الفهرسالفصل الأول: السلطة |
يركز الفصل السادس على حياة المدنيين في ظل هذه الحرب الوحشية المتعددة الأطراف. مع حلول صيف 2013، استطاع الثوار إخراج قوات النظام من 60 بالمئة من الأراضي السورية وفرضوا سيطرتهم على مساحات واسعة في الشمال والغرب. شن الثوار هجوماً عنيفاً لضم حلب إلى سيطرتهم، باعتبارها أكبر مدن سوريا وعاصمتها الاقتصادية. وبعد معركة دامية لم تُحسم الحرب، لكنها أدت إلى تقسيم المدينة إلى جزأين، حلب الغربية بيد النظام، والشرقية الأكثر فقراً بيد المعارضة.
أقام الثوار في تلك المناطق وغيرها مما يخضع لسيطرتهم – التي يشيرون اليها عادةً بالمناطق المحررة – مجالس محلية تدير المنطقة وتوفر الخدمات للسكان. انتخب السكان في حلب الشرقية ممثليهم في المجلس المحلي، لكنهم وكبقية قاطني المناطق المحررة عانوا من الدمار الهائل في أحيائهم، وافتقارهم لأبسط مقومات الحياة كالغذاء والماء والكهرباء، بالإضافة إلى ما عايشوه يومياً من اشتباكات مسلحة على الأرض، وقصف جوي من الأسد وحلفائه الذين كانوا يحتكرون استخدام السلاح الجوي لم يكن غريباً ههنا أن ترى مخلفات الصواريخ تستعمل للعب، أو أن ترى مدنيين غير مدربين يشكلون فرقا لإنقاذ مدنيين مثلهم من تحت الأنقاض، أو ينظمون مظاهرات جديدة بمجرد الإعلان عن هدنة، فتلك المجتمعات أيقنت أن الصمود هو السبيل الوحيد للعيش والاستمرار. في الجهة الأخرى، تعايش سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام بدورهم مع قذائف الهاون التي تسقط عليهم عشوائياً من مناطق المعارضة المجاورة، الجميع من كلا الطرفين كان يدفن موتاه ويتابع حياته.
أخذ الرعب عدة أشكال في هذه الحرب الطاحنة التي كان أكبر ضحاياها هم المدنيين. سنّت داعش قوانين مرعبة في المناطق التي سيطرت عليها، فاغتصبت النساء والفتيات وجنّدت الأطفال وفعلت فظائع أصبحت لاحقاً علامة مسجلة باسمها مثل قطع الرؤوس. كما سقط على يد النظام أعداد أكبر من الضحايا وبعدة وسائل، أولها البراميل المتفجرة، وهي عبارة عن براميل نفط أو غاز ممتلئة بمواد متفجرة أو حادة ترمى على المناطق السكنية بما تحتويه من مدارس ومستشفيات وأسواق. اتَّبع النظام أيضا سياسة «الجوع أو الركوع» في العديد من المناطق التي حاصرتها قواته، ومنعت وصول الغذاء إليها يتذكر الكثيرون الصورة المؤلمة التي التقطت لرجال ونساء وأطفال بأجساد هزيلة بالكاد تحملهم، يقفون في طوابير على مد النظر بانتظار استلام سلتهم الغذائية من موظفي الأمم المتحدة. التقطت تلك الصورة في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق، حين كان تحت الحصار الذي فرضه النظام ليضيق على الثوار، وتسبب بمجاعة للمدنيين.
ازدادت وحشية جرائم الحرب في شهر آب عام 2013، حين سقطت صواريخ محملة بالأسلحة الكيماوية على سكان الغوطة الشرقية في ريف دمشق وقتلت ما يقارب 1400 إنسان، بينهم أكثر من أربعمئة طفل، يجزم الخبراء أن نظام الأسد هو وحده القادر على شن مثل هذا الهجوم المريع. استنكرت حينها الولايات المتحدة الهجوم الكيماوي الذي سبق أن وصفته بالخط الأحمر، وهو ما رفع الآمال لدى السوريين بأنها ستقوم بخطوة رادعة ضد النظام. وبعد تهديدات متكررة وغير مؤكدة بضربة وشيكة، أرسلت الولايات المتحدة طائراتها أخيراً في عام 2014، إنما ليس ضد نظام الأسد بل ضد أهداف تابعة لتنظيم داعش. أصدرت الأمم المتحدة تقريراً يذكر أنه حتى آذار 2015 فإن 6 بالمئة من الشعب السوري قتل أو جرح، بينما يعيش 80 بالمئة منهم تحت خط الفقر، وإن غالبية الأطفال حرموا من المدرسة. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية البلد كبقعة مظلمة تماماً بعد انقطاع الكهرباء عن 83 بالمئة من مساحته.
أبو فراس، مقاتل (ريف إدلب)
منذ وقت طويل لم أسمع بشخص توفي وفاة طبيعية، في البدء كان يُقتَل في اليوم شخص أو شخصان، ثم ارتفع العدد إلى عشرين، ولاحقاً خمسين، إلى أن بات الأمر عادياً. أصبحنا نشكر الله حين نخسر خمسين فقط!
لم أعد أستطيع النوم بلا أصوات القصف والرصاص، من دونها كان شيء ما ينقصنا. أذكر أنهم قصفوا أحد دكاكين البلدة في عيد الفطر الماضي فَفرَّ الناس، وبعد نصف ساعة عادوا للبيع والشراء وكأن شيئاً لم يكن.
رنا، أُمّ (حلب)
إنه كابوس بكل معنى الكلمة، أو فيلم رعب تحول إلى حقيقة. لا يمكن أن أصف شعور الخوف الذي كان ينتابني. أصبت بأمراض جسدية بسبب التوتر والضغط، وأعاني حتى اليوم من أمراض هضمية.
كان القصف شتاءً. تحطمت حينها نوافذ المنزل، وبدأت شفاه ابني تزرقُّ من البرد، كان علينا في نهاية المطاف أن نهرب من منزلنا بما علينا من ثياب وحسب. قضينا ثمانية أشهر نتنقل من مكان إلى آخر. أحياناً نجد مكاناً نستأجره وأحياناً لا نجد. كان شيئاً يشبه العطلة، لكنها عطلة تحت القصف! حتى طفلي البالغ من العمر ثلاث سنوات كان يستطيع التفريق بين أنواع القذائف والصواريخ.
