. من الواضح أن مشايخ العقل، بالإضافة إلى دورهم الديني، لعبوا أدواراً سياسيةً مختلفةً عبر تاريخهم. ويُعتقَد أن أول انتقالٍ لهم من الحيز الديني إلى السياسي كان تفويضاً مجتمعياً للتفاوض مع العثمانيين، ثم المصريين، فالفرنسيين، وأنظمة الحكم المتعددة في الدولة السورية المعاصرة. عوامل محلية وأخرى خارجية هي التي قادت إلى إضعاف أحدهم، أو تقوية آخر. وكان الصراع مع الزعامات الزمنية، والوجهاء التقليديين الآخرين، من أهم العوامل التي صاغت المشيخة على شكلها الحالي. كما عملت السلطة في دمشق بدورها، منذ الاستقلال، على التدخل في عمل المشيخة وتغذية الانقسامات بينها أحياناً.

اللوحة الحالية واضحة مناطقياً أيضاً. الشيخ الهجري يمثّل الزعامة الدينية لريف السويداء الشمالي، أو ما يسمى بالمقرن الشمالي، والشيخ الحناوي يمثّل المقرن الجنوبي، بينما الشيخ جربوع يمثّل مدينة السويداء. هذا ليس تقسيماً نهائياً بأي شكل، لكنه تقريبيٌّ للتبسيط. إذ إن دار طائفة الموحدين الدروز، ومركزها مدينة السويداء، تضم شيخي العقل جربوع والحناوي. لهذه الدار، المعروفة بدار عين الزمان، وجودٌ في معظم البلدات والقرى، عبر «سيُّاس المجالس»، وهم بمثابة شيوخ الجوامع لدى المسلمين أو الكهنة لدى المسيحيين. عملت هذه الدار على تنظيم نفسها بشكلٍ غير مسبوق منذ العام 2011، ونجحت في التحوُّل إلى مؤسسةٍ أهليةٍ ذات فعالية كبيرة، عبر تقديم الخدمات الإغاثية والطبية والعينية والغذائية، وإدارة النزاعات وحلّ الخلافات لكثير من الناس على امتداد المحافظة.

لدار قنوات التي يرأسها الشيخ الهجري اسمٌ آخر، وهي الرئاسة الروحية للموحدين الدروز. منذ العام 2018 على وجه الخصوص، بدأت دار قنوات بالتحوُّل جدياً إلى مظلة سياسية، ذات موقف دفاعي واضح ضد سياسيات النظام في السويداء. في الهبّة المسلحة التي جرت نهاية العام 2022 ضد عصابة راجي فلحوط، التابعة للأمن العسكري، وقف الشيخ الهجري كدليلٍ وموجٍّهٍ للمنتفضين، وبارك حراكهم، وأعطاه الشرعية الأهلية. كُثُر من المشاركين في تلك الهبّة هم اليوم مشاركون في الانتفاضة الشعبية الراهنة، مسالمين وبلا سلاح. أيضاً، لدار قنوات اليوم مؤيدون في كل قرى وبلدات السويداء، من رجال دين وسيُّاس، وأيضاً من زعاماتٍ أهلية واجتماعية وشبابية.  

كنتيجة، يمكن القول إن المظلة الدينية الأهلية الرسمية للموحدين الدروز تدعم الحراك الراهن في السويداء. الشيخ يوسف جربوع لم يقطع فعلياً مع الحراك، بل اتَّخذ موقفاً أكثر تردُّداً وحذراً. هذا الحذر ليس ضد رغبة الناس ومطالبهم المحقة بالتغيير، بل ربما خشيةً من التغيير ذاته. إذ يسود اعتقادٌ لدى البعض، تُغذِّيه أجهزة أمنية ومسؤولون سوريون، بأن الحراك الراهن يستهدف إضعاف دار عين الزمان لصالح دار قنوات. وهذا يفسّرُ التراجع في موقف الشيخ جربوع، وانتقاله من الموافقة الكاملة أولاً على مطالب الناس المُحقة ودعمها إلى مسايرة سردية النظام بشأن وجود مؤامرة تستهدف الجبل.

