مَنْ يكتُبْ حكايته يَرِثْ
أَرضَ الكلام، ويمْلُكِ المعنى تمامًا
محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيدًا.
لكلمة «مرتزِق» معانٍ سلبيةٌ معياريًّا. ووفقًا لمعناها الأولي، تحيل الكلمة على كسبٍ للرزقٍ، كسبًا غير مقبولٍ، لسببٍ ما. فالعسكري المرتزِق هو الذي يقاتل من أجل المال، بالدرجة الأولى، لا من أجل قضيةٍ أو قيمةٍ يؤمن بها. وفي السياق السوري الراهن، كثيرًا ما استُخدم هذا المفهوم، أو ما يشابهه (مفهوم العميل، مثلًا)، للنيل من هذا الطرف أو ذاك. فالنظام الأسدي أنكر وجود من يتظاهر من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة، وقال بأن من يرفعون هذه الشعارات إنما يفعلون ذلك، لقاء «سندويشات شاورما»، ومبالغ ماليةٍ، من أطرافٍ أجنبيةٍ. وفي السنوات القليلة الماضية، ازداد وصف كثيرٍ من «المعارضين السوريين» بالمرتزقة، نتيجة لتحولهم إلى «صبيانٍ» أو «أُجراء» لهذه الدولة أو تلك، وإلى ناطقين باسمها، وخدمٍ لمصالحها، ومنفذين طائعين وصاغرين ومُستصغَرين لإيديولوجيتها وسياساتها وأوامرها وتعليماتها وتوجيهاتها، بطريقةٍ مهينة، ليس لسوريتهم وللثورة التي يمثلونها فحسب، بل ومهينةٍ أيضًا لإنسانيتهم، بالدرجة الأولى.
وقد تكثَّف استخدام مصطلح «مرتزقة»، في الفترة الأخيرة، للحديث عن السوريين المنخرطين في الفصائل والميليشيات التي شاركت الحملات العسكرية التركية في سوريا: «درع الفرات»، «غصن الزيتون»، «نبع السلام». واكتسب وصف هؤلاء السوريين ﺑ «المرتزقة» زخمًا أكبر، ومصداقيةً أقوى، مع الأنباء التي تحدثت عن إرسال تركيا لمقاتلين سوريين إلى ليبيا. ويبدو وصف «مرتزقة» دقيقًا جدًّا، لغويًّا، عند الحديث عن هؤلاء الأشخاص. فوفقًا لمعجم اللغة العربية المعاصرة، المرتزقة هم «من يحاربون في الجيش طمعًا في المكافأة المادية، وغالبًا ما يكونون من الغرباء» (ص 884). وينطبق هذا التعريف على المقاتلين السوريين المرسلين إلى ليبيا، على الأرجح، لكن، إلى أي حدٍّ، ينطبق هذا التعريف على السوريين المنتمين إلى الفصائل والميليشيات الخاضعة لتركيا، و/أو المشاركة في حملاتها العسكرية؟ وإلى أي حدٍّ، يستحق هؤلاء المشاركون الحمولة المعيارية/ الأخلاقية السلبية المرتبطة عادةً بهذا الوصف؟
لا بد من الإشارة إلى أن معظم الموصوفين ﺑ «المرتزقة» هم من بيئةٍ ثائرةٍ/نازحة. فهي بيئةٌ ثائرةٌ ضد النظام الأسدي، بمعنى أن معظم أفرادها أعلنوا، صراحةً، تأييدهم للثورة السورية ضد هذا النظام؛ وهي بيئةٌ نازحةٌ، بمعنى أن قسمًا كبيرًا من هؤلاء «المرتزقة» نازحون من بيوتهم، وكانوا و/أو ما زالوا يقيمون في مخيماتٍ في المناطق السورية الخاضعة للنفوذ التركي. فهل تحوَّل بعض «أبناء الثورة السورية» من «ثوارٍ» أو «مشاريع ثوِّارٍ» إلى «مرتزقةٍ»؟ وكيف؟ وما هي سمات الواقع الموضوعي الذي حصل، أو رُفض، فيه هذا التحوُّل؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وما يماثلها، وسرد قصة هذا التحول وذاك الرفض، تواصلت مع أحد القاطنين في أحد مخيمات النازحين في الشمال السوري، «محمد»، وسأحاول، فيما يلي أن أسرد جزءًا من قصته، وقصة كثيرين من أمثاله.