مرَّت ستة أشهر لم أرَ فيها عائلتي التي تعيش في الريف، وعندما استطعتُ زيارتهم أخيراً قصفوا مناطقهم أيضاً. نام الأطفال في المدخل، ولم نستطع الإغفاء طوال الليل، فإثرَ كل قذيفة كانت الأبواب تتراقص وتهتز، ويصبح لون السماء بنياً من الغبار والأتربة التي تملأ الجو.
عدنا إلى منزلنا لكن القصف استمرّ. كنت أسألُ والدتي عبر الهاتف: «هل قُصفتم أم ليس بعد؟!».
أمين، معالج فيزيائي (حلب)
بعض المناطق في سورية-مخيمات النزوح مثلاً-كانت في أمسِّ الحاجة إلى خبرتي كمعالج فيزيائي. وجدتُ نفسي أعملُ في أحدها لقناعتي حينها أن مهمتي هي مساعدة الناس، لكنْ، بعد ثلاث سنوات من الثورة، أصبحتُ أشعر أن الناس لم تَعُد مهتمة أصلاً. نتوجّه إلى المريض قائلين: «نريد أن نعالجك لتمشي مجدداً»، فيردّ: «لقد انتهيت، كل ما أرغب فيه هو الموت»، أو نقول لطفل مصاب: «عليك أن تشفى لتذهب إلى المدرسة وعليك أن…»، فيردّ: «لا أريد أنْ أُجرَّ بكرسي متحرك من جديد ويسخر مني الأطفال». أحدهم كان مصاباً بشلل الأطفال، وكان كثيراً ما يقول خلال حديثه معي: «عندما كنت طفلاً، كان كذا» وهو ما يزال في العاشرة من العمر فحسب!
عندما كان يموت أحدهم كنا نقول: علينا أن نكمل، علينا أن نستمرّ… لكن ما الذي علينا أن نكمله؟ أمامنا طريق مسدود. رأيت العديد من أصدقائي يموتون أمامي، بعضهم مات في الثورة، والبعض الآخر حين كنت في الخدمة الإلزامية. جميعهم في ريعان شبابهم. أحدهم كنت أتحدث إليه، وكان حلمه الوحيد حينها أن يسمع صوت أمه مجدداً. لم تكن لدينا أي وسيلة للاتصال، ومات قبل أن يحدثها.
شاب آخر اتصل بحبيبته وقال لها: «لم يعد لديّ رصيدٌ كافٍ في هاتفي، سأعاود الاتصال بك من هاتف صديقي أمين». بعد برهة اتصلَت بي تسأل عنه فأخبرتُها أنه قُتِل. بكت كثيراً، ولامني أصدقائي لأنني أبلغتُها الخبر، فأجبت: «ذلك ما حصل بالفعل، لقد مات!».
هذا ما يحصل عندما تفقد إنسانيتك. كنت أفتحُ جهات الاتصال المسجلة في هاتفي وأتأمل الأسماء، واحدٌ أو اثنان ما يزالان على قيد الحياة. قيل لنا: «إذا مات أحدهم لا تمسح رقمه، فقط غيّر اسمه إلى «شهيد». فإن وصلتك رسالة من رقمه ستعرف أن أحداً ما أخذ رقمه، ويحاول خداعك والإيقاع بك». قائمة الأسماء في هاتفي عبارة عن: شهيد، شهيد، شهيد…
جلال، مصوّر (حلب)
في الأيام الأولى كنا نصور المظاهرات بالهواتف النقالة. بعدها أصبح في إمكاننا إحضار كاميرات أكثر تطوراً تعلّمْنا بأنفسنا كيف نستخدمها. وعندما بدأ المصورون من خارج سوريا بالتوافد عملتُ معهم مرافقاً، وراقبتُ كيف يتعاملون مع الصور. وفي عام 2013 أصبحتُ مصوراً مستقلاً أعمل مع وكالات الأخبار.
يملكُ بعضهم موهبة في تصوير المعارك، وآخرون يبرعون في تصوير الحياة اليومية للناس، أما أنا فأحبّ صور الأمل، الأمل الكامن تحت ركام الموت. مثلاً التقطت عدستي صورة عربة برتقال يجرها صاحبها ليلاً، كانت الخلفية بناءً منهاراً بالكامل، وضوء خافت على البرتقال أًظْهره نظيفاً يلمع. لا شك أن ذلك البائع كان شاهداً على موت كثيرين، ورغم ذلك كان يقف خلف عربته يبيع فاكهته اللذيذة. عندما ترى تلك الصورة تقول: «هذه هي الحياة».
بالنسبة لي، أستطيع أن أتفهم أي شيء يمكن أن يفعله هؤلاء الناس، فالنظام كان يفتك بنا قائلاً إنه يقاتل وحوشاً، حتى أصبحنا وحوشاً حقاً. تفكَّكَ المجتمع السوري لأن العائلات تفرّقت. اجمع أي عائلة الآن على طاولة واحدة، وستجد حتماً أربعة أو خمسة كراسٍ فارغة.
التقطت مرةً صورةً لبرميل قتل ثلاثة أطفال، كنت أصوّرُ أباهم المفجوع وهو يردد: «تركتهم ساعة واحدة فقط أبحث لهم عن مكان آمن، ورجعت فوجدتهم قد راحوا!».
عندي أربعة أطفال، وضمان مستقبلهم هو كل همي في الحياة. لذا أستطيعُ أن أشعر بما يحسّه هذا الرجل الذي ودّع لتوِّه كل معنىً لحياته، ومن ثَمَّ فإني أستطيع تفهُّمَه لو تحوّل إلى وحش.
في النهاية، حتى الوحش يملك أملاً في أن يعودَ إلى إنسانيته مرة أخرى، ويعيشَ كغيره من البشر.
كريم، طبيب (حمص)
غرفة العمليات مشغولة على مدار الساعة، وكان علينا أَنْ نأخذَ صورة أشعةٍ لكلِّ عملية. صحيح أن الصورة تأخذ جزءً من الثّانية لكننا كنا نأخذ كثيراً منها، وحين أحصينا تبيّن أننا نتعرض للإشعاع عشرين دقيقة في الأسبوع تقريباً. في إحدى المرات جاء شاب مصاب برصاصة قناص، وكان بحاجة إلى جراح أوعية ليجري له العملية، لكن أياً منهم لم يستطع الوصول إلى المستشفى بسبب الحصار، فاضطررنا إلى إجراء العملية بناء على تعليمات أحدهم عبر الهاتف.
