منذ إعلان الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر شهر شباط (فبراير) من هذا العام، استقطبت الأزمة الإنسانيّة هناك عمّال الإغاثة من جميع أنحاء العالم. وكطبيب، وعامل في مجال الإغاثة الدولية، وأيضاً كناجٍ عانى من فظائع دكتاتورية الأسد ومن فشل المجتمع الدولي في بلاده، لم يتطلّب قراري بالمشاركة في الجهود الإنسانية في أوكرانيا أيّ جهدٍ أو تفكير.
منذ اندلاع الثورة الشعبية في سوريا عام 2011، ساهمتُ في إنشاء مرافق رعاية صحية ومستشفيات ميدانية في مناطق سوريّة عديدة، إلى أن تم اعتقالي وتعذيبي لمدة 72 يوماً في دمشق من قبل فرع الأمن العسكري سيء السمعة. ومثل مئات المعتقلين من الكوادر الطبية والإغاثية، كانت التهمة الرئيسية الموجهة لي بطبيعة الحال، أو بطبيعة القبضة الأمنية لنظام الأسد، هي تقديم الخدمات الصحية للمتظاهرين، الأمر الذي «يُعرّض الأمن القومي للخطر». ومنذ أن أُجبرت على الرحيل عن دمشق في العام 2012، واصلتُ عملي في تقديم الخدمات الطبية للمجتمعات المتضررة من النزاعات المسلّحة، ليس فقط في سوريا، بل في عموم أنحاء المنطقة، بما في ذلك العراق (خلال حرب الموصل) واليمن، بالإضافة إلى العديد من الدول الأخرى، في أوروبا وإفريقيا وآسيا، التي تأثّرت بحكم الجغرافية أو السياسة بالأزمات الإنسانية على حدودها.
ذهبتُ إلى أوكرانيا بعد حوالي ثلاثة أسابيع من بداية الغزو الروسي، حاملاً انطباعاً بأنّ هذه الحرب لن تكون سوى تكرار لحروب أخرى قد شهدتُها من قبل، وبأننا كمؤسسات إغاثيّة لن نحتاج أكثر من استحضار الدروس المستفادة من النزاعات المسلّحة الأخرى وتطبيقها. لكن يبدو أن ديناميكيات الحرب في أوكرانيا، وبالتالي الأزمات الإنسانية الناتجة عنها، كانت أكثر تسارعاً وتعقيداً وإفرازاً للتحديات. كما أنّ الموارد المتاحة، ومستويات الدعم المتوافرة لعمليات الاستجابة، جاءت مختلفة كليّاً عن تلك التي عهدناها في عالمنا العربي خلال العقد الدامي الأخير. ورغم موجات النزوح الهائلة خلال أسابيع معدودة فقط، حيث تقترب أعداد النازحين والمهجّرين في أوكرانيا تدريجياً من عدد أولئك الذين اقتُلعوا من أراضيهم في سوريا وليبيا واليمن مجتمعين، فإننا لم نشهد على حدود الاتحاد الأوروبي ما أُطلق عليه «أزمة لجوء»، ولم نشهد ذلك النقاش المُستعِر، والمُستثمَر فيه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى يومنا هذا، عن تأثير اللجوء على حاضر ومستقبل الدول المُضيفة. من وجهة نظر إغاثية إنسانية، فإن عمليات الاستجابة الإنسانية يجب أن تكون دائماً بنفس الزخم والسلاسة اللذين نشهدهما اليوم داخل أوكرانيا، وفي الدول المحيطة بها.
تناقضات المشهد الميداني في أوكرانيا
منذ اللحظات الأولى للغزو الروسي، بدأت الأوضاع الإنسانية في أوكرانيا تتدهور بشكلٍ متسارع. فالدمار الناتج عن الهجمات الوحشية لم تتكشّف كامل أبعاده بعد، ويُنذر بأنّ ما خفي من كوارث إنسانيّة قد يتجاوز ما شهدناه بكثير. من الواضح أن سياقات الحرب الدائرة، وبالتالي الأزمة الإنسانية الناتجة عنها، ليست محكومةً فقط بالمقاومة الشرسة على جبهات القتال، ولكنها محكومةٌ أيضاً بالتقاطعات والتطورات على الساحة الدوليّة، وبالآثار الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة المترتبة على هذه الحرب، والتي تمتد إلى أبعد من الأراضي الأوكرانيّة، سواءً على المدى القريب أو البعيد. وقد أتاح تغيّر قواعد اللعبة، وإعادة ترتيب أهداف الغزو من قبل القوات الروسية مؤخراً، الدخولَ إلى بعض المناطق المنكوبة؛ مثل مدينة بوتشا، ومعاينة آثار المجازر الرهيبة المُرتكَبة بحق سكانها، وهو ما كشفَ الوجه الوحشي لهذا الغزو بشكلٍ أكبر.