كان محمد من أوائل المتظاهرين في مدينة حلب، قبل أن يضطر إلى النزوح إلى بيت أهله في ريفها. في شباط 2016، اضطر محمد إلى النزوح مجدّدًا، بسبب القصف الروسي ـ الأسدي، والهجوم البري المتزامن لقوات النظام وقوات «بي كي كي/ الأكراد»، التي استولت لاحقًا على قريته وعلى المناطق المحيطة بها. ومنذ ذلك الوقت يقيم محمد في أحد المخيمات المقامة قرب مدينة إعزاز. إن معاناة سكان المخيمات من العيش في خيمةٍ هي «أشبه بقبرٍ»، وفقًا لتعبير محمد، ومن شروط الحياة بالغة الصعوبة، والمتعلقة باهتراء خيمهم، وترابية/ طينية أراضي المخيمات، وصعوبة الحصول على ما يحتاجونه من غذاء ومياه ودواءٍ ووقود للتدفئة، بالإضافة إلى سوء أوضاع المجال التعليمي، و«عيشة الشحادين» التي يعيشها عمومًا، واعتمادهم الدائم على «رزق الطير» وعلى مساعدات أو إغاثة منظماتٍ وأفرادٍ لا يمكن التعويل أو الاعتماد عليهم وحدهم، ولا الثقة في استمرار دعمهم، وعجز معظم الثائرين/ النازحين عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة لهم ولأسرهم وأهلهم، هي أمورٌ ينبغي أخذها في الحسبان، عند التفكير في كيفية تحوُّل بعض الثائرين/ النازحين إلى «مرتزقةٍ».
إذا وضعنا مجالات العمل الخاصة بعدد قليلٍ من الناس، نجد أن العمل لدى إحدى الفصائل «المرابطة» قرب المخيمات، وعلى الحدود مع قوات النظام الأسدي أو قوات «بي كي كي/ الأكراد»، هو مصدر الرزق الوحيد المتاح لكثيرٍ من الثائرين/ النازحين. ويزداد إغراء العمل، لدى هذه الفصائل، وتحت الإمرة التركية، عندما يقبل الشخص المشاركة في الحملات العسكرية التي تقودها تركيا في الأراضي السورية، والتي تمثلت حتى الآن في عمليات «درع الفرات»، و«غصن الزيتون»، و«نبع السلام». فالمشاركون في هذه الحملات يتلقون رواتب أكبر بضعفٍ، أو أكثر، من الرواتب التي يتلقاها أفراد الفصائل عادةً.
في الفترة الأولى التي تلت عملية النزوح، انضم محمد إلى إحدى الفصائل العسكرية العاملة في المنطقة، واقتصر عمل ذلك الفصيل، حينها، على حراسة المخيمات وحراسة المناطق الحدودية مع النظام السوري وقوات «بي كي كي/ الأكراد». وقد كان ﻟ «الراتب الشهري» الذي يدفعه الفصيل لأفراده دورٌ في هذا الانضمام؛ لكن محمد شدَّد على أن غايته الأساسية والأهم، من هذا الانضمام، كانت المشاركة في «تحرير سوريا»، عمومًا، وتحرير قريته والمناطق المحيطة بها، خصوصًا. الراتب الشهري الذي كان يتلقاه محمد هو «100 دولار أميركي». وبعد إنشاء «الجيش الوطني»، وسيطرة تركيا سيطرةً كاملةً على كل الفصائل، أصبح أفراد هذا الجيش يتلقون راتبهم بالليرة التركية (400 ليرة تركية). كانت هناك استثناءاتٌ قليلةٌ؛ فمن كان يتلقى تمويلًا من «الموك» – المنضمون إلى «لواء المعتصم»، على سبيل المثال – كان يقبض 300 دولار شهريًّا.
بقي محمد يعمل مع فصيلٍ عسكريٍّ لمدة سنتين ونصف تقريبًا، واقتصر عمله، خلال تلك الفترة، على «المرابطة» الدورية في إحدى نقاط الحراسة القريبة من المخيم؛ لكن الشعور بعدم الارتياح من هذا العمل، والرغبة في تركه، ازدادا تدريجيًّا، لدى محمد، إلى أن حسم أمره، وترك العمل مع الفصائل المسلحة، نهائيًّا. وفي تفسيره لسبب تركه ذلك «العمل»، يذكر محمد مجموعةً من الأسباب أو العوامل الأساسية. السبب الأول هو ازدياد قناعته بأن الأمر، في المجال العسكري على الأقل، قد خرج من يد السوريين. فتركيا أصبحت، أكثر فأكثر، هي الآمرة الناهية: فهي التي تتحكم بتمويل الفصائل، وتعيين قادتها والمسؤولين عنها، وهي التي تفرض خطة عملها، والمعارك التي ينبغي لها خوضها، والمعارك التي ينبغي لها الامتناع عن خوضها. وقد بلغ تحكم الأتراك بتلك الفصائل ذروته، خلال تشكيل «الجيش الوطني»، وبعد هذا التشكيل؛ حيث أصبح لزامًا على كل أفراد هذا «الجيش» أن «يبصموا»، لدى الجانب التركي، وأن يتلقوا «رواتبهم» بالعملة التركية، بعد انقطاع كل أقنية الدعم المادي الأخرى، أو تنظيمها بحيث تمر عبر الجانب التركي، حصرًا.