في إحدى الليالي التي قضيتُها في المستشفى استيقظت على صوت إطلاق نار كثيف. كان يوم أحد، وكان النظام يحتل المنطقة ويقصف حيَّ بابا عمرو.
كنا سبعة أشخاص. هربنا واختبأنا في القبو. كنا نسمع أصوات الدبابات تقترب، كما سمعنا مجموعة من العناصر تقتحم المستشفى. بدؤوا بإطلاق الرصاص وحطموا الزجاج. شعرنا لوهلة أنه قضي علينا، فالنظام ينظر إلى الأطباء على أنهم شركاء المسلحين. حتى لو عالجتَ أخاً لأحد المتظاهرين فكلاكما سيُعاقَب.
انتظرنا في القبو كالأضحية التي تنتظر ذبحها إلى أن خطرت لنا فكرة. أحدنا كان يملك ما يكفي من الشجاعة لينادي: «أين أنتم؟ نحن هنا في الأسفل». أردنا من ذلك أن نريهم أننا مجرد مدنيين لا علاقة لنا بالاقتتال الحاصل، فنادَونا. كانوا ثمانية مدججين بالسلاح، قائدهم كان شبيحاً يضع صفاً من السكاكين حول حزامه، وتحدَّثَ معنا باللهجة العلوية. أما الباقون فكانوا مجردَ فتيةٍ مجندين في الجيش، لا يعرفون لماذا هم هنا، وما الذي يفعلونه.
أمرَنا الشبيح بالعودة إلى القبو مجدداً، وظننا أنه سيلقي قنبلة ويقضي علينا، لكنّ المفاجأة أنهم ذهبوا وعاد المستشفى هادئاً. بعد نصف ساعة جاءت مجموعة أخرى وقاموا أيضاً بفتح النار وتحطيم ما استطاعوا من الأشياء. جرّبنا الخطة نفسها، ونجحت من جديد، أمرونا أيضاً بالبقاء داخل القبو. انتظرنا نزولهم لقتلنا لكنهم لم يفعلوا.
تسرّبت رائحة حريق قوية إلى القبو حيث نحن حتى شعرتُ أنني سأختنق، فصعدتُ إلى الأعلى، ووجدتُ أنهم اقتحموا مكتب الإدارة وسرقوا كل ما وجدوه من نقود، وذلك – على الأرجح – هو ما دفعهم إلى نسيان أمرنا، أما الحريق فقاموا به ليخفوا سرقتهم.
حاولنا إخماد الحريق لكننا لم نستطع التنفس بسبب الدخان، ولم يكن بإمكاننا الخروج من الباب الأمامي لأن مصيرنا عندها سيكون القتل حتماً لوجود دبابة عند المدخل الرئيسي للمستشفى.
لم يبقَ أمامنا سوى محاولة تسلق السُّور الخلفي واللجوء إلى أحد الأبنية السكنية في الجهة المقابلة. قمنا بذلك فعلاً، حتى أن ممرضة تزن أكثر من تسعين كيلو، كان رعبها كفيلاً بأن يحملها فوق السور! كان الجيش قد داهم المبنى السكنيّ وغادر لتوه، ولو كنا قد تسلقنا إليه قبل دقائق قليلة لقُضيَ علينا.
أمضينا سبعة أيام عند الجيران في الظلام دون كهرباء، نأكل الرز والخبز البائت. وكان قد بقي مريضان في المستشفى، واحدة في العناية المشددة تتنفس عن طريق جهاز تنفس اصطناعي، وبقيت معها ممرضة وأحد حراس المستشفى، وعندما نفد الأوكسجين توفيت وانضم إلينا الحارس والممرضة. أما المريض الثاني فكان مصاباً بطلقة في الفص الأمامي للدماغ. بقي في المستشفى برفقة ابنه ذي الأحد عشر عاماً. كان الصبي يخرج ليلاً يطرق الأبواب ليطلب المساعدة ثم يعود إلى والده. في اليوم الثالث دخل الجيش المستشفى وقتلهما معاً. رأيناهم وهم يخرجون جثتيهما.
أول مرة استخدم فيها جيش النظام صواريخ الأرض-أرض والراجمات والطيران كانت في الهجوم على حيّ بابا عمرو. المجتمع الدولي لم يقل شيئاً حيال الأمر، فاستمرّ في استخدامها.
في نهاية المطاف أعلنوا عن اتفاق يسمح للمدنيين بالخروج. لم أكن قد عرفت به حينها، لكني عشت صدمة دامت خمسة عشر يوماً، فكرتُ كثيراً: «ما الذي حصل؟ كيف نجوت؟ لماذا لم أمت؟».
عدتُ إلى منزلي فوجدته غارقاً بالمياه والديزل. ووجدت قطة شارع فيه. عرفتُ أن الجيش قد أقام هنا فسرق معظم الأثاث وأتلف ما لم يسرقه. انتهكوا حرمة المنزل، خصوصياتي وخصوصيات زوجتي، وكتبوا على الحائط: «هي هية الحرية».
تخيل أن ترى حيّك كمدينة هيروشيما، دمارٌ في كل مكان، أبنيةٌ سوّيت بكاملها بالأرض، هدوء غريب كأنك في مسرح، لا شيء يكسر الصمت سوى صوت الطيور.
هبة، طالبة سابقاً (القلمون)
كنت أدرسُ الصيدلة في دمشق. تأزَّمَ الوضع في منطقتنا وأصبح الوصول إلى الجامعة مسألة صعبة بسبب حواجز التفتيش، لذا أجلّتُ الفصل الدراسي وعدتُ مع عائلتي إلى منزلنا في القلمون.
كان والدي يعمل في مجلس إدارة إحدى الجمعيات الخيرية، وانضممتُ إلى العمل فيها لمساعدة من فرّوا من مختلف المناطق السورية المشتعلة واعتبرناهم ضيوفاً لدينا. قمنا ببعض النشاطات أيضاً. كان الأطفال يضجرون بسبب عدم قدرتهم على اللعب في الخارج، فعملنا على إقامة عرض موسيقي راقص لهم.
بسبب قرب القلمون من الحدود اللبنانية كانت المعارك تنشب من وقت إلى آخر. عادة ما كانت تتبع القصفَ غاراتٌ جوية وبعدها يعود كل شيء طبيعياً، لكن في أحد أيام شهر تشرين الثاني عام 2013 بدأت الغارات الجوية واستمرت خمسة وعشرين يوماً، كانت تلك معركة القلمون.