ثمة كميةٌ ملفتة للانتباه من التناقضات في المشهد الميداني الأوكراني، فالمناطق الغربية من البلاد تشهد استقراراً وأماناً واستمراراً للحياة بشكلها الطبيعي، الذي لا يقطعه سوى الهجمات الصاروخية من وقتٍ لآخر، في حين أن السفر نحو العمق الأوكراني سيكشف عن أوضاع مختلفة كلياً، فهي ساحات حرب مكتملة الشراسة، تشمل كل أشكال الدمار والخراب الذي يمكن أن تنتجه آلة الحرب. وعليه، فإنّ ما نراه حالياً من كارثة إنسانية قد يكون مجرد قمة جبل الجليد، والأرجح أن الأسوأ لمّا يتكشّف بعد.
مع شلالات الدم التي تسيل من قنوات التلفزة والتقارير الإعلاميّة، خُيّلَ لي أنّي سأدخل منطقة حرب طاحنة، وأنّ كامل الأراضي الأوكرانية هي جبهات عسكرية مشتعلة. على أيّ حال، بدت الصورة مغايرةً منذ لحظة وصولي إلى المعبر الحدودي بين بولندا وأوكرانيا. في ذلك اليوم، كان عدد الداخلين إلى أوكرانيا أكثر من عدد الخارجين منها خلال الساعة التي قضيتها على المعبر الحدودي. لم تَبدُ على المغادرين علامات الرعب التي عهدناها في صراعاتٍ مشابهة في عالمنا العربي، حيث كان معظمهم يسافرون في سياراتهم الخاصة أو في باصات مخصصة للاجئين، ومن دون ارتباك أو استعجال أو قلق. خلال فترة التدقيق في الأوراق الرسميّة، يقدم متطوعون الطعام والحساء والمشروبات الساخنة للواصلين الجدد، قبل أن يُكملوا رحلتهم إلى داخل الأراضي البولندية. تذكرتُ في تلك اللحظات صورَ أهالي مخيمات فلسطين واليرموك بالذات، وذلك القهر التاريخي على مرأىً من العالم والأمم المتحدة لآلاف السكان وهم يغادرون أحياءهم التي حُطّمت فوق رؤوسهم. تذكرتُ كيف كانت المعابر والحواجز الأمنيّة لقوات الأسد ثقباً أسود يبتلع الخارجين من جحيم القصف، ليُدخلهم في جحيم الاعتقال والتعذيب والتشريد.
حركة السير الطبيعية على الطريق السريع بين المعبر الحدودي ومدينة لفيف الأوكرانية، القريبة جداً من الحدود البولنديّة، خفّفت كثيراً من مخاوفي المُسبقة عن طبيعة الوضع داخل الأراضي الأوكرانية. طلبتُ من سائق الإسعاف أن يخفف السرعة كي ألتقط صورةً لبعض العمال، الذين كانوا يُصلحون حفرةً على الطريق لضمان سلامة المركبات. كان هؤلاء العمال إشارةً مُبشّرة إلى أنّ الأوضاع ليست فوضويةً كما توقع كثيرون منّا.
مع تقدّمي باتجاه وسط اوكرانيا، تبيّن أنّ البلد مقسومٌ إلى مناطق مختلفة فيما بينها بالمطلق، وذلك بحسب شدّة المعارك. يتركّز الموت والدمار في الشرق والجنوب والشمال، بما في ذلك منطقة العاصمة كييف، في حين أن مناطق الوسط والغرب تكاد تخلو من أي اشتباكاتٍ عسكرية مباشرة على الأرض، وتندرُ فيها مشاهد العسكرة. على أي حال، ينبغي ألا ينخدع المرء بشعور الأمان الكاذب الذي تمنحه بعض المدن، فما أن تبدأ صافرات الإنذار بدويّها المرعب في أنحاء المدينة، وعبر الهاتف الجوّال، حتى يتغيّر المشهد بسرعة. في أوكرانيا، ستعرف موعد الغارة أو الهجوم الصاروخي قبل ثوانٍ أو دقائق من وقت حصوله، وهو وقتٌ سيمنح فرصةً لمحاولة النجاة. كنتُ أخاف ذلك الشعور، الذي أكاد أن أجزم أنّ أكثر من نصف مليون ضحية في سوريا قد عاشوه: أن تموت دون سابق إنذار، أن تموت وأنت تمارس أعمالك اليوميّة، أو حين تشتري خبزاً أو ثياباً لأطفالك، أو ببساطة خلال حديثٍ عابرٍ مع شخصٍ ما في مكانٍ صادفَ أنّه هدفٌ لطائرةٍ معادية أو لصاروخٍ عابرٍ، ما سيجعل تجميع بقايا الجثة أمراً مستحيلاً.
