مرّت ستة أشهر على زلزال كهرمان مرعش المُدمّر، ولكن لا يزال الجميع هنا، في مبنى البيروني الواقع في مدينة كراكالي بالقرب من العاصمة التركية أنقرة، يحفظُ تفاصيل تلك الدقائق القليلة حتى هذه اللحظة. كان هذا البناء يؤجَّر في السابق كسكنٍ جامعي للطلبة، ويعيشُ في كلّ شقةٍ أربعة طلاب. غيّرت لحظة زلزال السادس من شباط (فبراير) ساكنيه، إذ تعيش فيه اليوم حوالي أربعين عائلة سورية نجا بعض أفرادها أو كلُّهم من الزلزال، وتحديداً من مدينة أنطاكيا على الحدود مع سوريا.

لدى كل عائلة غرفتان وحمام ومطبخ بنظام يُشبه نظام الفنادق، والشقق مجهّزة بطريقةٍ حديثةٍ ولطيفة، لكن لا يوجد مكانٌ للغسالة داخل الشقة، وإنما غرفة غسيل مشتركة في الطابق السادس، تضمُ حوالي عشر غسالات، وتتوجّه نحوها كلّ سيدةٍ راغبةٍ بوضع غسيلها، وتنتظر حتى تنتهي من سبَقتها في حال عدم وجود غسالةٍ فارغة.

متعة الغسيل

مع مرور الوقت، اكتشفت النساء متعة الغسيل ومتعة هذه الغرفة التي تحوّلت من غرفةٍ باردةٍ يملؤها ضجيج الغسالات، لا سيّما عند التنشيف، إلى غرفةٍ فيها عددٌ من الكراسي وطاولة، تجتمعُ فيها النساء بشكلٍ يومي ويتبادلنَ الأحاديث والضحكات والهموم أيضاً. هي أشبه بغرفة الدعم النفسي كما لاحظت، أو كما خمّنتُ في عقلي. ولحسن حظي، أُتيحَ لي الجلوس في العديد من الجَمعات النسائية التي شهِدتها الغرفة. 

البداية تكون بإلقاء التحية والسؤال عن الحال، وبعدها نسأل: «لمَن هذه الوجبة التي في غسالة البيكو أو الڤيستل». تنصحني أم مصطفى بأنّ غسالة الأرشيليك هي الأفضل لوجبة الغسيل الأبيض. تطلبُ مني الجلوس وتقنعني بانتظارها حتى تنتهي، رغم أنها تحتاج إلى أكثر من ساعةٍ زمنية. 

فيما بعد، بات الأمر أجمل. اتفقنا على تنظيم مجموعةٍ على تطبيق واتساب بهدف تحديد مواعيد لقاءاتنا في غرفة الغسيل، ومَن ستقوم بإعداد القهوة التي نتناوب يومياً على صنعها. لكنّ هناك سيدةٌ حاضرةٌ دائماً ومدعوةٌ في كل جلسة، وهي صاحبة فناجين القهوة الجميلة. هي الوحيدة التي تملك الفناجين في هذا المبنى. يعيدني المشهد إلى الطفولة وإلى صاحب الكُرة الذي كان يلعب في كلّ مباراة فقط لأنه يملك أداة اللعبة الأساسية. هكذا حال أم عمر التي تشاركنا جميع الجلسات ولا مبرّر لاعتذارها أو غيابها. لا تملك الأسر المقيمة في هذا المكان إلا القليل من الأشياء التي اشترتها على عجل، فبات الكأس الواحد يُستخدم لجميع المشروبات، ولم تنجح أيُّ واحدةٍ من النساء في إخراج أيّ شيءٍ من منزلها السابق في أنطاكيا، ولا توجد لديهن رغبةٌ في الشراء، فهنّ لا يعرفنَ مكان استقرارهنّ بعد.