اختبأنا في القبو لكن والدي وأخي رفضا البقاء معنا. قضيا أياماً يعملان في الجمعية إذ كان المصابون يُنقلون إليها. في أحد الأيام جاء والدي إلى المنزل وكان واضحاً أنه يخفي أمراً، قبل أن يخبرنا أخيراً أن أخي استشهد برصاصة في عنقه. كان قد بقي على قيد الحياة لمدة لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء له، لعدم توافر الأدوات الكفيلة بإنقاذه. لاحقاً حاولوا نقله إلى المقبرة لدفنه لكنهم عادوا به لأن إطلاق النار كان شديداً.
ساءت حالة والدتي النفسية بعد الحادثة، فألحَّ والدي علينا بالعودة إلى دمشق لترتاح قليلاً، أما هو فرفض أن يترك بلدته، فضلاً عن أعمال بقيت له فيها.
ذهبتُ أنا وأمي وبقي هو. بعدها سيطر النظام على المنطقة وبدأ بحملات اعتقال، واستهدفوا أعضاء مجلس إدارة الجمعية للاشتباه في تعاونهم مع الجيش الحر.
في أحد الأيام اتصلنا بأبي مساءً لكن هاتفه كان مغلقاً. عاودنا الاتصال مرات ومرات دون فائدة. بعد خمسة عشر يوماً تلقينا رسالة هاتفية من رقمه تقول: «لقد هربتُ بعيداً»، هرب بعيداً!؟ أوجست خيفة فأرسلت له: «اتصل بنا على رقم زوجتك». كان والدي يحفظ رقم هاتف والدتي دون أن يسجله في هاتفه. انتظرنا ليتصل على رقم والدتي لكنه لم يفعل، فعرفنا أنه ليس من أرسل تلك الرسالة.
سألنا عنه في الأفرع الأمنية، سألنا وبحثنا، تواصلنا مع كل معارفنا، ودفعنا كل ما طلبوه في سبيل معرفة مكانه، إلا أننا لم نأخذ سوى وعود من قبيل: «في الشهر المقبل» أو «راجعونا بعد فترة».
مضت شهور قبل أن نتلقى اتصالاً مفاجئاً من رجل يقول إنه خرج من السجن مؤخراً وإنه كان مع والدي فيه. قال لنا: «لقد خسر بعض الوزن لكنه قوي وهمه الوحيد هو أنتم، وليس قلقاً إلّا عليكم». سألتُه إن كان ثمة طريقة لإرسال رسالة له، أردتُ أن أخبره فيها أننا بخير وأنني رزقتُ بطفلة، وأن أختي تزوجت، ردّ الرجل أنه سيحاول أن يجد سبيلاً لذلك.
يمكن مع الوقت أن تعتادي على حقيقة وفاة أخيك. أقول لنفسي: هذا حال الجميع في بلدي، لسنا وحدنا من يعيش هذه المأساة، إنه القدر الذي كتبه الله علينا. لكن الأقسى هو الشعور بأن والدي ينتظر منا أن نفعل شيئاً لإخراجه. ألوم نفسي. صحيح أني فعلت كل ما في وسعي، لكن ربما هناك – بطريقة أو بأخرى – ما يمكن فعله أكثر.
قد يُنسيكِ روتين الحياة اليومية لوهلة، لكن شيئاً تافهاً قد يحدث فيذكركِ بكل شيء مجدداً. هذا ما حدث في السنة الماضية، مثلاً، حين هبت عاصفتان ثلجيتان. تغطيت بلحافين، وأول ما خطر في بالي حينها: «يا إلهي، كيف سيتدفأ والدي الآن؟».
أسامة، طالب (القصير)
أول مرة دخل فيها الجيش إلى مدينة القصير اعتقلوا الكثيرين، وضربوا العديدين في الشوارع. وفي المرة الثانية والثالثة أطلقوا النار على الناس مباشرة. بعد ذلك بدأ الشباب بحمل السلاح. أصبحت القصير مدينة خطرة جداً. كانت تحت القصف كباقي المدن. اتخذ أحد قناصي النظام من مبنى عالٍ مطلٍ على الشارع الرئيسي مكاناً له، وبدأ بقنص المارّة. كان أبي يملك حافلة، وكان يقطع ذلك الشارع بالناس كي لا يتأذوا، فأصبح مطلوباً لدى النظام وبعدها اعتقلوه.
بدأ الناس بشراء السلاح، وكبرت المجموعات المسلحة. كنت أمضي كل وقتي خارج المنزل وأطرح كثيراً من الأسئلة. كنت لا أزال في الصف التاسع، وخافت أسرتي على سلامتي. في أحد الأيام أخبرتني والدتي أنه علينا الذهاب إلى الأردن لزيارة جدي، لأنه مريض، وسنعود بعدها إلى القصير. غضبت جداً حين اكتشفت أنهم خدعوني، لأننا ذهبنا إلى الأردن ولم نعد أبداً.
في ذلك الوقت كان حزب الله اللبناني يدخل سوريا لمساعدة النظام. ولأن القصير تقع على الحدود اللبنانية، كانت طريقهم الوحيد للعبور. بدأ الجيش الحر باستهداف عناصر حزب الله، وأخذ النظام بقصف المدينة غير آبه بما يقتله من مدنيين، كان همه الأول أن يسيطر عليها ليستطيع حلفاؤه العبور بأمان. دخل حزب الله المدينة بينما خرج كل سكانها، عدا أولئك الفقراء الذين لم تتوافر لديهم وسيلة للخروج. وقامت قوات حزب الله وإيران وروسيا بتطويق المدينة بالكامل.
صمد أهل القصير ثلاثة أشهر، برأيي كان صمودهم كل تلك المدة أمراً بطولياً. أصبحت المدينة معروفة في كل العالم، وكنا نسمع في الأخبار عبارات «القصير الجريحة، المدينة دُمِرت…». وبدأ الناس خارج سوريا بإرسال التبرعات، لكن بعض قادة الكتائب في الجيش الحر كانوا يستولون عليها لأنفسهم. يأخذون التبرعات لجيوبهم بينما الشباب يقدمون أرواحهم. لم أستطع أن أفهم لمَ كل تلك الرغبة في جمع المال بينما قد يموتون في أي لحظة؟!