شعر محمد أن العمل مع الفصائل قد أصبح أشبه بعمل المتطوعين أو المحترفين، وتوقف عن كونه «عملًا ثوريًّا»، أو من أجل الثورة. فلم يعد هناك دلائل، أو حتى مؤشرات وقرائن، على أن عمل هذه الفصائل يستهدف مواجهة النظام السوري وتحرير الأراضي التي ما زالت بحوزته. كما تبددت آماله في أن تعمل الفصائل على تحرير قريته، وبقية المناطق التي «تحتلها» قوات «بي كي كي/ الأكراد»، والتي لا تبعد عن مخيمه إلا كيلومتراتٍ قليلةٍ.
القيادة الأجنبية للفصائل المقاتلة، والتحكم الكامل بنشاطاتها وتحركاتها وتمويلها وأهدافها، كانا السبب الأكبر الذي جعل محمد ينسحب من العمل العسكري مع الفصائل. كان محمد راغبًا بشدةٍ في وجود فصائل وطنيةٍ بأجندةٍ سوريةٍ/ وطنيةٍ، وبقيادة سوريةٍ/ وطنيةٍ من «أهل الثورة»، من أمثال عبد القادر الصالح، ويوسف الجادر (أبو الفرات) وعبد الباسط ساروت. وقد عبَّر محمد عن إحباطه وأسفه الشديدين، لأن ذلك لم يعد موجودًا، غالبًا أو عمومًا، وهذا ما دفعه إلى الانسحاب والانطواء، بعد محاولاتٍ عديدةٍ فاشلةٍ قام بها، لتنظيم الناس المحيطين به، في إطار تنظيمٍ محليٍّ وطنيّ.
بعد انسحاب محمد من العمل العسكري (مع الفصائل)، حاول أن يكسب رزقه، من خلال بسطةٍ صغيرةٍ، لبيع القهوة والشاي. ونظرًا لضعف المدخول، تعلَّم محمد كيفية صنع بعض أنواع الحلويات، وأصبح يصنعها بنفسه، في خيمته (أيضًا)، ويعرضها للبيع. لكن العائد المادي بقي ضعيفًا، لأسبابٍ عديدةٍ، يأتي في مقدمتها ضعف الإمكانات المادية لدى الغالبية الساحقة/ المسحوقة من سكان المخيم. فقلةٌ منهم فقط يسمح لهم وضعهم المادي برفاهيات شراء الحلويات، أو حتى فنجانٍ أو كأسٍ من الشاي أو القهوة.
وعلى الرغم من الضائقة المالية الكبيرة التي يعيشها باستمرارٍ، وعجزه، مع كثيرين، عن تأمين أبسط متطلبات الحياة الكريمة، له ولبقية أفراد أسرته، لم يبدِ محمد أي إشارة على كونه نادمًا على ترك العمل العسكري مع الفصائل. وقد ازدادت قناعته بصحة قراره، بعد عمليتي «غصن الزيتون» و«نبع السلام» التركيتين. لكن موقفه الشخصي من الفصائل والقيادة الأجنبية/ التركية لها، لا يجعله في موقف رافضٍ بالكامل للمنتمين إلى هذه الفصائل والعاملين معها، من جهةٍ، وللدور التركي في سوريا، عمومًا من جهةٍ أخرى. وسأفصِّل فيما يلي وجهة نظره، في خصوص هاتين المسألتين.
يميِّز محمد بين ثلاثة أسباب رئيسةٍ تدفع الناس إلى الاستمرار في الانتساب إلى فصائل «الجيش الحر/ الجيش الوطني»، والانخراط في صفوفه، والقتال معه.