المؤامرة هنا ليست وهماً خالصاً، إذ قاد تيارٌ سياسيٌ، يمثله حزب اللواء السوري، خلال السنوات الماضية حملةً إعلاميةً عنيفةً ضد شخص الشيخ جربوع، وأشاع أنباء غير دقيقة عن فسادٍ في دار الطائفة، غالباً لأسباب دعائية. الحزب كان قد دعا خلال السنوات القليلة الماضية، وبشكلٍ غير مباشر، إلى شكلٍ مُخفّف من أشكال الفيدرالية للسويداء، وأسَّسَ ذراعاً عسكريةً أسماها قوة مكافحة الإرهاب. تعرضت هذه القوة لهجومٍ عسكري من قبل ميليشيا الدفاع الوطني وعصابات محلية متعاونة مع الأمن العسكري، منتصف العام 2022، ما تسبب بمقتل قائدها واعتقال العديد من منتسبيها. حزب اللواء يعود اليوم إلى المشهد بعد انكفاء، ويبدو متحمساً لنشر وترجمة أفكاره على الأرض. بالمقابل، اتّخذت دار عين الزمان موقفاً دفاعياً، وسط غياب الحلفاء وزيادة الوشايات والحزازات. وربما هذا ما دفع الشيخ جربوع للاقتناع بما يوصف أمنياً بمؤامرات تُحاك من «انفصاليين» يرغبون بإقامة إدارة ذاتية بدعم خارجي.

استعادة السياسة: سوريا المركزية، اللامركزية، الفيدرالية، أو المُقسَّمة؟

يبدو ملفتاً اليوم، في الانتفاضة الشعبية في السويداء، مقدار السياسة المُتاح أمام الناس. فجأةً ظهر للعلن كل ما كان يعتمل لسنوات في القلوب والأذهان. باح الناس بمكنونات أفكارهم، ومخاوفهم، ورغباتهم. كما بدأوا يجتمعون، ويتحاورون، ويختلفون، ويتنظَّمون، ويُنتجون هيئاتهم وتجمعاتهم وممثليهم. يومياً هناك عشرات اللقاءات السياسية والأهلية على امتداد المحافظة. خلية نحلٍ تتبادل الأفكار والآراء، تتشنّج وتحتقن، تتفاوض وتُصغي. لا تابو على أي موضوع. الحديث انفتح، والصمت صار من الماضي. الناس يتكلمون بكل شفافية في بعض غرف التواصل الاجتماعي الخاصة بقيادة الانتفاضة، والمعروف أنها مخترقةٌ أمنياً، يتحدثون فيها عن مخططاتهم علناً. الناس يُسمّون الأشياء بوضوح، ويستعيدون السياسة من احتكار الأبد لها. تتم استعادة السياسة إذن، بوصفها شأناً يومياً دنيوياً بالغ الأهمية للتنظيم والتجمُّع وصياغة الرؤى عن الشكل الأنسب لإدارة الأحوال المعاشية واليومية. السياسة بمعناها المستقبلي، لا ذلك العائد إلى السبعينيات والثمانينيات بوصفه نضالاً نخبوياً. حينها، كان النضال ضد الديكتاتورية مقترناً بشعارات أحزاب يسارية شابة، أغلب أعضائها من الطبقات الوسطى من أبناء الأقليات في سوريا. تلك الحقبة «الماركسية» تميَّزت بتغليب مفاهيم الطبقة على الطائفة، والجمهور على الناس، ولم تكن مشغولةً بالتفكير في الموضوعات المتعلقة بالحرية، والليبرالية والديموقراطية. إذاً، هناك سياسة جديدة تقطع مع تلك القديمة، وتُعين الناس على مواجهة التحديات اليومية في ظل غياب الدولة وتحلُّلها، أي أنها سياسة طُرُق إدارة الناس لحياتهم، في اختبارٍ فعلي وعادي يومي لمقولاتٍ نظرية، وتقاطعاتٍ عملية، وتوافقاتٍ على البرامج والرؤى المشتركة، والمتكاملة أو المتناقضة.