حفظنا تفاصيل نجاة كل سيدةٍ من الزلزال، وباتت هناك أمور كثيرة نتحدث عنها. أكثر ما يُضحكنا هو الغسيل الذي يجمعنا. نعم، نحن نضعُ الغسيل وننتظره لساعات، لكن لا تملك أيٌّ منا غسيلاً يملأ حوض الغسالة. لقد اشترينا لأنفسنا ولأطفالنا بعض القطع القليلة لتستُر الحال، ونحن نُعيد غسلها وارتداءَها كل يومين.

أحاديثنا اليومية

تتمحورُ أحاديث غرفة الغسيل حول النجاح في الحصول على تجديد إذن السفر، أو عن التي نجحت من بيننا في تأمين منزل، فالجميع هنا يعيش بشكلٍ مؤقت. بعضنا يرغبنَ في العودة إلى سوريا؛ والبعض ينتظرنَ أن تنتهي المدارس التي التحق بها أطفالهنَّ للعودة إلى أنطاكيا مجدداً والبحث عن مكانٍ للعيش، حتى لو خيمة في أسواء الأحوال؛ والبعضُ الآخر عاجزات وحائرات تماماً. وسط هذه الأحاديث، تُطلق أم يحيى تحدياً تبهرنا به جميعاً: «أتحداكنَّ أن تعرف واحدةٌ بيننا ماذا تريد أو إلى أين ستذهب أو ماذا ستفعل». يمضي الحديث وتُصادق لها الجالسات على عجزهنّ عن تحديها، إلا أنني أتعمّقُ جيداً فيما قالته، فأصمت وأشعر بعجزٍ مضاعف. كلامها ليس مجرد استفسارٍ أو تحدٍّ؛ هو صحوةٌ من غفلتنا، تذكيرٌ بعجزنا ولجوئنا، هو موتٌ مضاعفٌ في غربتنا.

بعد هذه الصفنة، تُلفتُني دموع سعاد وهي تختنق بها. لا تستطيع إكمال الحديث. الباقيات أيضاً اغرورقت أعينهنَّ بالدموع. كانت سعاد تتحدث عن ابن سلفتها التي توفّيت مع طفلتها الصغيرة في الزلزال، تاركةً وراءها ثلاث بنات وهذا الطفل وزوجها. كانت أم العائلة كلها، تهتم بأطفالها كثيراً، وتخشى على ولدِها الوحيد وتحبه حباً شديداً، تلحقه الى ملعب كرة القدم خشية سقوطه، وإلى المدرسة أيضاً. تصف سعاد الطفل، وهو ابن 13 عاماً، بأنه كان طفلاً مفعماً بالحياة، يركض ويلعب ويعشق كرة القدم، لكنه اليوم صامتٌ حزينٌ لا يرغب بالخروج من الغرفة. لا نهاية لقصةٍ كهذه إلا البكاء.

حال أم سامر ليس بأفضل، فهي فقدت زوجها بقصفٍ للطيران الروسي في سوريا قبل أعوام، لتعود وتفقد ابنها الأكبر ابن التسعة عشر عاماً في الزلزال. تضيق بها الكلمات ولا تنجح في التعبير عن حالها في كلّ مرةٍ تريد فيها المشاركة.

تسعى النساء هنا إلى التخفيف عنها، يبحثنَ عن قصصٍ أكثر حزناً ويروينَها لها. لا توجد خبرةٌ كبيرةٌ في الدعم النفسي، ونعتقد أن المزاودة بالألم حلٌّ ناجحٌ للتخفيف عن مصيبة أي واحدةٍ فينا، لأن كل واحدةٍ منا تحمل قصةً موجعةً أكثر من الأخرى.

تمضي الأحاديث، وتقول أم محمد إنها عثرت على منزلٍ وستنتقل إليه بعد أيام. نحزن أيضاً. نحن نخشى الوداع ولا نحب أن نفارق مَن اعتدنا عليهم. نبكي حزناً على فراقها. أفكر في كل مرةٍ أعود فيها من جلسةٍ معهن: لماذا هذا البكاء الشديد على أحاديث وتفاصيل لا تحتاج كل هذه العاطفة؟ هل هو حبٌّ لهذه السيدة التي تعرّفنا عليها خلال أشهر قصيرة؟ لا، ربما هذه مجرد حججٍ نضعها لنبكي دموعاً قد أثقلنا حَملُها؛ دموعاً سوف تُذرف دون سبب، لذلك نضع لها بعض الأسباب والمبررات.