يزداد القلق من صوت صافرات الإنذار، ويتغيّر تفاعل الناس معها، كلما سافرنا في عمق الأراضي الأوكرانية. في مدينة لفيف قلّما يتفاعل الناس مع صافرات الإنذار، لكنّ ذلك قد يتغير تدريجياً مع ازدياد الهجمات الصاروخيّة عليها، والتي تسبّبت بالتزامن مع كتابة هذه السطور، في العشرين من الشهر الجاري، بسقوط سبعة ضحايا على الأقل وجرح آخرين.
في المنطقة الوسطى من أوكرانيا، وفي ليلتي الأولى، نمتُ بملابس الخروج وحذاء رياضي مع جواز سفري وبعض النقود وهاتفي المشحون في جيبي، بانتظار صفارات الإنذار للقفز بسرعة إلى أقرب ملجأ. لم أختبر دويّ صفارات الإنذار في سوريا أو العراق أو اليمن، لكني أعرف جيداً ما يمكن أن تفعله الضربات الجوية والقصف العشوائي عندما يستهدف مناطق مكتظةً بالسكان. في القسم الأيمن من الموصل، وقبل السيطرة عليه بشكلٍ كامل من قبل القوات العراقية وقوات التحالف، قابلتُ شاباً كان قد فقد عقله: «25 شخصاً من عائلتي كانوا موجودين في هذا المبنى عند قصفه قبل 17 يوماً. مُنعت من نبش حطام المبنى لأُخرِج ما تبقى من جثثهم. قد يكون أحدهم ما يزال على قيد الحياة. ساعدوني.. أرجوكم». كان يُكرّر هذه القصة لكل من يراه وهو يحوم حول بقايا بيته وبقايا عائلته.
الحرب في أوكرانيا لا تشبه الحروب التي شهدناها في العالم العربي خلال السنوات الماضية، فرغم الاعتراض على إطلاق تسمية «الحرب الأهليّة» على النزاعات المسلحة التي تلت ثورات الربيع العربي، إلا إنّه لا يمكن إنكار الطابع الأهلي لهذه النزاعات، ولا أنها قامت بشكل رئيسي بين مكونات شعبٍ واحدٍ على أرضٍ واحدة. أما في أوكرانيا، فإن الحرب في إطارها العام هي بين جيشين نظاميين بقدرات لوجستية وعسكرية واستخباراتية هائلة. الحرب هنا هي حربٌ بين دولتين لكلٍّ منهما داعموها: قوة احتلالٍ وغزو تواجهها قوة دفاعٍ ومقاومة.
الحرب هنا شأنُ الجميع؛ بدءاً من رئيس الدولة حتى أصغر مواطن، كلٌّ من موقعه ووفق قدرته على المشاركة. والمقاومة هنا ليست فقط مقاومةً عسكرية، بل هي أيضاً في السعي المستميت من الحكومة الأوكرانيّة لضمان استمرار الحياة الطبيعيّة والخدمات العامة. لا تزال الخدمات العامة، بما فيها الصحة والتعليم والوظائف العامة والخاصة والمياه والكهرباء والمواصلات، تسير بشكلٍ منتظمٍ في معظم المناطق الأوكرانية.
عملتْ الحكومة الأوكرانية أيضاً على تنظيم عمليات المساعدات الإنسانيّة بشكلٍ مُحكَم. عندما أخبرْنا أحد المساعدين الأوكرانيين عن بعض المساعدات الماليّة التي نرغب في تقديمها للنازحين، لم يتطوّع بأخذنا إليهم مباشرةً، بل أَخذَنا إلى أحد مكاتب اللجنة الحكوميّة المسؤولة عن دعم النازحين، واستغرَقَنا الأمر ساعتين حتى تمّ توثيق المساعدات وتقديم الوثائق الرسميّة اللازمة للمانحين. أتذكرُ ارتباكه عندما أخبرته بأن ما قام به فعلٌ استثنائي، ففي حالة الحرب تزداد نزعة الإنسان نحو المكاسب الفرديّة، ونحو التحجّج بالفوضى للقيام ببعض النشاطات، ولو كان ذلك بحسن نيّة. قال لي وقتها ما معناه: «لن نعاون قوات الاحتلال على تحطيم النظام في بلدنا وفي حياتنا اليومية. الحكومة مستمرة ونحن مستمرون».