من جهةٍ أولى، هناك أشخاصٌ ما زالوا يرون أن هذه الفصائل تمارس دورًا إيجابيًّا في تحرير مزيدٍ من المناطق الخاضعة لاحتلال النظام الأسدي أو قوات «بي كي كي/ الأكراد» أو الدواعش (سابقًا)، أو حماية «المناطق المحررة»، من القوى المذكورة أو من غيرها من القوى. ويعتقد هؤلاء الأشخاص أن خضوع مزيدٍ من المناطق لسيطرة «الجيش الحر/ الجيش الوطني» كان و/أو سيكون له آثار إيجابية على سكان المناطق المحررة، سابقًا ولاحقًا، كما سيكون له وزنٌ وأهميةٌ كبيرةٌ، في أي مفاوضاتٍ سياسيةٍ مستقبليةٍ، مع النظام الأسدي أو غيره، في خصوص مستقبل سوريا. ولا ينكر معظم هؤلاء الأشخاص وجود سلبياتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ في «عمليات التحرير»، لكنهم يرون أن وجود الفصائل المسلحة، والانتساب إليها، والمشاركة معها في «عمليات التحرير»، و/ أو عمليات الدفاع و«حماية الأراضي المحررة» من هجمات «الأعداء»، يمثل الخيار الأفضل، أو بالأحرى، الخيار الأقل سوءًا، بين الخيارات المتاحة. فالبدائل المتاحة كلها أسوأ بامتيازٍ.
من جهةٍ ثانيةٍ، هناك أشخاصٌ ينضمون إلى هذه الفصائل المسلحة، ويقاتلون معها، تحت ضغط الحاجة المادية، بالدرجة الأولى. فغايتهم الأساسية هي الحصول على «الراتب الشهري» و«المكافآت المالية»، ليستطيعوا أن يؤمنوا لأنفسهم، ولأفراد أسرهم، حاجاتهم الأولية من طعامٍ وماءٍ ولباسٍ وعنايةٍ طبيةٍ وما شابه. وهم يجدون أن الانضمام إلى إحدى الفصائل هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية. وبسبب ضآلة المبالغ المالية التي يتلقاها أفراد الفصائل عمومًا، والتخفيض المتكرر للرواتب، أو توقف معظم الفصائل المتكرر عن دفع «الرواتب المالية»، مراتٍ عديدةٍ، يجد هؤلاء الأفراد أنفسهم في حالاتٍ متكررةٍ من العوز المادي، وبسبب ذلك، تكون أمامهم أحد الخيارات الثلاث التالية: إما الاستمرار في العمل لدى الفصائل، بوصفه أفضل الخيارات الممكنة، أو أقلها سوءًا، وتحمل «ضنك العيش»، عند انقطاع الرواتب المالية خصوصًا، مع محاولة إيجاد عملٍ أو موردٍ ماليٍّ إضافيّ؛ أو ترك العمل لدى هذه الفصائل والبحث عن فرص عملٍ أخرى (فتح بسطة، مثلًا وخصوصًا، كما فعل محمد)، أو الاشتراك/ التطوع في الحملات العسكرية التركية، نظرًا إلى أن الأتراك يضاعفون رواتب من يشارك في مثل هذه الحملات عادةً.
من جهةٍ ثالثةٍ، هناك أشخاصٌ ينضمون إلى الفصائل/ «الجيش الوطني»، بهدف الاستفادة من موقعهم، في ممارسة عمليات التعفيش، التي تحدث خصوصًا أثناء الحملات العسكرية على مناطق جديدةٍ. وقد لا يحتاج مثل هؤلاء الأشخاص إلى محاولة تبرير أو تسويغ لصوصيتهم وممارساتهم التعفيشية، لكن ليس نادرًا أن يبرروا أفعالهم بسوء أوضاعهم المالية و/ أو بأنهم كانوا ضحايا سابقين لعمليات تعفيشِ من هذه الجهة أو تلك، وأن ما يفعلونه هو مجرد استردادٍ لحقوقهم والثأر من الجهة التي مارست ذلك التعفيش بحقهم، و/ أو بأنهم يمارسون حقهم الطبيعي في الحصول على «الغنائم»، وفقًا لما كان يفعله المسلمون الأوائل، و/ أو بأنه من الأفضل أن يحصلوا، هم، على هذه الغنائم، بدلًا من تركها للصوصٍ آخرين غير مستحقين لها، أو بدلًا من تركها مشاعًا وغير مستخدمةٍ بسبب هروب أهلها أو نزوحهم. من الواضح تهافت الحجج المقدمة لتسويغ ما يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أنه غير قابلٍ للتسويغ. لكن الفوضى السائدة في «المناطق المحررة» عمومًا، وفي المخيمات، وخلال الحملات العسكرية خصوصًا، تترك آثارًا عميقةً وكبيرةً على الأخلاقيات السائدة عمومًا. وسأعود لاحقًا إلى هذه النقطة.