في هذه الجوقة المُدهشة من الرؤى والأفكار، هناك تياران واضحان: تيارٌ يقول إنّه لا حلّ في السويداء إلا عبر حلٍّ سوريٍّ كامل وفق القرار الدولي 2254، وبالتالي انتقال سلمي للسلطة؛ بينما هناك تيار آخر يقول بإقامة إدارةٍ ذاتية على غرار الإدارة الذاتية الكردية لشمال شرقي سوريا. بين هذين التيارين، هناك مجموعة واسعة من الأفكار الوسطية، التوفيقية، البراغماتية، القادرة على تحقيق توازنٍ بينهما. لكن، المشكلة تتمثل دوماً بالراديكاليين في كل طرح، ممن تطغى الإيديولوجيا أو الأفكار على رؤيتهم للواقع. التيار الأول، ويبدو متأثراً بالمقولات القومية واليسارية، يضع الحل السوري الكامل أولويةً أهمَّ من الحل في السويداء. هذا التيار يُعاني من غياب الخطوات العملية لكيفية تطبيق أفكاره، ويضع كل البَيض في سلّة ردّ فعل النظام والموقف الدولي. بينما يتجه التيار الثاني، وعلى رأسه حزب اللواء، إلى المراهنة على صراعٍ عسكري مع النظام، يخوّله تَسيُّدَ المشهد وتوجيه الحراك باتجاهه.

ليس لأيٍّ من التيارين حالياً شكلٌ سائد، بل يعاني كلٌّ منهما من أزماته الداخلية، ومن صراعات القائلين به. وهذا ما يعطي فرصةً للتيارات الوسطية بالصعود وصياغة خطاب أكثر توازناً وعقلانية، أكثر تبنّياً للسلمية، وأكثر إدراكاً لأهمية الحلول العملية لا النظرية، وسط إمكانية إحداث تغيير سياسي جذري في السويداء، يكون نموذجاً للتغيير السياسي في سوريا، مُتجنّباً العسكرة والإيديولوجيات الشمولية، ويقوم على توسيع اللامركزية وإشراك الناس في صياغة معاشهم ومستقبلهم. هذا التيار الوسطي مُطالَبٌ اليوم بالتشكّل بوضوح، وصياغة برنامج عملي يُدخِلُ العملية السياسية الانتقالية في طور التطبيق العملي، عبر الانتخابات الحرة وتوسيع المشاركة الأهلية إلى أقصى حدودها ضمن القانون والدستور السوري، والعمل على تحقيق ومراكمة المكاسب السياسية والاجتماعية للانتفاضة الشعبية.

الربط بين المطالب السياسية والمعيشية

الدولة السورية مُعطَّلة، والنظام يحيا على جثتها، والناس ينسحقون تحت وطأة أزماتهم اليومية. السويداء اليوم، كما معظم الأراضي السورية، تعيش مَحْلاً وعطشاً غير مسبوقَين، وسط تحلُّل الدولة من بعض أدوارها الخدمية. على سبيل المثال، مؤسسة المياه والصرف الصحي في السويداء تكاد لا تعمل، وكذلك شركة الكهرباء، ولا أي مؤسسة رسمية أو قطاع عام. غياب الموظفين، والفساد، وعدم وجود تمويل حقيقي لهذه المؤسسات، والتأخر في صرف ميزانية مجلس المحافظة ومجالس الوحدات الإدارية،… هي بعض وجوه المشكلة. وبالتالي، غواطس المضخات معطلةٌ نتيجة أعطال الكهرباء وساعات التقنين الطويلة وانقطاعات التغذية، وعليه، فإن آبار الماء التي هي المصدر الرئيسي لمياه الشرب والري مُعطَّلة. هذا نموذجٌ واحدٌ من مئات التحديات اليومية التي يعيشها الناس، والتي تضع وجودهم المحض على المحك في منطقةٍ تخضع بقسوة لنتائج التغيير المناخي. البلد مشلولة، والناس جياع. أعداد أبناء السويداء الذين باتوا معتمدين على المساعدات الغذائية بازديادٍ مستمر، ولولا تحويلات المغتربين لاصطفَّ الناس على طوابير المساعدات بالآلاف. لا إنتاج حقيقياً في البلاد، ولا شيء يتحرك إلا بالفساد والرشاوى. تحرير الأسعار بعد رفع الأجور الشهر الماضي، كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

من جانبٍ آخر، الناس في السويداء خرجوا يطالبون بكرامتهم الإنسانية، بعدما انحطت ظروفهم إلى القهر والَعوَز وطلبِ المساعدة بشكل متواصل. الجريمة، والانتحار، والدعارة، وإدمان المخدرات، وتفلُّت السلاح، والخطف للفدية، باتت تسجل أرقاماً غير مسبوقة في مجتمعٍ عائلي محافظ. عدا ذلك، تحولت المنطقة إلى معبَر غير شرعي لتهريب الكبتاغون إلى الأردن، وملعب خلفي لعصابات الخطف للفدية. الناس في السويداء باتوا مهددين في وجودهم.