لعبت الحكومة الأوكرانيّة دوراً استثنائياً في تعريف هذه الحرب وانتقاء مصطلحاتها وتعابيرها وتوصيفاتها، وبالتالي صناعة قصتها. التماسك الاجتماعي لدى الشعب الأوكراني يثير الإعجاب، فالجميع لديه سرديّة واحدة متماسكة عمّا يجري في البلاد. هي سرديّة مبنية على كلمات غير قابلة للتمييع، مثل: الغزاة، والمحتلون، والمقاومة. كل الأوكرانيين الذين قابلتهم، سواءً من الحكومة أو من المنظمات المحلية أو من الناس العاديين، كانت لديهم السرديّة نفسها عن هذه الحرب: حيث لا توجد آراء فرديّة، أو عبارة مثل «أوافقك، ولكن…». ليس من المسموح شعبياً وحكومياً أن تكون قصة كفاحهم مائعةً أو حمّالة أوجه. الهويّة الموحّدة لهذا الصراع عزّزت الانتماء الوطني، وتدفع بأوكرانيا للمضي حتى النهاية. يقود الرئيس الأوكراني بنفسه عمليات المقاومة العسكرية والمدنية والسياسية، وحتى الإعلامية، ما أعطى مصداقيةً عاليةً وقطَعَ طريق التشويش أمام كثيرٍ من مجموعات الضغط ووسائل الإعلام. عندما سألتُ السائق الشاب الذي عمل معنا عن سبب عدم سفره إلى خارج البلاد، أجابني: «البقاء في البلد فعلُ مقاومة. لا أفكر بالسفر حالياً، بل بالعمل على دعم بلدي. الحكومة موجودة وتتصدّر المشهد العسكري والسياسي والإعلامي بأداءٍ جيد. هناك عدّة طرق للخروج من البلد، ولكني أشعر بالخزي عندما أفكر بذلك. أرغب بالبقاء هنا، والاستمرار في عملي الذي لم أنقطع عنه. عندما يحين النداء لحمل السلاح سأكون جاهزاً. أمّا الآن، فأساعد المنظمات الأجنبية لتنقل للعالم ما حلّ ببلدي من خرابٍ ودمار».
المقاومة هنا -بالنسبة لي كسوري- هي نظامٌ يوفّر صافرات إنذار بطول البلاد وعرضها، كي يمنح الفرصة الأخيرة لمحاولة النجاة، لا نظاماً ينتظر فرق الإسعاف والإنقاذ حتى تصل إلى مكان الهجوم الأول لكي يُغير عليها ثانيةً، ويكدّس جثث المُسعفين فوق جثث المدنيين.
خلال نقاشاتٍ عديدة مع موظفي المنظمات الإغاثيّة، لطالما جرى الحديث عن الفوارق الجوهريّة بين سرديّة الحربين السورية والأوكرانية، وبالتالي طريقة الدعم المُقدّم من النواحي الإغاثيّة وغير الإغاثيّة. فمثلاً، قال لي أحد الأصدقاء: «لا شك أنّ دعم أوكرانيا بالنسبة للقوى الغربية خيارٌ استراتيجيٌّ ووجودي، لكن من المنطقي أيضاً أن تَعدُّد السرديات، وبالتالي التوجّه السياسي أو العسكري أو الشعبي في السياق السوريّ، صعّبَ علينا فهم تعقيدات هذه الحرب وأدوار الأطراف المنخرطة فيها. كذلك، فإن تحوّلات الصراع السوري المتكررة، بما فيها سيطرة الحركات الراديكالية المتطرفة على المشهد المتشابك أصلاً، جعل الانخراط في العمل الإغاثي أمراً بالغ التعقيد».
لا مناطق حظر جوي
جرى تشبيه مشاهد الدمار الرهيبة الواردة من جبهات القتال في أوكرانيا، إلى حدٍّ كبير، بتلك التي رأيناها في حلب والموصل. ومع أن المقارنة تبدو معقولةً من ناحية حجم الدمار الهائل في هذه المدن، إلا إنه من الواجب الاشارة إلى أن الدمار الرهيب في المدن الأوكرانية حصل خلال بضعة أسابيع فقط، مقارنةً بدمارٍ مماثل حصل على مدار أشهر أو سنوات في النزاعات المسلّحة الأخرى، مما يعكس الضراوة والوحشيّة في الاستراتيجيّة العسكرية الروسيّة.
خلال معارك مدينة الموصل (2016-2017)، كانت المشاريع والبرامج في المجال الإنساني مبنيةً على حقيقة أن مقاتلي داعش لا يمتلكون قدراتٍ عسكرية جويّة، وأنّهم كانوا قادرين فقط على الاشتباك مباشرةً على الأرض من المسافة صفر، أو إطلاق قذائف الهاون من مسافةٍ قريبةٍ لا تتجاوز بضعة كيلومتراتٍ قليلة. وفي مناسباتٍ معدودة، جرى استخدام «المُسيّرات الانتحارية» لتأخير تقدّم القوات المُهاجِمة، ولكن ليس ضد المنشآت الطبيّة أو مخيمات النازحين على ما أذكر. إنّ افتقار داعش للقدرات العسكريّة الجويّة سمح بتوسيع مساحة عمل الفرق الإنسانية والطبية لتنفيذ مشاريع حتى على الخطوط الأماميّة، أو بالقرب منها، بما في ذلك العيادات المتنقّلة ونقاط علاج الإصابات الحربية، مع إحساسٍ معقولٍ بالأمان.