الأسباب الثلاثة المذكورة لا توجد منفردةً وبمعزلٍ عن بعضها بعضًا، بل غالبًا ما يكون اثنان منها، على الأقل، حاضرين، لدى الشخص نفسه. وليس هناك تعارضٌ ضروريٌّ بين الانضمام إلى أحد الفصائل، على أساس وجود قناعةٍ بإمكانية إسهام هذه الفصائل، وذاك الشخص، في عمليات «تحرير الأراضي المحتلة»، من هذا الطرف أو ذاك، والتصدي للتهديدات المحيقة ﺑ «الأراضي المحررة»، من جهةٍ، والانضمام إلى هذه الفصائل، بسبب العوز المادي، و«طمعًا» في الرواتب والمكافآت المادية، من جهةٍ أخرى، فيمكن للسببين أن يكونا حاضرين معًا، عند كثيرٍ من الأشخاص، وفي كثيرٍ من الحالات. كما لا يوجد تناقضٌ ضروريٌّ بين الانضمام، بسبب الحاجة المادية، والانضمام، طمعًا في الغنائم، وسعيًا إلى ممارسة عمليات التعفيش، عند وجود الفرصة لذلك.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إلى أي مدى يمكن أن ينسجم السببان الأول والثالث معًا: الرغبة في نصرة الثورة والثائرين، وتحرير الأرض والناس، من جهةٍ، وتقبُّل، أو حتى مجرد قبول، عمليات النهب والتعفيش، وفق ذهنية الغنائم، التي جرت في العمليات التركية الثلاث، من جهةٍ أخرى؟ من الواضح أن عمليات التعفيش المذكورة تحاكي، ليس ما قام به جنود النظام الأسدي، مرارًا وتكرارًا، في مناطق سوريةٍ مختلفةٍ، فحسب، بل وتحاكي أيضًا ممارسات نخبه السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، القائمة على الفساد واللصوصية والإفساد. وبذلك فإن ممارسي عمليات التعفيش إنما يعيدون إنتاج النظام الأسدي، أكثر مما يعملون على إسقاطه وتغييره، وفقًا لمزاعمهم. لا شك أن هؤلاء «المعفشين الصغار» يعيشون في ظروفٍ مختلفةٍ، اختلافًا كبيرًا، عن ظروف «المعفِّشين الأسديين الكبار»، فأوضاعهم وأوضاع أهاليهم وأطفالهم مزريةٌ غالبًا، وليس أمامهم كثيرٌ من الخيارات الجيدة، لكن إلى أي حدٍّ يمكن أن يفضي هذا الاختلاف إلى اختلافٍ في تقييمهم، بوصفهم مرتزقةً ومعفِّشين؟
يمكن استخدام هذا التمييز/ التمايز بين أنواعٍ أو أنماطٍ مختلفةٍ من الأسباب والأشخاص، في إقامة التمييز، أو إظهار التمايز، بين الفصائل العسكرية العاملة في تلك المنطقة. صحيحٌ أن جميع هذه الفصائل خاضعةٌ لتركيا، لدرجةٍ أو لأخرى، إلا أن هذا لا يعني أنه لم يعد هناك قضية سورية بالنسبة إليها جميعًا. فمن ناحيةٍ أولى، معظم الفصائل والأشخاص المنتمين إلى «الجيش الحر/ الجيش الوطني» لم تشارك في الحملات التركية الثلاث المذكورة. والمشاركة طوعيةٌ دائمًا، بمعنى أنه ليس هناك ضغطٌ على أي فصيلٍ أو شخصٍ، للمشاركة في أي معركةٍ أو حملةٍ عسكريةٍ. وقد امتنع عددٌ كبيرٌ من الفصائل والأفراد المنتمين إليها، عن المشاركة في الحملات التركية الثلاث. صحيحٌ أن فصائل «الجيش الحر» انضوت كلها في التنظيم الجديد، لكن هذا لا يعني أن هذه الفصائل، أو أعضاءها، قد فعلوا من أجل المال (فقط). الخضوع للإشراف التركي في التنظيم، وعدم فتح معركة إلا بإذنه، وعدم اجتياز الحدود الحالية ﻟ «المناطق المحررة» إلا بإذنٍ تركيٍّ، لم يكن، كل ذلك، خيارًا، بالمعنى الكامل للكلمة. فكل البدائل هي خياراتٌ ميتةٌ، لأنها أسوأ بكثيرٍ، ولا يمكن قبولها أو تحمل كلفتها، بحالٍ من الأحوال. فالبدائل تتمثل في الاستسلام للنظام الأسدي، على سبيل المثال، أو التخلي عن حماية تركيا ومساندتها المادية والمعنوية الضرورية جدًّا؛ أو حتى استعدائها والدخول في معركةٍ خاسرةٍ معها، أو مع النظام الأسدي وحليفه الروسي.