ومع ذلك، ترفض السويداء اليوم أي حلٍّ لا يقوم على حدوث تغيير سياسي جديّ في شكل الحكم وطريقته، في طريقة إدارة الناس لشؤونهم اليومية بعيداً من تسلط الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهذا يعني فعلياً استعادة الدولة ومؤسساتها، ووقفَ تغوُّل الأجهزة الأمنية والعسكرية على الدولة. وفي هذا ترجمةٌ أمينةٌ لما يقصده الناس في مطالبتهم بتنفيذ القرار الدولي 2254، والقرارات الدولية ذات الصلة، ورفض الاحتلالات الأجنبية، وكذلك رفض التقسيم الواقع على الأراضي السورية بين مختلف مكوناتها. الناس في الشارع يطالبون بوقفٍ حقيقي ونهائي لحرب السلطة على المجتمع، وإيجاد حلٍّ سلمي يمنع تَجدُّدها.

وعلى جمالية هذه اللوحة، إلا أن هذا الربط المباشر بين المطالب السياسية بحدِّها السوري الأعلى والمطالب المعيشية، يقود إلى أحد الاستعصاءات التي تواجه الانتفاضة في السويداء اليوم. إذ أن تطبيق القرار 2254، وإنتاج انتقال سياسي سلمي في دمشق، أمرٌ ليس بمقدور الانتفاضة الشعبية في السويداء وحدها تحقيقه. هو برنامجٌ طَموح وطنياً، لكنه فوق استطاعة محافظة واحدة تقطنها أقلية في سوريا، طرفية لا تقع على أي طريق دولي، وليس فيها أيٌّ من الموارد الرئيسية التي يحتاجها النظام في سوريا المفيدة. منطقةٌ قد يلجأ النظام فيها ببساطة إلى التهميش والعزل، والاكتفاء بمربعاتٍ أمنيةٍ مُحصّنة وإثارة القلاقل الأمنية والفوضى. لذا، يجب إنتاج مُقارَبة بين الرؤى العمومية لسوريا المستقبل، وإنجاز حلٍّ سياسي-مدني خاص بالسويداء يلبي الحاجات الإسعافية الضرورية للناس، اللذين هما أمران يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب.

ماذا حقَّقَ الحراك حتى اليوم؟

خلال الأسابيع الماضية لم تتوقف المظاهرات في الساحة التي أُعيدَت تسميتها بساحة الكرامة، حيث يحتفل الناس، ويغنون، ويرقصون، ويدبكون، ويرسمون ويلونون، ويهتفون. الناس عادوا إلى الشارع لينتزعوا الفضاء العام من احتكار النظام السوري له، بصوره وتماثيله، بأعياده وأحزانه. ذلك الفضاء كان مزيفاً، ثقيلاً، لا شيء حميمياً فيه بالنسبة لأهل المكان. لذا، لطالما مَثّلوا تلك الأفراح، حتى بدا وكأنهم فعلاً معنيون بها. اليوم، في ساحة الكرامة، هايد بارك السويداء، حيث الكل معنيٌّ بالحديث والتفكير، والتنظيم والعمل.

أكثر ما يُقلِقُ في تلك المشاهد أن الناس متعبون. النحف والهزال على الأجساد بيِّنٌ، والتعب على وجوههم غائر. ومع ذلك، أولئك الناس يحاولون تقويم انحناءاتهم، ورفع رؤوسهم، والنظر مجدداً في عيون بعضهم البعض، واستعادة الثقة. هؤلاء ليسوا مجانين، بل رأوا بأمّ عيونهم كل الفظائع التي ارتكبها النظام بحق مَن انتفض قبلهم. لكن، وكما يقولون اليوم، كرامتهم الإنسانية باتت على المحك، وهي التي تقودهم للانتفاض، ليقولوا إنهم سئموا النظام السياسي الذي يعيشون تحت ظله منذ خمسين عاماً، والذي لم يجلب لهم سوى شظف العيش، والحصار، والقَطع مع الحداثة والمُعاصرة، والانعزال والتقوقع. حالُ أهل السويداء، كما حال جميع أرجاء سوريا. منبوذون، معزولون، مهمشون، تم إقصاؤهم من الحياة العامة عبر منع السياسة عنهم.