كان الوضع معاكساً تماماً في سوريا، إذ إن قوات النظام والقوات الروسيّة تمتلكان ترسانةً ضخمةً من الأسلحة والقدرة التدميرية التي أنهكت القوى الناشطة على الأرض، وجعلت كل شيءٍ يتحرك هدفاً ممكناً. طوال سنواتٍ عديدة، دعا السوريون المجتمعَ الدولي إلى فرض مناطق حظرٍ للطيران، على الأقل فوق المناطق المكتظة بملايين المدنيين النازحين في شمال غربي سوريا، لحمايتهم من الهجمات الوحشيّة التي يشنها نظام الأسد وروسيا. حتى يومنا هذا، وبعد أكثر من عقدٍ كاملٍ من التوحّش، لا يزال المدنيون السوريون ومخيمات النازحين ومرافق الرعاية الصحية والمشاريع الإنسانية، بلا حولٍ ولا قوة، تحت جحيم الآلة العسكرية لجزّاريهم.
في مرّاتٍ عديدة، كنت أجادل -كسوريّ، مرةً أخرى- في فكرة أنّه يتوجب ألا يختلط علينا الشعور بـ«الحياة الطبيعية» في المناطق الغربية والوسطى، بما في ذلك مدينة لفيف الملاصقة حرفياً لحدود حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وحقيقة أنه لن تكون هناك منطقة آمنة للعمليات الإنسانيّة في أوكرانيا طالما إن الطائرات المقاتلة والصواريخ الروسية تهيمن على سماء البلاد دون ردعٍ حقيقي. المُترجمة التي عملت معنا خلال البرامج التدريبية في وسط البلاد تعترفُ بأنّها خائفةٌ على نفسها وعائلتها من القصف الجوّي، وكانت تكرر دوماً: «ما زلنا بخير، ومدينتنا ما زالت بخير، لكن الأمر لن يحتاج أكثر من صاروخٍ واحدٍ في لحظةٍ واحدةٍ حتى يشتعل الجحيم».
كما هو معلوم اليوم، رُفِضَت فكرة الحظر الجوي فوق أوكرانيا، كما هو الحال في سوريا من قبل، بشكلٍ قاطعٍ خشيةَ التصعيد و«خروج الصراع عن السيطرة». مرةً أخرى تربح الاعتباراتُ السياسيّة والأمنيّة على حساب أرواح الناس وحيواتهم وأطفالهم ومدنهم وحاضرهم ومستقبلهم. أعتقد أنها المرة الأولى التي سيتسنّى فيها للكثيرين حول العالم أن يفهموا فداحة سيطرة قوات النظام والقوات الروسية على السماء في سوريا، ولكن من خلال المأساة الأوكرانيّة وعبر أَعيُن ضحاياها.
فاتورة الحرب لا تزال في بدايتها
أدّى الهجوم الوحشي إلى مقتل الآلاف حتى الآن، وبطبيعة الحال، بسبب صعوبة تلقي معلومات مؤكّدة من مناطق الاشتباك، فإن الأعداد الحقيقيّة للضحايا سترتفع بشكلٍ كبير مع مرور الزمن، وعقب التمكن من الدخول خاصةً إلى المناطق المحاصرة. ومن الجدير بالذكر أن الأعداد الرسميّة المُعلنة هي أعداد الضحايا المدنيين وليس العسكريين. في سياقٍ متصل، أفادت خدمة الطوارئ الحكومية في أوكرانيا SESU أن حوالي 300.000 كيلومترٍ مربع، أو ما يقرب من نصف مساحة أوكرانيا، صارت تتطلب عمليات إزالة الألغام والأسلحة غير المنفجرة، وهذا سيزيد تدريجياً، وبشكلٍ مطرد، من التكلفة البشرية للحرب لفترة طويلة قادمة، خاصةً أن عمليات نزع الألغام بطيئةٌ وتتطلب ظروفاً أمنيةً مناسبةً وموارد مالية هائلة.
طالما أن الحرب لا تزال تعصف بالبلاد بلا هوادة، وبدون نهايةٍ تلوح في الأفق، فمن الصعب تقييم آثارها المُدمِّرة على أوكرانيا. منذ بداية الحرب، تستهدف الآلة العسكرية الروسية، بكثافة وبشكلٍ متعمّد، المناطق السكنية ومنشآت الرعاية الصحية والمدارس والطرق والجسور ومرافق المياه والكهرباء وغيرها من البنى التحتية الحيوية. وقد أفاد صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن 1.4 مليون شخص ليس لديهم في الوقت الحالي وصولٌ للمياه الجارية في أنحاء شرق أوكرانيا، وأن الأضرار المرتبطة بالأعمال العدائية التي لحقتْ بالبنية التحتية، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي، تُعرّض 4.6 مليون شخصٍ إضافي في جميع أنحاء أوكرانيا لخطر فقدان الوصول إلى المياه. على المدى القريب، تتسبب الاستراتيجيّة الروسيّة في إعاقة إيصال المساعدات الإنسانيّة إلى السكان الأكثر ضعفاً. سألني أحد المسؤولين الأوكرانيين عن أوضاع النازحين في سوريا، وعن كيفية التعامل مع موضوع السكن والخدمات الأساسيّة. أخبرتُه أن مئات آلاف السوريين ما زالوا يعيشون في الخيام حتى بعد سنواتٍ طويلةٍ من تهجيرهم. ليس غياب الحل السياسي العادل وحده ما يمنعهم من العودة، ففي حال قرّروا العودة، فإلى أين؟ لقد أصبحت مدنهم وقراهم حطاماً. يمكن فهم الاستراتيجيّة الروسيّة على أنها تكتيكٌ يهدف إلى إنهاك أوكرانيا خلال الحرب، وتحويلها إلى دولةٍ فاشلةٍ ومحطّمة، وكذلك إثقال كاهل أوكرانيا ما بعد الحرب لسنواتٍ طويلةٍ قادمة، ليس فقط من الناحية الاقتصاديّة، ولكن أيضاً باستحقاقاتٍ اجتماعيّة سيصعب التعامل معها.