خضوع الفصائل وأفرادها، للإشراف التركي، بحد ذاته، وللحدود العامة التي يضعها، لا يعني التحول بالضرورة إلى مرتزقةٍ. فبغض النظر عن عدم انطباق التعريف الاصطلاحي ﻟ «الارتزاق» على هذه الفصائل وهؤلاء الأفراد، لكونهم يقاتلون في أرضهم وليس في أرضٍ اجنبيةٍ، ثمة شكوكٌ كبيرةٌ في انطباق التعريف الشعبي المعياري على بعض هذه الفصائل، على الأقل، وعلى الكثيرين من أفرادها.
هناك من فقد ثقته بكل «الفصائل المعارضة» وبكل أفرادها، ولم يعد يرى أي معنى للحديث عن «الجيش الحر»، لا من حيث الوجود، ولا من حيث القيمة الإيجابية. ومع الإقرار بوجود مسوغاتٍ، كثيرةٍ وكبيرةٍ، لهذه النظرة السوداوية العدمية، هناك ضرورةٌ عمليةٌ، بل ونظريةٌ، معرفيةٌ ومعياريةٌ، للتمييز بين ما يسميه محمد، مع كثيرين في المخيمات وتلك المناطق عمومًا، «فصائل الجيش الحر»، والفصائل التي أوجدتها تركيا وصنعتها، لتنفيذ مآربها الخاصة. فهذه الفصائل الأخيرة تختلف، اختلافًا جذريًّا، عن الفصائل المنسوبة ﻟ «الجيش الحر/ الجيش الوطني». ويتمثل الاختلاف في أن فصائل التي شكَّلتها تركيا لا علاقة لها، من حيث المبدأ، بالثورة السورية ضد النظام الأسدي، ولا تُعتبر جزءًا منها، ولا تعتبر هي نفسها ذاتها جزءًا منها. فهذه الفصائل أنشأتها تركيا منذ سنواتٍ قليلةٍ، لتنفذ بها بعض مآربها/ سياساتها. ومعظم أفراد هذه الفصائل هم محترفون أو مرتزقة، بالمعنى الشعبي الدقيق للكلمة. فهم لا يقاتلون من أجل قضيةٍ ما، يؤمنون بها وبقيمها، وإنما يقاتلون، حصرًا وأساسًا، من أجل الحصول على المال (الرواتب والمكافآت والغنائم)، وربما الجنسية ومنافع أخرى. وهؤلاء، تحديدًا أو خصوصًا، هم من يصفهم محمد، وكثيرون غيره، ﺑ المرتزقة. وقد أصر محمد على وجوب الابتعاد عن لغة التعميم، عند الحديث عن أفراد هذه الفصائل، فليس مستبعدًا، من وجهة نظره وجود عناصر غير مرتزقةٍ بينهم، من حيث أنهم انتسبوا إليها، بناءً على اعتقادهم بأنها تخدم أهداف «القضية العادلة» التي يقاتلون من أجلها. وعندما سألت محمد عن معلوماته عن «المقاتلين السوريين» الذين قيل إن تركيا قد أرسلتهم إلى ليبيا، قال لي إنه لا يعلم عن الأمر شيئًا، وإنه، على حد علمه، لم يكن هناك أي عرضٍ على أفراد الفصائل المنتمية إلى «الجيش الحر/ الجيش الوطني»، للذهاب إلى ليبيا. وبعد أن سأل أحد قادة فصائل «الجيش الحر/ الجيش الوطني»، أخبرني بأنهما اتفقا على أنه لم يذهب أحد من أفراد هذه الفصائل إلى هناك، وعلى أن الفصيل الذي يفعل ذلك هو مرتزقةٌ، وهو، على الأرجح، من الفصائل التي شكَّلتها تركيا؛ «وكل واحد بدو يروح هاد باع دينو وأرضو»، من وجهة نظرهما.