مساندة نسائية متبادلة

تزامن انعقادُ إحدى الجلسات مع انعقاد «مؤتمر بروكسل لدعم سوريا والمنطقة»، الذي كنت أتابع بعض تفاصيله ومخرجاته والمواضيع التي طُرحت فيه، وتحديداً ما يتعلق بالنساء والزلزال. لكنّني تركته وذهبت إلى جلسة الغسيل، فهي أهم بالنسبة لي وأكثر فائدة. كانت حينها الحاجّة منال في طور الحديث، وهي حاصلةٌ على شهادةٍ جامعية منذ سنواتٍ طويلة. تصف الحاجّة حالنا وما علينا فعله وكيف يجب أن نكون نساءً قوياتٍ وقادراتٍ على فعل كل شيء. نحن بحاجة إلى الكثير من الدعم والمساندة، لكن إن لم نجدهما، فلن نتوقف. نعم، نعاني من العنصرية والكره، ونعاني من عدم القدرة على إيصال صوتنا، ونعاني بعد خسارة كلّ ما نملك، ونعاني من عدم امتلاكنا للأوراق الرسمية، لكننا موجوداتٌ هنا؛ نجلس سويةً ونسعى، وسوف ننهض من جديد. تضيف بأنها سوف تطلق مبادرةً في شقَّتها لتعليم أطفال المبنى أساسيات اللغة العربية بدلاً من إضاعة الوقت.

تقاطعُها أُخرى وتروي كم قصة نزوحٍ قد عاشت، هي التي وُلِدت خارج سوريا بعد تهجير والديها في حكم الأسد الأب وعاشت في الكويت سنوات حياتها الأولى، وبعدها انتقلت لسنواتٍ قليلة إلى العراق، ومن بعد الغزو الأميركي انتقلت إلى اليمن، ومع اندلاع الثورة اليمنية انتقلت إلى الأردن، وبعدها جاءت إلى تركيا واستقرّت في أنطاكيا، لتخرج منها عقب الزلزال. هذه السيدة لا تعرف لذّة المنزل، ولا تعرف معنى الأمان والاستقرار. هي تخشى السعادة والهدوء، وتقول إن بقاءها في أنطاكيا لمدة 11 عاماً قد أخافها، فهو أمرٌ جديدٌ بالنسبة لها أن تقضي مدةً مماثلةً دون أن تضطّر إلى تغيير محل إقامتها.

نُصبّرها ونحاول أن نخفّف عنها، لكنّ الحال واحد. هي تدرك هذا الأمر. أطلب المساعدة في فتح الغسالة التي يصعب فتح بابها، فيركضنَ نحوي للمساعدة. كذلك تأتي أم ريم وتطلب أن يساعدنَها في ضبط الحرارة لوجبة الغسيل الخاصة بها، فهي لم تستخدم هذا النوع من الغسالات من قبل. تصف كل واحدةٍ نوع غسالتها سابقاً، وتتحدث عن جودتها. نستذكر أيضاً الهدوء الذي كنا نعيشه في منازلنا؛ هي منازلٌ كبيرة بثلاث أو أربع غرف. باتت الأسر تعيش الآن في غرفتين صغيرتين؛ أحياناً خمسة أطفال مع أبٍ وأم.