بقي الجيش يصبُّ تركيزه على القصير إلى أن سيطر عليها، ويعتقد كثيرون أن تلك كانت نقطة تحول في الثورة. ولأنها مدينتي شعرتُ حينها أن الثورة فشلت. تلاشت آمالي، وتوقفتُ عن سماع الأخبار ومتابعة الأحداث. لم أشعر أنني أصبحت لاجئاً بالفعل إلا عندما سقطت مدينتي، القصير.
رامي، خرّيج جامعي (مخيم اليرموك)
كبرتُ في مخيم اليرموك للاجئين. كان مكاناً مميزاً كعاصمة للشتات الفلسطيني. كان يُسمّى مخيماً لكنه أبعد ما يكون عن ذلك، فهو منطقة متمدنة جنوب دمشق.
البلدات المحيطة بالمخيم كانت قد دخلت دوامة المعارك، فكان الناس يلجؤون منها إلى المخيم. كان ثمةَ شبه اتفاق بين الجماعات المسلحة يُبقي المخيم منطقة محايدة.
لاحقاً، في تموز عام 2012، تم تفجير مقرّ المخابرات السورية في دمشق، وقُتل وزيران واضطربت كل الأجهزة الأمنية. هنا دخلت الحياة في دمشق مرحلة جديدة. سحب النظام حينها قوات من الساحل ونشرها على حواجز أمنية أقيمت داخل العاصمة وخارجها.
في الوقت الذي استمرت فيه المعارك الدائرة حول مخيم اليرموك بالاشتداد، استطاعت الجماعات المسلحة طرد قوات الأمن من بعض مناطق ريف دمشق. لكن النظام أحاط بهم وحاصرهم فاحتاجوا إلى الإمدادات، ولأسباب لوجستية كان المخيم منفذهم الوحيد. بعدها تم تسليح فصائل فلسطينية، بالاتفاق مع النظام، لمنع المجموعات المسلحة من الدخول إلى المخيم. ولذا صارت المجموعات المسلحة المعارضة ترى أن تلك الفصائل تدافع عن الأسد. حدثت اشتباكات واستطاع بعض مسلحي المعارضة الدخول إلى المخيم والتجول فيه وتصوير فيديوهات عبر هواتفهم يقولون فيها إنهم حرروه.
في ذلك اليوم، وبشكل مفاجئ، بدأ قصفٌ بمختلف الأسلحة استهدفَ مسجداً وإحدى المدارس. كانت أصوات القصف والضحايا مرعبة. هنا أدرك السكان أنهم سقطوا في أتون الحرب الدائرة. كانت هناك صدمة وذعر وخوف. وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي بدأت موجة نزوح جماعي. معظم الفلسطينيين المئة وخمسين ألفاً الذين كانوا يعيشون في المخيم حملوا حقائبهم ورحلوا، وكنت واحداً منهم.
كانت تلك نهاية المخيم كما كنا نعهده. «النكبة الثانية»، هكذا أطلق الناس على تلك المرحلة، نكبة اليرموك. بقي في المخيم حوالي عشرين ألفاً كانوا طبعاً من الأكثر ضعفاً.
استمر القصف أسبوعين، لو حاولت فيهما المغادرة سيقتلك رصاص قناصي النظام. تمت محاصرة المخيم بالتدريج إلى أن حوصر بالكامل، وأغلق المدخل الرئيسي بأكياس الرمل والإسمنت. كان عقاباً جماعياً وكأن النظام يقول لنا: «هذا جزاؤكم لأنكم سمحتم للمسلحين بدخول المخيم». وعندما لم يبقَ للمجموعات المسلحة في المخيم من يقاتلونه، بدأوا بالاقتتال فيما بينهم.
أم ناجي، أُمّ (مخيم اليرموك)
كان علينا أن نغادر المخيم في البداية، عندما لم يكن الحصار قد أُحكِمَ بعد، لكننا لم نتوقع أن نصبح محاصرين بالكامل. في البدء كان الحاجز الأمني يغلق المنطقة يوماً ويفتحها في اليوم التالي. لاحقاً أغلق المنطقة نهائياً، فعلِق جميع من كان داخل المخيم، ومن كان خارجه لم يعد يستطيع الدخول مجدداً.
تسعة أشهر عشتها تحت الحصار. كان لدينا طعام مخزن في المنزل لكنه نفد مع مرور الأيام. المسلحون وعناصر النظام داهموا المحلات، ولم يتبقَ شيءٌ للمدنيين. لدينا المال لكن ليس هناك ما يمكن أن نشتريه. جمع زوجي العشب وأوراق الشجر لنقليها بزيت الزيتون. وفي وقت لاحق، لم نعد نجد حتى العشب.
نقصت أوزان أطفالي الأربعة، وأصبحوا يتمددون على الأرض من الوهن، ليست لديهم طاقة حتى للكلام. كانوا يموتون من الجوع أمامي دون أن أستطيع فعل شيء.
استخدم عمي كل صِلاته لإخراجنا. حاول كثيراً حتى استطاع أخذ موافقات من عدة فروع مخابرات لأتمكن من المرور مع أطفالي من الحاجز، أمّا زوجي فكان عليه أن يبقى. وصلتُ إلى الحاجز الأمني فرفضوا إخراجنا في البداية، وبعد أن انتظرنا يوماً كاملاً سمحوا لنا بالخروج.
يوسف، خرّيج جامعي (ريف الحسكة)
اعتقلتُ في سنتي الثانية في كلية الطب. أمضيتُ في السجن خمسة شهور. وحين دخلَت داعش البلدة كنت لا أزال في المنزل أستعيد قواي.
منطقتنا في شرق سوريا ذات أهمية بالغة، وداعش تعي قيمتها تماماً، فالنفط السوري يقع هناك. سيطروا على قريتنا ثم زحفوا نحو دير الزور حيث يقع أكبر مخزون للنفط، بدعم طيران النظام الذي كان يقصف مسلحي الجيش الحر والمدنيين بدلاً من قصف داعش. الآن سيطرت داعش على النفط وعلى الأسلحة وعلى القمح، أصبح لديها كل شيء في المنطقة.
الدواعش ليسوا كائنات فضائية كما يصفهم البعض. الدواعش أناس طبيعيون. هم تنظيم مثل أي تنظيم آخر. كان العديد من الرجال مستعدين لمحاربتهم، والنساء أيضاً. كنا نستطيع القضاء عليهم لكن لم يكن لدينا سلاح كاف. لم يدعمنا أحد. بل على العكس بدأ التحالف الدولي بقيادة أميركا بقصفنا. قبل شهرين قتل طيران التحالف سبعة وعشرين شخصاً كانوا ينتظرون دورهم لشراء الخبز.