تبدو نظرة محمد، وكثيرين غيره، إلى الدور التركي في سوريا، خلال السنوات الأخيرة، بالغة التركيب والتعقيد، ومتعددة الأبعاد المعيارية. فبالنسبة إليهم، تركيا ليست عدوًّا لهم، فهي من ساعدتهم على أن يجدوا، في الأراضي السورية، مكانًا آمنًا من خطر القصف الأسدي أو الروسي أو الأميركي، ومن خطر قوات النظام الأسدي وقوات داعش و«قوات بي كي كي/ الأكراد». ويشعر محمد، مع كثيرين، بامتنانٍ بالغٍ، بسبب قدرتهم على البقاء، حتى الآن، في أرضهم، في سوريا. فهذا البقاء يعطيهم شعورًا بإمكانية العودة إلى بيوتهم وقراهم مستقبلًا، ولو بعد حينٍ؛ كما أن هذا البقاء يجنبهم شعور اللاجئ بأنه مقيمٌ في أراضي الآخرين. وقد وصف محمد تركيا بأنها كالقشة التي يتمسك بها الغريق. فمع اعتقاد السوريين في تلك المنطقة أن العالم كله قد تخلى عنهم، فإنهم يشعرون بالامتنان للوجود التركي الذي جنَّبهم العودة إلى ويلات النظام الأسدي. فالأتراك أصدقاءٌ، فقط، مقارنةً بالقوى والدول الأخرى.
وليس لدى أمثال محمد أوهامٌ، في خصوص دوافع تدخل الاتراك، فهو يعرف، حقَّ المعرفة، بديهية أن ما يفعله الأتراك إنما تحركه مصالحهم الخاصة، وقد أظهرت عمليات «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام» ذلك بوضوحٍ شديدٍ، لكنه يأمل أن تتقاطع مصالح الأتراك مع مصالح السوريين النازحين/ الثائرين على النظام. ويسود الاعتقاد و/أو الأمل، لدى كثيرين، في أنه يمكن لتركيا أن تساعد هؤلاء السوريين على تحقيق بعض تطلعاتهم، وأنها ستفعل ذلك على الأرجح، حين لا يتعارض ذلك مع مصالحها الخاصة، وحين تسمح لها الظروف الدولية بذلك.
لكن مقابل هذا التقاطع المنشود، هناك التناقض المؤسف أو حتى الكارثي أحيانًا، بين مصالح تركيا ومصالح السوريين الثائرين/ النازحين. وقد ظهر هذا التناقض، ظهورًا فاقعًا، في عملية «غصن الزيتون» فبدلًا من أن تساعد تركيا الناس الراغبين في تحرير قراهم ومناطقهم من احتلال «قوات بي كي كي/ الأكراد» لها، وهي القرى والمناطق التي لا تبعد عن مخيماتهم إلا كيلومتراتٍ قليلةٍ، جنَّدت بعض سكان هذه القرى والمناطق المحتلة، واستغلت حالة الاحتقان والتوتر بينهم وبين «قوات بي كي كي/ الأكراد»، كما استغلت حاجتهم و/ أو مطامع بعضهم المادية، وزجتهم في حملتها على عفرين السورية، وما تضمنته هذه الحملة، أو أفضت إليه، من جرائم ومآسٍ وكوارث.
يتعامل الأتراك مع السوريين في تلك المناطق عمومًا، من موقع الأقوى والوصي، ويستفيدون من حالة تفاوت القوى بينهم وبين هؤلاء السوريين، وحاجة السوريين إلى من يعينهم على نوائب النظام الأسدي وحلفائه وأوضاعهم الكارثية. ولهذا لا يتهاون الأتراك، ولا يتسامحون، مع من يتجرأ على انتقادهم او مخالفة تعليماتهم وتوجيهاتهم. فلقد «صار لهم على الثائرين/ النازحين الضربة اللازمة»، على حد تعبير محمد. ولا يستسيغ محمد هذا التعامل الفوقي، وهو يحاول تجنب التعرض له، قدر المُستطاع. وهذا هو أحد أسباب تركه العمل مع الفصائل المسلحة، كما سبق وأن أشرنا. لكن، كل ذلك وغيره، لا يجعل تركيا عدوًّا، في نظر معظم الثائرين/ النازحين، المقيمين في تلك المخيمات والمناطق. فهم ليسوا في وضعٍ يسمح لهم باستسهال معاداة تركيا أو استعدائها. وحتى إذا سلَّمنا بأن تركيا هي عدوةٌ للسوريين الثائرين/ النازحين، أو ينبغي أن تكون عدوةً لهم في عيونهم، ينبغي حينها تفكيك ثنائية عدو-صديق، لتصبح تركيا العدو الصديق، أو العدو والصديق، في الوقت نفسه؛ فهي العدو الأقل سوءًا، لدرجةٍ تجعلها، مقارنةً مع الأعداء الآخرين، صديقًا لا يمكن الاستغناء عنه، في السياق الراهن، على الأقل.