أدى القتال العنيف إلى اقتلاع ملايين المدنيين من جذورهم، وأجبرَهم على الفرار طلباً للأمان والحماية. في اليوم الأول من الغزو، سجلت المفوضية نحو 77 ألف لاجئٍ عبَروا الحدود إلى الدول المجاورة، وبعد شهرٍ واحدٍ فقط تجاوز العدد 3.65 مليون لاجئ. اليوم، وخلال أقل من شهرين، تجاوز عدد اللاجئين خمسة ملايين. بالإضافة إلى ذلك، نزح أكثر من 7.7 مليون شخص داخلياً حتى 17 نيسان (أبريل) الجاري، وذلك وفقًا للمنظمة الدوليّة للهجرة. بفضل الإجراءات والسياسات غير الاعتيادية لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين في الدول المجاورة، نجح الملايين منهم في العثور على ملاذٍ مناسب، ولو بشكلٍ مؤقتٍ على الأقل. من الجدير بالذكر أن هذه الضيافة من دول الجوار كانت «ضيافةً انتقائيةً» على نطاقٍ واسع، حيث جرى إبعاد «غير الأوكرانيين» عن المعابر الحدودية، ومُنع كثيرون منهم من مغادرة أوكرانيا التي مزقتها الحرب، وتتحدّث كثيرٌ من المنظمات الحقوقيّة عن انتهاكاتٍ واسعةٍ ضدهم. من المهم أيضاً ملاحظة أن الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 60 عاماً ممنوعون من مغادرة البلاد. قد يفسر ذلك جزئياً الكفاءة غير المتوقعة للسلطات الأوكرانية في تجنب الفراغ أو انهيار الخدمات العامة، لا سيما في المناطق الوسطى والغربية، ولكنه قد يعني أيضاً أن عدد اللاجئين كان يمكن أن يكون أعلى بكثير بدون هذا الحظر. بناءً على حجم الدمار الواسع، لا سيما في المناطق الشرقية، لن يتمكن اللاجئون والنازحون داخلياً من العودة إلى بلداتهم ومدنهم في المستقبل القريب، ما سيؤدي إلى تفاقم محنة هذا الغزو وتكاليفه وآثاره.
لا مكان آمن: استهداف البنية التحتية الطبية
لعلّ من أسرع الطرق لتأمين الخدمات الصحية في النزاعات المسلحة هو بناء منشآت صحية غير إسمنتية (خيام أو كرفانات) لتقديمها فيها، أو أن تُجرى تعديلاتٌ على الأبنية المتوافرة ليتم استعمالها كمستشفياتٍ أو عياداتٍ طبيّة. رغم كفاءة هذه الطريقة وقدرتها على تقديم الخدمات بسرعة خلال فترات القتال، إلا إنها تبقى أقل من المستوى المطلوب من ناحية كفاءة الخدمات ومرونتها، فضلاً عن كونها أقل قدرةً على الصمود أمام الهجمات المسلحة.
أغلب المشافي التي زُرتها في أوكرانيا كانت من بقايا الحقبة السوفييتية: مستشفيات هائلة الحجم، وجاهزة وقادرة على استيعاب تدفّق الجرحى في أي لحظة، ومجهزة ببنى تحتية ملائمة للحروب، بما في ذلك الملاجئ. قال أحد الأطباء الزائرين، مازحاً، إنه يفضّل العمل ضمن جدران إسمنتية من الحقبة السوفييتية على أن يعمل في أي مستشفىً ميداني آخر مهما كانت معايير متانته وسلامته. تُؤمّنُ هذه المستشفيات مساحاتٍ آمنةً للمنظمات الدولية كي تقدم الخدمات الطبيّة للمرضى والجرحى بشكلٍ مباشر، كما أنها توفّر مكاناً ملائماً لتنفيذ مشاريع تدريبية للكوادر الطبية، حيث يمكن استقبال الأطباء والممرضين والمسعفين لتدريبهم، ومن ثم عودتهم إلى مراكزهم المتقدمة على الجبهات المشتعلة.