الضربات الجوية دمرت البلد. الطيران ألحق الضرر الأكبر، وداعش لا تمتلك طيراناً.
حَكَم، مهندس وصيدلي (دير الزور)
كان الجيش الحر قد سيطر على منطقتنا في دير الزور، لكن كل المستشفيات كانت في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام. لذا حوّل أحد أصدقائي منزله إلى مستشفيات ميدانية، ولأنني صيدلي تطوعت معهم. في إحدى المرات كنت أساعد في إجراء عملية لشابٍ مصاب بطلقةٍ قرب قلبه، وكان علينا انتزاعها على ضوء هواتفنا النقالة لأن الكهرباء كانت مقطوعة. أما الطبيب الذي أجرى العملية فقد كان بيطرياً.
عندما كان الجيش الحر وجبهة النصرة يسيطران على منطقتنا كان الناس يشتكون من الفوضى وانعدام الأمن. ادّعت داعش أنها ستنشر الأمن ولن تسمح لأحد بخرق القانون. دخلوا منطقتنا بالأسلحة الثقيلة وسيارات الهامر والدبابات، كانوا أقوياء كدولة حقيقية. لم يكن لدى الجيش الحر وجبهة النصرة السلاح الكافي لمواجهتهم، فهرب معظم عناصرهم.
عشت سنة ونصف السنة تحت حكم داعش. أجبرونا على الخروج لرؤيتهم وهم يقطعون رؤوس الناس. كان الأمر مرعباً للأطفال في البداية، لكنهم اعتادوه مع مرور الوقت. أصبحت رؤية الجثث معلقة في الميادين الرئيسية، أو رؤية جثة بلا رأس معلقة على الشجرة، أمراً عادياً. كانوا يبقون الجثة في الطريق ليومين أو لثلاثة ثم يلقونها بعيداً في مكان ما. سيطرت داعش على مصافي النفط، وبات واضحاً أنه أصبح ملكهم. فرضوا الضرائب، ورغم فقر الكثيرين إلا أنهم كانوا مضطرين إلى دفعها ليسلموا من العقاب.
كنت في دير الزور حين بدأت الهجمات الروسية وهجمات التحالف الدولي. أستطيعُ أن أعطيكِ قائمة بأسماء من قتلوا حينها، لسببٍ ما قمت بتدوين أسمائهم جميعاً.
تاليا، مراسلة تلفزيون (حلب)
«معبر الموت»، هكذا كان يسمى المعبر الفاصل بين أحياء حلب المحررة والأحياء الخاضعة لسيطرة النظام. كان شارعاً يطلّ عليه أربعة قناصين تابعين للنظام يقتلون الناس عشوائياً. كان يعبر من ذلك الشارع يومياً خمسة عشر ألف شخص، يُقتَل منهم عشرون.
كنت أعيش في الجزء المحرر من حلب، وكانت ابنتي بحاجة إلى مراجعة طبيب عيون، لذا كان علينا الذهاب إلى المنطقة الخاضعة للنظام. كان إطلاق الرصاص يزداد قبيل إغلاق المعبر في الساعة الرابعة. وصلتُ مع ابنتي إلى المعبر حوالي الثالثة وخمس وأربعين دقيقة. بدأت مجموعة منا بالعبور، وحين أخذوا بإطلاق الرصاص انبطحنا جميعاً، وضممنا بعضنا أنا وابنتي. الرجل الذي كان بجانبنا لم ينهض لأنه أُصيب، فبدأت بالبكاء وبدأت ابنتي بتلاوة القرآن. استغرق عبورنا إلى الجهة الأخرى نصف ساعة.
وقتها كان زوجي في تركيا وكنت مسؤولة عن والدتي وأطفالي. لم تكن لدينا كهرباء، كنا نقف في طابور فقط لنشعل الضوء أو التلفاز، كما لم يكن هناك ماء فحفر الناس الآبار وكانوا يملؤون الماء في عبوات يومياً، وكأن كل الحي أصبح عائلة واحدة. لم تكن لدينا وسائل تدفئة فكنا نحرق نوعاً من الوقود كان يستخدم في وسائل النقل القديمة. كانت رائحته كريهة سبّبت لابني الربو، إلى جانب دخان القذائف وحرق الحاويات.
أتذكر أول مرة ألقوا فيها برميلاً متفجراً. اهتزَّ المنزل وتحطمت كل نوافذه. نزل البرميل بالقرب من مدرسة ابنتي. تركتُ ابني عند الجيران وركضتُ لأحضرها. كنت أشعرُ أنها أطول مسافة قطعتها في حياتي. في تلك الأثناء خطرت في رأسي كل الاحتمالات، ربما سأراها ميتة أو أجدها وقد أصبحت قطعاً مبعثرة، أو ربما ستكون تحت الركام والأنقاض. عندما وصلتُ ووجدتها سليمة قررتُ ألا أرسلها إلى المدرسة مجدداً. بعد تلك الحادثة بأسبوعين فقط قُصِفَت مدرستها، وقتل ستة عشر طفلاً.
مرسيل، ناشطة (حلب)
نشأت في عائلة من الطبقة الوسطى، وحين انتقلت إلى الأحياء المحررة من حلب اكتشفت وجود عائلات فقيرة في سورية. كنت امرأة غير محجبة تعيش وحدها، في منطقة لا توجد فيها أي امرأة دون حجاب أو تعيش وحدها. كان الناس يتساءلون: «ماذا تفعل هذه هنا؟ لماذا لا تذهب إلى أوروبا حيث يذهب الجميع».
كانت سنة التحديات في حياتي. كنت أعتقدُ أنني سأموت، لأن ذلك ما يعنيه الانتقال للعيش في هذه المناطق. تقبُّل فكرة الموت يغيّركِ كثيراً ويؤثر على طريقة تفكيرك وخياراتك. تسألين نفسك دائماً إن كانت لديك القدرة على القتل، ودائماً تقابلين أناساً يسألون أنفسهم السؤال ذاته. الأمهات مثلاً يقلن: «إذا اقتربوا من طفلي، فسوف أفعل …».