أهل الجبل المنتفضون، استعادوا الكلام، وهم المفوّهون تاريخياً، وأصحاب الحديث المنمق، والخَطابة. أهل الجبل اعتادوا التراسُل بالقصائد، والخطابة أمام الحشود، وتشكيل رأيٍ جامع. هذه لحظة السياسة الأولى: الاجتماع والتفكير بشأنٍ عام. وهذا، أول إنجازٍ حقيقي للانتفاضة الشعبية اليوم.

الإنجاز الثاني هو أن هيئة الانتفاضة الشعبية ما زالت تتشكل بالمعنى السياسي، ومعها وعلى توقيتها، يجري العمل على إنتاج هيئة مدنية سياسية، تقارب بين الرؤى المتنافرة، وتعمل كمظلةٍ تُعطي الشرعية الأهلية للحراك، وتمنع انزلاقه نحو العنف أو الفوضى. يُفترض أن تضم الهيئة المدنية السياسية ممثلين عن مختلف القوى الاجتماعية، والمناطقية، والدينية والسياسية، بما فيهم الانتفاضة.

الإنجاز الثالث، هو الانتهاء من عقدة السويداء المزمنة، المتمثلة بحزب البعث وحضوره الثقيل كوصي على الدولة والمجتمع. الانتفاضة الشعبية، ومنذ يومها الأول، أنهت حزب البعث، وأغلقت مقراته على امتداد المحافظة. إلغاء المادة الثامنة من الدستور، طُبِّقَ اليوم فعلياً في السويداء. لحزب البعث حضورٌ واسعٌ في السويداء، عبر شبكة المنتفعين منه لا الموالين لأفكاره. فالحزب توقف عن كونه ماكينة إيديولوجية منذ احتكرَ الحياة السياسية في سوريا مع انقلاب حافظ الأسد في العام 1970، وبات منذ ذلك الوقت، نادياً حصرياً لانتقاء موظفي الدولة والقطاع العام والنقابات، وأعضاء البرلمان، عبر العلاقات الشخصية والولاء والوشاية بالآخرين. الآن، بات ممكناً للناس أن تنتظم على أسس حرة غير إكراهية، لتنظيم شؤونها من توزيع المساعدات إلى المحروقات، إلى السماد والأعلاف، لا مروراً عبر الحزب. وهنا، يبدو واضحاً الفصل الذي يقوم به الناس بين الدولة والنظام، والحرص على الأولى، والرغبة بتغيير الثانية. هذه الرغبة باستعادة الدولة، كمقدمة للخدمات، محايدةٌ وعلمانية، لا تُميّزُ سلبياً بين السوريين، هو إنجازٌ يُضاف للحراك.

في الأيام والأسابيع الماضية، تراجع مستوى الجريمة، والانتحار، والخطف للفدية، وتهريب وتجارة المخدرات عبر الحدود، في السويداء، إلى مستويات ملفتة. ورغم أن ذلك التأثير قد لا يدوم طويلاً، بسبب العوامل الاقتصادية والمعيشية السيئة، لكنه قد يحمل مؤشراً لطيفاً لشكل المستقبل بالنسبة لأبناء هذا المكان، وبشأن ما يمكن لإرادتهم الجمعية أن تصنعه. على هامش هذه اللوحة الجميلة، ازداد بشكلٍ غير مسبوق القطع الجائر للأحراش التي أَخلتها بعض الوحدات العسكرية من قوات النظام ضمن خطة دفاعية لإعادة الانتشار. هذه الخسارة كبيرة لا تُعوَّض، في منطقةٍ على كتف الصحراء، وفي ظل ظروف التغيير المناخي المُهدِّدة للبقاء والوجود.

أوراق النظام

حتى اليوم، فإن الغائب الأكبر عن كل ما يحدث في السويداء، هو النظام. إذ يبدو في موقفٍ دفاعي، يُعيد انتشار قواته على أرض المحافظة ويعزز مقارّه الأمنية. في الوقت ذاته، يسعى النظام لتطويق الحراك وإنهاكه داخلياً بالصراعات المحلية، واستنزافه بالمشاكل الأهلية المُفتعلة.