تضيق السبل في هذه البيوت الصغيرة وتشتهي النساء النوم بهدوءٍ وراحة. تعتبر أم ياسين أن غرفة الغسيل هي المنفذ الوحيد الذي تهرب إليه من ضجيج أطفالها ومن لعبهم. تضحك قائلةً: «صوت الغسالة ألطف بكثير. بجي لهون لريّح راسي». لقد اختلَّ توازن الأسر ونظام حياتهم؛ كان الأطفال يذهبون إلى مدارس ومعاهد ونوادٍ وحدائق ونشاطات وأماكن ترفيهية لتفريغ طاقتهم، كما كان ثمة غرفة للأطفال في كل منزل. انتقلنا إلى حياةٍ جديدةٍ عشوائية، وفقدت الكثيرات منا السيطرة على أطفالهنَّ. نتشاور عن طرق وأساليب جيدة للتعامل معهم، لكننا سرعان ما نعود لتأنيب الضمير والحزن عليهم: «ماذا عاش أطفالنا سوى الحرب ومن ثم الوباء وبعدها الزلزال؟». 

في غرفة الغسيل أيضاً، هناك متّسعٌ من الوقت لتبادل المعلومات عن مخيمٍ جديدٍ هو «جيدٌ» بالنسبة للسوريين في أنطاكيا، وعن مكان افتتاحه وعن شروط قبول الأسر فيه، فضلاً عن محلٍّ لبيع المواد الغذائية بأسعار مقبولة نوعاً ما بالقرب منه، أو عن محلٍّ لبيع الألبسة لديه تخفيضات. الكثيرات لا يعرفنَ شيئاً خارج هذا المبنى، فهنَّ في مدينةٍ جديدةٍ أيضاً، ويحصلنَ على مساعدةٍ لمعرفة الأماكن الضرورية لشراء حاجيات المنزل أو للوصول إلى المستشفى في حال حدوث طارئٍ ما. تقدِّم بعضنا المساعدة عندما تكون لديها القدرة على فعل ذلك، مثل حجز موعدٍ أو الترجمة، أو حتى تسجيل الأطفال في المدارس وفي كيفية الحصول على ما يُقدَّم للأسر الناجية من المساعدات، والتي لا تشمَل السوريين في معظم حالاتها.

أحلامٌ بالعودة 

تنتهي معظم الجلسات بدعوةٍ واحدةٍ تطلقها الحاضرات: «الله يرجعنا على بلادنا». نحن مَن انقطعت بنا السبل وبقينا حائراتٍ لا نعرف ما هي بلادنا على وجه التحديد، نشعر في مراتٍ كثيرة أن أنطاكيا، لا مدننا في سوريا، هي وطننا الحقيقي. إذ لم نشعر يوماً بالغربة داخل هذه المدينة، فحتى الأتراك من سُكّانها يتكلّمون اللغة العربية بشكلٍ جيد، ولم نكن نعاني فيها من العنصرية مقارنةً بمستويات العنصرية في باقي المدن والولايات التركية. كذلك تضمُ المدينة آلاف الأسر السورية اللاجئة، وترى الكثيرات منا أننا الآن صرنا نشعر بالغربة الحقيقية بعد فقدان هذه المدينة. لقد تشرّدنا بعد أنطاكيا، وهذا ما اتفقنا عليه.

أريد أن أقول إن كل هذه الأحاديث تُبهرني وتساعدني على أن أكون قويةً وأن أشعر بوجود نساءٍ قوياتٍ متماسكاتٍ إلى جانبي. في إحدى المرات عشنا دقائق شديدة الصعوبة، إذ انقطع التيار الكهربائي فجأةً عن مبنى البيروني وتوقّفت الغسالات عن العمل. لا أستطيع استعادة مشهد النساء وكيف ركضنَ وصرخنَ على عجل، توقعنَ جميعاً أنه زلزالٌ جديد، وسعينَ لإخراج أطفالهنَّ من المبنى. كل هذا الهلع لأن حدوث الزلزال في أنطاكيا قبل ستة أشهر كان قد ترافق مع انقطاع الكهرباء، وبات هذا المؤشر الوحيد لديهن على حدوث الكارثة. ما زالت النساء في هذا المبنى حتى الآن، ولكنهن سيغادرنه جميعاً نهاية الشهر الجاري، حتى يعود إلى وظيفته الاعتيادية في الأول من أيلول (سبتمبر) المقبل؛ سكناً جامعياً للطلبة.