جربنا العيش تحت القصف ومشاهدة أشلاء الموتى متناثرة. ليس على الناس مشاهدة كل ذلك الموت. برميل متفجر واحد كفيل بإسقاط مبنى بأكمله كعلبة كرتون. تقابلين أناساً خسروا كل شيء ولم يتبق لهم أي شيء ليبدؤوا من جديد، وهنا يصيبكِ الشعور بالذنب. تسألين نفسك: «هل كان علينا أن نقوم بالثورة بطريقة أخرى؟ أو هل كان علينا القيام بها من الأساس؟».
كانت سنة قاسية جداً، خاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة. فلم يقتصر الأمر على الخروج لساعتين في مظاهرة، بل أصبح أسلوب حياة كامل، كأنْ أتشاجر مع أصدقائي حين يطلبون مني عدم الخروج إلى الشارع وحدي، ولأني مناصرة لحقوق المرأة كنت أردّ: «بالله عليك هل أنا بحاجة إلى من يرافقني لشراء كيلو من البطاطا؟»، فيقولون: «نحن في حالة حرب»، وكنت أجيب: «لا، إنها ثورة وليست حرباً».
حين كانت المجموعات المسلحة تدعو إلى اجتماع ثوري كنت المرأة الوحيدة التي تحضر، وسط ذهولهم. كان لسان حالهم يقول: «حين قلنا اجتماع ثوار لم نكن نتوقع أن تحضر هذه»، وأود لو أجيب: «نحن سواسية وعلينا التحدث معاً».
ظهرت داعش، وفي البداية لم يكن أحد يعلم ماهيّة هذا التنظيم. أول ما جعلني أُدرك وجود مشكلة كان حين جمع مقاتل أردني الأطفال في الشارع وعرض دولاراً على كل من يرميني بحجر، لأنني لا أرتدي الحجاب وأمشي مع رجال ليسوا من محارمي. في تلك الفترة لم يكن ثمة الكثير من أمثاله، ولم تكن لديهم السلطة الكافية لاعتقالي فوراً.
لم يقم أيُّ طفل بما طلبه الرجل، لكن والدَي أحد الأطفال جاءا إلى منزلي وأخبراني بما جرى. قال لي الأب: لا أريد أن تخافي، ولكن هذا ما حدث. نحن واثقون من أن أبناءنا لن يقوموا بهذا أبداً، لكن ماذا عن الآخرين. الوضع لم يعد آمناً.
كنا أنا وأصدقائي نغيّر منازلنا على الدوام، وأنا شخصياً غيّرت منزلي عشر مرات، حتى أصبحت هذه قصة حياتي. لا أكاد أستقرّ في منزل حتى أعود لتوضيب حقائبي وأغادر، ثم توضيب، مغادرة، توضيب، وأحياناً مغادرة مستعجلة بدون توضيب.
مرة أخرى أوقفني أحد رجال داعش في الشارع وقال لي مستنكراً: «لا يمكنكِ أن تلبسي هكذا هنا». كان ما قاله مضحكاً بالنسبة لي لأنه كان بلجيكياً، قطع كل تلك المسافة ليعلمني ما عليّ ارتداؤه هنا في بلدي. وأكمل قائلاً: «هذه دولة الإسلام»، فرددت عليه: «لا، إنها سوريا».
بدأ الحديث يحتدّ وبدأتُ بالصراخ، فتدخل مقاتلو الجيش الحر وقالوا له: «ماذا تريد من ابنتنا؟»، وانتهى الأمر إثر تدخلهم.
بعدها أوقفوني مرة ثانية، وفي الثالثة لاحقوني بسيارات الفان. في تلك الفترة كانت داعش قد اختطفت ستة من أصدقائي وكانوا سيختطفونني أيضاً، ولو انتظرت حدوث ذلك فلن تكون تلك شجاعةً بل مجرد غباء، ففكرت أن أغادر البلد مدة وأرى ماذا سيحدث. وذلك ما حصل فعلاً. ذهبتُ الى تركيا، وكنت أبكي كالطفلة طوال الرحلة.
حنين، خريجة جامعية (داريا)
أول مجزرة شهدتها كانت في رمضان. كنت حينها في منزل شقيقتي، وكانت العودة إلى المنزل خطيرة جداً بسبب انتشار القناصة على الأبنية. كان أحدهم قرب منزلنا، لذا فإن أي أحد يمرّ مُعرّضٌ للقتل.
مضت الأيام وقررنا الرجوع إلى المنزل عن طريق الحارات الضيقة كي لا يرانا القنّاص. مشينا بمحاذاة الجدران مسرعين ننتقل من حائط إلى آخر، وحين وصلنا كانت الصواريخ والقذائف قد بدأت بالانهمار. كان علينا البحث عن مكان آمن لنختبئ فيه، فخرجنا مجدداً إلى ملجأ تحت الأرض. كان من السهل على القناص رؤيتنا في حال كنا مجموعة، لذا عَبَرَ كلٌّ منا على حدة.
كان المكان الذي لجأنا إليه قبواً له شبابيك صغيرة على مستوى الشارع، فتمكنا من رؤية قوات الأمن حين أتوا تتبعهم الدبابات. من داخل القبو كنا نسمع صراخ الناس. وبطريقة ما وصلتنا أخبار عن طريق أحدهم عن أحدهم عن أحدهم عن أحدهم…، مفادها أنهم قبضوا على أناس كانوا مختبئين تحت الأرض مثلنا.
أُصبنا بذعر شديد وقلنا لأنفسنا: ما هو مقدّر لنا سيحصل، لكن الموت فوق الأرض أفضل من الموت تحتها. فانتظرنا حلول الليل ثم خرجنا هاربين مجدداً إلى المنزل بأسرع ما يمكن. في البيت كان كل الطعام قد فسد بسبب انقطاع الكهرباء في ذلك الصيف، فلم يكن لنا بدٌّ من تناول الخبز المتعفن. قمنا بدفن كل الأشياء القيّمة، كالهواتف والمجوهرات والصور، في أماكن مختلفة قدَّرنا أنه لن يخطر لقوات الأمن البحث فيها.
وصلت قوات الأمن إلى شارعنا وأعدمت ستة شبان. كنا في حالة رعب. بعدها ذهبوا إلى حيّ آخر ولم نعرف إن كانوا سيرجعون إلى حيّنا، ومتى.