خرج مصير السوريين من أيديهم، منذ فترةٍ طويلةٍ، خروجًا جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل. وما زال هناك أملٌ وإمكانيةٌ بألا تقتصر خيارات السوريين، على أن يكونوا إما مرتزقةً لا قضيةً لهم إلا مصالحهم الخاصة، أو يائسين منسحبين من العمل في مجال الهم العام و«القضية/ الثورة السورية». لا ينبغي، أو بالأحرى، لا يمكن للسوريين أن يتحولوا إلى مجرد «مرتزقةٍ»، بقدر ما يكون لديهم قضيةٌ يتبنونها، ويدافعون عنها، ويعملون على إنجاحها وتحقيق غاياتها، لما في ذلك من تحقيقٍ لمصالحهم وتطلعاتهم وقيمهم، في الوقت نفسه.
ربما أصبح واضحًا أن الارتزاق نتيجةٌ، أكثر من كونه سببًا، وأن معظم ضحاياه ورافضيه، والمهتمين أو المنهمين به، «على الأرض»، هم أكثر المتهمين، بل و«المهتوتين»، به. وفي وضعٍ لا ترى فيه القوى والدول صاحبة النفوذ والهيمنة و«القول الفصل»، في السوريين، إلا أدواتٍ لأجندتها، ووسائل لتحقيق أغراضها وغاياتها. لكن على الرغم من أنَّ «كل شيءٍ» قد يدفع للارتزاق ويسوِّغه، فإن معظم الناس المتهمين بالارتزاق، أو بدعمه، أو بكونهم «بيئته الحاضنة»، رافضون له، فعليًّا، من حيث المبدأ، وهم ضحاياه وضحايا ظروفٍ خارجةٍ عن إرادتهم، أكثر من كونهم مرتزقةً مسؤولين عن هذه الظروف وعن سوئها المتزايد.
تفاديًا لأي سوء فهمٍ محتملٍ، من الضروري التشديد على أن هذا النص لا يهدف، لا إلى متابعة (استسهال) إطلاق أحكام الإدانة المعتادة، في خصوص المرتزقة وارتزاقهم، ولا إلى الدفاع عنهم وتسويغ هذا الارتزاق، الفعلي أو المزعوم. فما يهدف إليه النص، تحديدًا أو خصوصًا، هو امتلاك فهمٍ أكبر لهذه الظاهرة، ومناقشة بعض الخطابات الرائجة في خصوصها، وتوضيح وجهة نظر كثيرين من المتَّهمين بها، بحقٍّ أو بدونه، واستنطاق معاناتهم، وإبراز أصواتهم المغيَّبة، أو مهمَّشة الحضور، وضعيفة التأثير، في مسألةٍ تخصُّهم، بالدرجة الأولى. إن الإنصات إلى هذه الأصوات، وأخذ منظورها في الحسبان، يحتَّم علينا التوقف عن استسهال إطلاق الأحكام والتعميمات، الفارغة معرفيًّا، والمسيئة أخلاقيًّا وسياسيًّا، في خصوص هذه المسألة. وفي مثل هذا السياق، لا بد للمعاش أن يكون حاضرًا، في التنظيرات والتقييمات، ومؤسِّسًا لها، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل.
في سردي للظروف التي برزت فيها ظاهرة الارتزاق، حاولت أن أبين بعض الظروف التي حصل فيها تحول بعض الثائرين إلى مرتزقة، والتي شهدت في الوقت نفسه، رفض كثيرين لهذا التحول. ونظرًا إلى السمة الأخلاقوية السائدة أو الطاغية، في خطاب من يقتصر على إدانة الارتزاق و«المرتزقة السوريين»، بدون إقامة التمييزات، وضبط المصطلحات، وفهم أسس الظاهرة وأبعادها وحدودها، ينبغي لهم، ولنا جميعًا، الابتعاد عن استسهال التعميمات الجائرة، والحذر الشديد من إطلاق تلك التسمية على ضحايا الارتزاق، والمكتوين بناره ونار القوى التي تفرضه. فمن الضروري التشديد، في هذا الخصوص، على أن القسم الأكبر من الثائرين/ النازحين قد قاوم ظاهرة الارتزاق ورفضها، حتى حين بدا أن الارتزاق هو الخيار الأفضل، إن لم يكن الخيار الوحيد، المتاح أمامهم. ورفضهم للارتزاق نابعٌ من كونهم ضحايا له، وناتجٌ عن تبني معظمهم لقضيةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ هي قضيةٌ وجوديةٌ، قضيةُ وجودهم، أيضًا؛ لكونها تمس صميم هذا الوجود، وقيمته، في الوقت نفسه.