النظام ليس في موقع القدرة العسكرية، ولا في وارد الحشد العسكري، لمواجهة انتفاضة السويداء. إذ قد تكون كلفة قمع الانتفاضة عسكرياً أكبر من كلفة عزلها وخنقها، والعمل على شقها داخلياً ومنع اتصالها ببقية المناطق السورية. لذا، أبرز المحاولات ظهرت في اللجوء إلى دروز ريف دمشق والقنيطرة، علّهم ينقذونه من هذا المأزق. النظام حشّد مواليه من الدروز خارج السويداء، محاولاً إنتاج زعامة دينية جديدة بتسمياتٍ من نوع الهيئة الروحية للدروز في ريف دمشق. هذه الهيئة لم تكن موجودة سابقاً ولا وزن دينياً لها، لكنها قد تلعب دوراً لاحقاً في تكريس الفصل السياسي بين الدروز في المناطق السورية المختلفة. بِقدر ما تجاهل النظام حراك السويداء، فقَد أظهرَ حرصاً على بقاء دروز ريف دمشق والقنيطرة في صفّه، ولو بوسائل إكراهية وترهيبية. هذا لا يعني أنه لم يعد للنظام موالون في السويداء، ضمن الوسط الديني أو المدني والعسكري.

وفي السياق ذاته، لجأ النظام إلى أحد المراجع الروحية للطائفة الدرزية في لبنان، الشيخ أمين الصايغ، لإرسال فيديو لأهالي السويداء ينتقد فيه بشكل مبطن موقف الشيخ الهجري ويدعو للوقوف إلى جانب الدولة السورية. الشيخ الصايغ هو واحدٌ من 11 شيخاً درزياً في لبنان، بمرتبته نفسها، ممن يلبسون العمامة المُدوّرة أو «المكولسة»، وهم غالباً لا يتدخلون في السياسة. لكنّ الشيخ الصايغ خطَّ لنفسه طريقاً مختلفاً عن التقاليد، وتحدَّثَ في السياسة علناً وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيونات، بينما لا تُعرَف صورة أو أي ظهور إعلامي لأي من بقية المشايخ في مرتبته. لا يُعَدّ الشيخ الصايغ وصياً على دروز سوريا، فحضوره الديني محصورٌ بمريديه وهم قلائل، خاصةً بعد تدخله مِراراً في السياسة المباشرة واليومية، ولأسباب لا تبدو روحيةً خالصة.

أيضاً، يحاول بعض أنصار النظام من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي، التحريض بشكلٍ طائفي ضد الحراك في السويداء، والتركيز على مجموعة تُهم معلّبة، مثل الانفصاليين، والخونة، وعملاء إسرائيل وغيرها. جزءٌ من هذه الرسائل لا يُوجَّه فعلياً للدروز، بل يستهدف الجمهور العلوي، ويشد عصبه، ويحاول إظهار الدروز كخارجين عن تحالف الأقليات القائم، ما سيعرضهم لانتقامٍ وشيكٍ من الدولة وجيشها.

في الوقت ذاته، دفع النظام بمجلس محافظة السويداء لإصدار بيانٍ في 12 أيلول (سبتمبر)، اعترف بمطالب الناس المحقة، وحمّلَ الحكومة مسؤولية تدهور الأوضاع المعيشية للناس، لكنه طلب من القوى الأمنية حماية مؤسسات الدولة، مع إدانة شكل الاحتجاج السياسي القائم حالياً وآلياته. وفسَّرَ البعض ذلك البيان على أنه تخويلٌ رسمي بفضّ المظاهر الاحتجاجية بالقوة، كما حدث في فرع حزب البعث في السويداء يوم 13 أيلول (سبتمبر)، عندما أطلق مسلحون من داخل الفرع النار على المحتجين الذين حاولوا اقتحام المبنى، مع حرصٍ واضحٍ على عدم إيقاع قتلى بينهم.