كل الكوادر الطبية في المستشفيات الأوكرانية تمارس عملها بشكلٍ منتظمٍ لتقديم الخدمات اليومية، مع الاستعداد للتحوّل إلى حالة الطوارئ الحربية عند الحاجة. خلال تجوالنا في أحد المشافي، أُطلقت صافرات الإنذار معلنةً عن غارةٍ جوية أو هجومٍ صاروخي. لم تستغرق الكوادر الطبية سوى بضع دقائق حتى نقلت كل المرضى ومرافقيهم إلى ملجأ تحت الأرض. قالت لي مديرة المشفى: «قبل أسابيع لم يكن الملجأ مجهّزاً بشكلٍ مناسب، لكن بعض الأهالي تبرعوا لتأثيثه وتأمين شبكة تواصل مع العالم الخارجي. بالموارد المتوافرة حالياً، نسعى للحفاظ على مناخٍ عام من الاستقرار والانضباط في الخدمات الطبية. قد تسوء الأمور كلها فجأةً، ولكننا نعمل على امتصاص الصدمة. من أكبر مخاوفنا وهواجسنا حالياً الهجومُ بأسلحة غير تقليدية، كالسلاح الكيماوي أو النووي، والذي لا نعرف كيف سنتعامل معه».
في الحقيقة، تستمر النقاشات حول حماية المنشآت الصحية وكوادرها منذ أكثر من مئةٍ وخمسين عاماً. إنّ اندلاع العنف بطبيعته يؤثر على توافر الخدمات الصحية وإمكانية الوصول إليها، وعلى جودتها، ويصبح الأمر أكثر تعقيداً ودمويةً عندما تكون القوات المُتحاربة أكثر تسليحاً وأقل التزاماً بالقوانين الدوليّة والإنسانيّة. وبالتالي فمن المتوقّع أن يتسبب غزو أوكرانيا بآثارٍ مدمّرةٍ على القطاع الصحي على المدى القصير والطويل.
خلال فترة خمس سنواتٍ فقط، بين عامي 2016 و2021، حصل حوالي 4000 هجوم موثّق على مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها حول العالم. وبالنظر إلى الهجمات العسكرية الروسية المُتعمّدة والمستمرة على الخدمات الصحية في أوكرانيا، فقد نحتاج إلى إعادة قراءة ما تعلّمناه من الهجمات العسكرية على القطاع الصحي في سوريا وفي نزاعاتٍ مسلحة أخرى لنفهم بشكلٍ أفضل «لماذا ما زلنا نرى هذا النوع من جرائم الحرب».
يُعدّ نظام الأسد وحلفاؤه، وبشكلٍ خاص روسيا، مسؤولين عن أكثر من 90 بالمئة من قرابة 600 هجومٍ وحشي على مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها في سوريا. لسنواتٍ طويلة، كان النشطاء السوريون والدوليون، بمختلف اختصاصاتهم، يناشدون المحاكم الدوليّة والمؤسسات الحقوقية لاتخاذ إجراءاتٍ قانونية لمحاسبة نظام الأسد وحلفائه على هجماتهم المتعمدة على المنشآت الصحية والعاملين فيها. لسوء الحظ، بعد عقدٍ دامٍ، لا يزال مرتكبو جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا محصنين ومحميّين من أية ملاحقةٍ قانونيةٍ أو جنائية. استخدمت روسيا حق النقض ضد 12 قرار لمجلس الأمن الدولي بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، والقصف الجوي العشوائي، واستخدام القوة ضد المدنيين، واستخدام الأسلحة الكيماوية، من بين انتهاكاتٍ أخرى كثيرة منذ بدء الثورة السورية في آذار (مارس) 2011.
ربما كان الشعور بالإفلات من العقاب، المُكتسب من النموذج السوري من بين نماذج عديدة أخرى للنزاعات المسلحة، قد لعب دوراً رئيسياً في تشجيع القوات الغازية في أوكرانيا على ارتكاب مثل هذه الجرائم، ودون أي إحساس بإمكانية المساءلة أو التقديم للعدالة.
منذ بدء الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، جرى استهداف المنشآت الصحية بشكلٍ متعمّد، حيث وثّقت منظمة الصحة العالميّة خلال أقل من شهرين من الغزو أكثر من 150 هجمة؛ أي أكثر من هجومين كل يوم على المنشآت الصحيّة وسيارات الإسعاف والكوادر الصحية وحتى المرضى، في حين تتجاوز الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة الأوكرانية 300 هجومٍ مُمنهجٍ ضد منشآتها الصحية وكوادرها. حسب منظمّة الصحة، فإنّ حوالي 90 بالمئة من هذه الهجمات استهدفت البنى التحتية الصحية، و20 بالمئة استهدفت الكوادر الصحية. أودت هذه الهجمات، حتى الآن، بحياة 73 شخصاً وتسبّبت في جرح 51 آخرين. من الضروري الإشارة إلى أن هذه الأرقام تشير إلى ما تم توثيقه فقط، ونتيجة صعوبة الحصول على المعلومات من ساحات القتال، فستبقى الأعداد مرشحةً للزيادة بشكلٍ كبير.