التزمنا البيت أياماً. وحان يوم امتحاني في الجامعة فذهبتُ لإجرائه وأنا خائفةٌ من أن يوقفني أحد رجال الأمن في الطريق. حقاً لا أعرف لمَ ذهبت إلى ذلك الامتحان، ما أعرفه أنه كان علينا الاستمرار في حياتنا.
المجزرة الثانية كانت الهجمة بالأسلحة الكيماوية. قبلها كان الوضع قد بدأ يسوء من جديد، وخافت أختي على أطفالها فقررت مغادرة الحي، وذهبنا معها. كنا نفكر أن نبتعد ليومين أو ثلاثة.
في اليوم التالي نفّذ النظام هجوماً بالأسلحة الكيماوية. كانت الضربة قريبة جداً من منزلنا، وقُتِلَ فيها عمي وأحد أبناء عمومتي. كأن سُمّاً أحرق أجسادهم من الداخل. حينها لم يدرك أحدٌ أنه سلاح كيماوي. لم تكن ثمة علامات لندوب أو جروح، لا يوجد شيء إطلاقاً، لقد ماتوا وحسب.
شام، عاملة إغاثة (دوما)
كانت القذائف تنهمر فوق دوما، واحدة تسقط في الشارع، وأخرى على مبنى، وثالثة على السوق. عايشت أموراً عديدة، مثل تهاوي مبانٍ أمام عيني، أو رؤية الجثث. رأيت أطفالاً تناثرت أجسادهم مليون قطعة جراء قذيفة. قمنا مراتٍ بالتقاط أشلاء الضحايا بأيدينا. لم تكن توجد جثث كاملة، بل مجرد قطع، ذراع هنا أو رجل هناك أو رأس.
كنا ضمن فريق طوارئ الهلال الأحمر، نرتدي لباسهم الموحد، ونقود سيارات الإسعاف. لذا كان من المفترض ألا يزعجنا جيش النظام، لكنهم كانوا يخيفوننا أحياناً بأسلحتهم، أو يفتحون باب السيارة ليأخذوا المصاب، ولم نكن نجرؤ حتى على فتح أفواهنا أمامهم.
احتجزوا مرة فريق صديقي. أوقفوهم صفاً ووجوههم باتجاه الحائط، وأطلقوا الرصاص على رأس صديقي. أسعفناه إلى المستشفى، وانتظرنا في الخارج، بعدها خرج شخص وأخبرنا أنه فارق الحياة. غبتُ عن الوعي حينها، فحملني أحد أصدقائي وعالجني صديق آخر. كلاهما قُتِلَ لاحقاً أيضاً. نعم، كما أخبرك تماماً، لقد قُتِلَ جميع أصدقائي.
عندما جاء عناصر المخابرات واعتقلوا زوجي منير، للمرة الثالثة، توسلت إليهم باكية: «الله يخليك لا تأخذه، فأنا تعبت جداً ولن أستطيع تحمل المزيد». ردّ الضابط بأن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنهم سيحتجزونه لساعة فقط.
امتدت تلك الساعة سنة وشهراً. في الأشهر الخمسة الأول لم أكن أعلم إن كان حياً أم ميتاً، كأنه، كما يقولون، «ذهب مع الريح»، اختفى كمن يختفون فوق مثلث برمودا. كل المحامين الذين تواصلت معهم للبحث عنه كانوا يبيعونني وعوداً كاذبة، ويقولون: سنخرجه، لا تقلقي. فقط لأستمر بالدفع لهم.
وفي أواخر شهر أيار/ أيار رنَّ هاتفي. كانت مكالمة من رقم غير معروف، وكنت في حالة نفسية بائسة منعتني حتى من التحدث عبر الهاتف، فطلبتُ من أخي أن يجيب. بعدها سمعته يقول «منير»، حينها فقدت عقلي وخطفت الهاتف منه. كان زوجي، وقد استطاع الاتصال بي بعد أن نُقِلَ إلى فرعٍ آخر.
حدثت الهجمة بالسلاح الكيماوي في آب/ آب. من عاش ذلك اليوم سيخبرك أنه نسخة عن يوم القيامة. ترين الناس متجمدين في الشارع بسياراتهم ومخنوقين حتى الموت. أخبرني زملائي أنها كانت المرة الأولى التي يجمعون فيها جثثاً بلا دم. يومها سمعت أن الغاز انتشر ووصل إلى السجن. كنت خائفة أن يحصل مكروه لمنير، حينها سأموت حتماً. لاحقاً عرفتُ أن رائحة الغاز وصلت بالفعل إلى السجن، وبدأ المسجونون بالسعال، دون أن يعلموا ما الذي كان يحدث في الخارج.
أطلق أوباما تصريحه بشأن «الخط الأحمر»، وفرح الناس لأنهم ظنوا أنها ستكون نهاية النظام. «أخيراً سيسقط»، هكذا ظننا متحمسين جداً، قبل أن يخيب أملنا من جديد.
في تلك الفترة أخبرني أحد من لهم صلة بالنظام أنه في حال دفعتُ المال الكافي فإنه يستطيع أن يُخرج منير من السجن، لكن بشرط أن نغادر البلد فوراً بعد ذلك. وفعلاً خرج منير وغادرنا البلد بعد شهر ونصف.
كان ما عايشناه كفيلاً بقتلنا. هذا ما زال على قيد الحياة وذاك قتل، هكذا كنا نراقب أخبارهم كل ثانية. صدقيني ما كنا لنصل إلى هذه المرحلة لو أن العالم ساعدنا منذ البداية. اعتقدَ البعض أننا متعصبون دينياً، لكن أحداً لم يجبرني قطّ على الصيام في رمضان مثلاً. ها أنا أدخن الآن، بينما زوجي منير صائم، وعندما يستيقظ صباحاً يحضّر لي قهوتي. أقسم إنه في سورية لم نعتد أن يسأل أحدنا الآخر إن كان مسلماً أم مسيحياً، لم تكن لدينا أدنى فكرة عن ديانة أصدقائنا.
كل ذلك لم يعد يهم الآن، ولن أكترث لو متُّ في هذه اللحظة، لأنني وصلتُ إلى مرحلة في حياتي كرهتُ فيها كل شيء، أصبحتُ مشمئزة من البشرية. نحن الأحياء الأموات حقاً. أحياناً أمازحُ منير وأقولُ له: يجب على أحد ما جمع كل السوريين في مكان واحد وقتلهم جميعاً، هكذا نحل المشكلة، وبعدها ننتقل إلى الجنة، ونترك سوريا فارغة ليحكمها بشار الأسد.