لكن، من جانبٍ آخر، منح بيان مجلس المحافظة الانتفاضةَ الشعبية، والحراك المدني السياسي في السويداء، فرصةً لافتةً لممارسة أسلوب جديد في السياسة. إذ يمكن، للمرة الأولى، وبتأثير وضغط أهلي، دفع جميع أعضاء المجالس البلدية للاستقالة، ما سيخلق فراغاً تتوجب معه الدعوة إلى انتخابات جديدة. قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011 لا يُتيح هذه الإمكانية حالياً، بل يقول إنه إذا شغرت عضوية أحد أعضاء مجالس الإدارة المحلية يحلُّ محل العضو الذي شغرت عضويته من يليه في عدد الأصوات من قطاعه، إلا إذا رأت السلطة المختصة دعوة الناخبين لانتخاب عضوٍ جديد. والسلطة المختصة هي المكتب التنفيذي في المجلس، أو وزارة الإدارة المحلية. وإذا ما جرت الدعوة لانتخابات، فقد يكون ذلك إنجازاً إضافياً يقدمه نموذج السويداء، عبر تشكيل أجسام بلدية تنفيذية مُمثِّلة بشكل حقيقي للناس، ولها شرعية قانونية، بحيث يمكنها البدء بتنفيذ الخدمات المؤجلة ومحاربة الفساد والتعطيل في مؤسسات القطاع العام. استعادة الدولة، تعني استعادة كل الهياكل التي ما زالت صالحةً للعمل، وإعادة إنتاجها، بالتوازي والتزامن مع تشكيل هيئةٍ سياسيةٍ مدنيةٍ للسويداء. هذا لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال أن النظام سيسمح بتطبيق هذه الخطوة، التي سيعتبرها تنازلاً سياسياً لإرادة الناس، العدو الحقيقي له. ومع ذلك، تبدو هذه الخطوة إمكاناً لاختبار السياسة بالاستفادة من الوضع الخاص للمنطقة. في هذا الاختبار مُلاعَبةٌ للنظام في ميدانه، ولها مخاطر ارتداد كبيرة، لكنها قد تكون أيضاً مقدمةً لحلٍّ سياسي لجميع السوريين.

أزمات الحراك

في الحراك الحالي نزعةٌ طهرانية، ترى في الحراك نفسه غايةً ونهاية. أي أن الحراك قائمٌ بذاته ولذاته، ويحقق بذلك شرط اكتفائه، وهذه النزعة مُضادةٌ للسياسة بمعناها التداولي اليومي. هذه النزعة الطهرانية تُقدّسُ الساحة أو الميدان أو الانتفاضة، وترفعها كصاحبة الشرعية الوحيدة التي يجب على الجميع عدم تجاوزها. وإن كان هذا طبيعياً في كل التجارب التي نزل فيها الناس إلى الشارع جماعياً بعد طول احتباسٍ وخوفٍ وامتناع، إلا أنه يصبح عائقاً مع الوقت أمام إمكانات التشكُّل السياسي الأكثر استمرارية.

هذه الطهرانية، والتي تميل لخلق الرموز والشعارات وإسباغ القداسة عليها، هي النقيض للحركة المُولِّدة لها، أي الحراك. استعادةُ الناس للفضاء العام هو فعلٌ تشاركي، ينقل إرادة الأفراد المشاركين فيه إلى فعل سياسي. وبالتالي، يجب ضخ روح الديمقراطية في الحراك، والتركيز على أهميته بوصفه ميداناً لتلاقُح الأفكار وإنتاج تصورات مُشترَكة عن الخطوات التالية الواجب فعلها، لا إقفاله كدعوة خاصة ونادٍ حصري للمشتركين فيه.

من جانب آخر، يبدو الحراك ملتصقاً بدار قنوات (الهجري)، ويستمدّ الشرعية منها. في لحظةٍ مستقبليةٍ قادمة، لا بد لهذا الحراك أن يجد آلياته الخاصة التنظيمية والسياسية، بحيث يصبح قادراً على دعم موقف دار قنوات لا فقط الاستناد إليها.

أيضاً، تبدو المُسلّمات السياسية التي بدأ التيار السائد في الحراك تكريسها، كشعاراتٍ نهائية له، كما لو أنّها برنامجُ الحد الأعلى السياسي للجماعة الوطنية برمّتها. وعدا بعض المطالبات الخجولة بقضايا محلية، يغرق الحراك في التصويب على القضايا الكبرى لتحقيق الخلاص الجزئي. وفي هذا نقطةُ ضعفٍ للحراك. إذ أنّ أكثر الحركات الشعبية نجاحاً هي القادرة على وضع أهداف قابلة للتحقيق، أي قضايا محلية يمكن لإرادة الناس الجماعية تنفيذها ضمن حيِّزهم المكاني.

وربما يجدر في النهاية القول إن انتفاضة السويداء، وضمن كل تعقيدات مشهدها الداخلي، بدأت بفتح بابٍ مُحتمَلٍ لحلٍّ سياسي قد يقود في النهاية إلى إعادة تشكيل سوريا جديدة.