تُسبّب هذه الهجمات ضغوطًا هائلةً على النظام الصحي، على المدى القصير والطويل، وستُعرّض بلا شك أرواحاً لا حصر لها للخطر، ليس فقط بسبب غياب الرعاية للإصابات الحربية المباشرة، ولكن أيضاً من خلال تعطيل الوصول الآمن إلى خدمات التشخيص والعلاج للأمراض المزمنة والمُعدية، مثل أمراض القلب والسرطان والسكري والسلّ وغيرها.
تُشكّل الهجمات على المرافق الصحيّة جزءاً مهمّاً من أهوال الحروب. خلال النزاعات المسلّحة، يجب حماية المدنيين والبنية التحتية، وخاصةً مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها، بشكلٍ كاملٍ من الهجمات العسكريّة. إن عمليات المناصرة وحدها، على أهميتها، ليست كافيةً، فهناك حاجة ماسّة لاتخاذ إجراءاتٍ ملموسةٍ وحاسمةٍ ضد هذا النوع من الجرائم. ربّما تقدّمُ الحرب في أوكرانيا «فرصةً» نادرةً -في ظل هذه التعبئة والدعم غير المحدودين- لتطوير سياساتٍ وإجراءاتٍ أكثر صرامة، من أجل حماية مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها، وتقليل الضغوط الصحية والاقتصادية التي تُسبّبها هذه الهجمات على المجتمعات المنكوبة. إنّ محاسبة الجناة ومجرمي الحرب المتورطين في هذه الهجمات في أوكرانيا، ومن خلفها كل الحروب الأخرى، ستمنح بعض الأمل لآلاف العاملين الطبيين الذين تعرّضوا للاستهداف فقط بسبب تفانيهم في خدمة المرضى والجرحى.
على الرغم من أن ديناميات النزاع المسلح في أوكرانيا تختلف عن تلك التي عايشناها في العالم العربي، سواءً في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا، إلا أن الأزمات الإنسانية الناتجة عن هذه الحروب تتشابه إلى حدٍّ بعيد.
تتيح عمليات الاستجابة لحالات الطوارئ الإنسانية في مثل هذه البيئات شديدةِ التسييس والعسكرة، فرصةً نادرةً لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الإغاثية لمراقبة كيف أن العنف يعيق تقديم المساعدات، ويساهم في انهيار المؤسسات العامة، ويشرّد المدنيين، ويغيّر حياتهم إلى الأبد. في موازاة ذلك، يوفر أيضاً فرصةً نادرةً لتطوير الإجراءات والسياسات والمنهجيات التي تهدف إلى تخفيف المعاناة وتعزيز تعافي المجتمعات المتضررة، ليس فقط في المناطق المنكوبة، ولكن في أيّ منطقةٍ أخرى قد تتعرض لكوارث مشابهة.
*****
بالنسبة لنا، كسوريين، أعتقد أن ما يجري في أوكرانيا هو «فرصة» نادرة لإعادة الملف السوري، وضحاياه وجلّاديه، إلى طاولة المجتمع الدولي. الكثير من الانتهاكات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا لا تزال مرميّةً في أدراج بيروقراطية المجتمع الدولي، واعتباراته السياسية والأمنية والاقتصادية. ملايين العائلات لا تزال تنتظر شيئاً من العدل والسلام لضحاياها.
ما لمستُهُ في أوكرانيا هو احترامٌ شديدٌ لكل سوريٍّ سعى ويسعى لتقديم الخدمات للشعب الأوكراني، من خلال مشاركة الدروس والتجارب التي تعلمناها بأثمان باهظة، شملت استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية والموت في المعتقلات والعيش في مخيمات النزوح. وعلى الرغم من الاختلافات بين السياقين السوري والأوكراني، فإن نقاط التشابه كثيرة، والمساحات المشتركة واسعة، والفرصة مفتوحة أمام المنظمات الإغاثيّة ومنظمات المجتمع المدني السوري لتعمل يداً بيد مع المنظمات الأوكرانيّة. إنّ فرصة تقديم المجرمين، المجرمين أنفسهم في الحالتين، إلى العدالة ستكون انتصاراً مشتركاً، لنا ولهم ولكل الشعوب التي عانت من ويلات الحروب. آن الأوان لأن يشعر السوريون المحكومون بالأمل، ولو على غير أرضهم، أنّ ما وقع عليهم من ظلمٍ وقهرٍ وإذلال لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ.