قبل «أزمة اللاجئين»، ارتبطت ألمانيا في أذهان كثير من الناس بأمور عديدة، منها ما هو سلبيٌّ كالنازية والحرب العالمية الثانية، ومنها ما هو إيجابيٌّ مثل التقدم الصناعي والازدهار الاقتصادي والعراقة والريادة على صعيد الفلسفة والأدب والموسيقا… إلخ، ومنها ما هو حياديٌّ أو ملتبسٌ وضبابيّ القيمة، كالروح العملية والصراحة الجافة. إلى جانب ذلك كله، أو بغض النظر عنه، أظهرت ألمانيا، في السنوات الأخيرة، وجهاً جديداً ومفاجِئاً بالنسبة لكثيرين (ومن ضمنهم بعض الألمان) تمثَّل في ما سمي بـ «ثقافة الترحيب»، وهو المصطلح الذي أصبح «ماركة ألمانية حديثة مسجلة»، ودخل إلى عدد من اللغات الأخرى (كالإنكليزية)، برسمه ولفظه الألمانيين (Willkommenskultur).

وعلى الرغم من أن المصطلح يشير إلى سياسة «الأبواب المفتوحة» التي اتبعتها الحكومة الألمانية، لفترة معينة، تجاه أفواج اللاجئين القادمين إليها، فإنّه يعبر، بدقة ودرجة أكبر، عن التعاطف الهائل الذي أبداه كثيرٌ من الألمان تجاه اللاجئين الفارين من ديارهم، وعن تجسيدهم لهذا التعاطف، من خلال العمل على مساعدة اللاجئين بكل السبل الممكنة (والتي تبدو غير ممكنة أحياناً).

وقد برزت هذه الثقافة الرائعة في ممارسات عددٍ كبيرٍ من الألمان وفي خطاباتهم، وانبرى كثيرٌ منهم لتنظيم هذا التعاطف، من خلال إطلاق مبادراتٍ وتأسيس جمعياتٍ ومواقع ومراكز تهدف إلى الترحيب باللاجئين القادمين ومساعدتهم على اجتياز الظروف الصعبة التي يمرون فيها، إلى أن يصلوا إلى مرحلة يستطيعون فيها الاعتماد على أنفسهم في تسيير أمور حياتهم. ويصعب كثيراً، إلى درجة الاستحالة على الأرجح، أن تجد لاجئاً لم يتلقَّ مساعدةً من إحدى هذه المبادرات والمنظمات، أو من أفرادٍ تتجسد فيهم ثقافة الترحيب الألمانية آنفة الذكر.

وللتعريف بتلك «الثقافة المرحِّبة»، أودّ أن أتحدث عن مبادرة «مرحباً بكم في فِرمِلسكيرشن» عموماً، وعن السيدة كورنيليا زِنغ/ Cornelia Sengلمزيدٍ من المعلومات، باللغة العربية، عن هذه المبادرة وعن بعض أفكار السيدة زِنغ، بوصفها الوجه الأبرز والأكثر فاعليةً فيها، يمكن الرجوع إلى ترجمتي لنصٍّ كتبته السيدة زِنغ، باللغة الألمانية، ردّاً على تصريحات وزير الداخلية الألماني بخصوص «الثقافة الألمانية الرائدة». وقد نُشِرت الترجمة في جريدة أبواب منذ أسابيع قليلة.، إحدى أبرز الشخصيات المؤسسة لهذه المبادرة والفاعلة فيها، خصوصاً. وسأعبر، في هذا الخصوص، عن انطباعاتي الشخصية (النفسية والأخلاقية والفكرية) عنها، من خلال خبرتي مع هذه المبادرة، بوصفي لاجئاً أولاً، ومتطوِّعاً فيها ثانيّاً، وعاملاً في القسم الاجتماعي المختص بمساعدة اللاجئين في بلدية فِرمِلسكيرشِن ثالثاً.

قبل تأسيس المبادرة في أكتوبر عام 2014، وبعد تدفق عددٍ كبيرٍ من اللاجئين إلى ألمانيا، وجد معظم اللاجئين صعوبةً في التواصل مع المجتمع المحلي، على الرغم من وجود بعض الأشخاص اللطفاء الذين أبدوا استعدادهم للتفاعل الإيجابي مع اللاجئين ومساعدتهم، راينهِلد برِنزالسيدة Reinhild Prinz، وكانت هذه السيدة البسيطة هي الوحيدة في مدينة فِرمِلسكيرشن التي تزور، يوميّاً تقريباً، مكان سكن اللاجئين وتحاول بناء علاقات إنسانيةٍ طيبةٍ معهم ومساعدتهم قدر المستطاع، على الرغم من أن وضعها الاقتصادي والاجتماعي لم يكن أفضل من وضعهم بكثير، لكونها غير قادرةٍ على العمل، وتعتمد اقتصاديّاً على المعونات الاجتماعية المقدمة من الدولة.، هارارلد بِرغِرهوفالسيد Harald Berghof، هو طبيب يقيم في مدينة فِرمِلسكيرشِن، وكان من أوائل الذين حاولوا مساعدة اللاجئين في المدينة، وبناء جسور الاتصال والتواصل معهم. وقد أصبح السيد بِرغِرهوف شخصاً مقرباً وصديقاً شخصيّاً بالنسبة إلى عددٍ منهم.، بِرجيتَ كريبسالسيدة  Brigitte Krips، من أبرز الشخصيات المؤسسة لمبادرة «مرحباً بكم في فِرمِلسكيرشن»، والشخصية الأبرز والأنشط في فرع منظمة تافل في فِرملسكيرشِن، وهي المنظمة التابعة للكنيسة الكاثوليكية، والمختصة بمساعدة الفقراء والمحتاجين عموماً.، على سبيل المثال، لا الحصر. وقد تفاوت حجم الصعوبات التي واجهها اللاجئون، وتراوحت بين عدم معرفة عناوين الأطباء أو مدارس تعليم اللغة أو غيرها من المؤسسات المهمة، وعدم القدرة على إيجاد سكنٍ أو عملٍ أو توكيل محامٍ لإيقاف عمليات الترحيل أو تأجيلها، أو متابعة الأمور القضائية والقانونية وتعقيدات معاملات المؤسسات الرسمية والخاصة.

لقد شكَّل تأسيس المبادرة حدثاً بالغ الأهمية والدلالة، النظرية والعملية، بالنسبة إلى كثيرٍ من اللاجئين الذين وجدوا في هذه المبادرة سنداً حقيقيّاً يعينهم على تجاوز كثيرٍ من الصعوبات التي تعترض سعيهم إلى أن يكونوا «بشراً عاديين» ضمن المجتمع المحيط بهم، وفي الدولة التي يقيمون فيها، وليس مجرد لاجئين على هامش ذلك المجتمع وتحت نير بيروقراطية تلك الدولة.

لا يمكن، في السياق الحالي، الحديث بالتفصيل عن المساعدات المادية والمعنوية، الكثيرة والكبيرة، التي قدمتها هذه المبادرة لكثيرٍ من اللاجئين، وسأكتفي بالقول إنها تضمنت، على سبيل المثال، ما يلي: المساعدة المادية والمعنوية على تعلم اللغة الألمانية (سواء بالتسجيل في مدرسة تعليم اللغة ودفع معظم رسوم الدراسة، أو بافتتاح دوراتٍ خاصةٍ لهذا الغرض)، المساعدة في توكيل محامٍ مختص بقضايا اللجوء ودفع جزء من أتعابه، إقامة الندوات وكتابة المقالات وتحفيز المجتمع المحلي وتنسيق جهوده للحثّ على التعامل الإنساني الإيجابي مع قضية اللاجئين والتصدي لليمينيين المعادين للأجانب واستضافة اللاجئين، مساعدة اللاجئين على استئجار شققٍ خاصة وتجهيزها بالمفروشات اللازمة مجاناً، وعلى إيجاد فرص عملٍ أو تدريب أو تأهيلٍ مهنيّ، وتخصيص مكان للالتقاء الأسبوعي باللاجئين ومحاولة التعرف عليهم وعلى مشاكلهم ومحاولة مساعدتهم على حلّها، والعمل على تخصيص مشرفٍ خاصّ بكل أسرة، تكون مهمته مساعدتها في كل ما يمكن أن تحتاجه في مواجهة مشكلاتها العامة والخاصة.

لا أودّ أن أعطي انطباعاً «خاطئاً» بأن هذه المبادرة قد حلَّت جميع مشاكل اللاجئين؛ فالنيات الطيبة والإرادات الخيرة والأفعال التطوعية الصادرة عن المجتمع المدني المحلي، ليست كافيةً لحل هذه المشاكل. ومع ذلك، فمن المؤكَّد أن القائمين على هذه المبادرة قد بذلوا «كل ما بوسعهم». وقد بدا لكثيرين، وأنا منهم، أنهم بذلوا أكثر مما هو ممكنٌ أو منتظرٌ أو متوقعٌ منهم. وشكَّلت هذه «الثقافة المرحِّبة» مفاجأةً/صدمةً حقيقية. هي مفاجأة لأنها، بالنسبة إلى أغلبية اللاجئين، قد فاقت كل ما يمكن توقعه وانتظاره؛ وهي صدمةٌ لأن كثيراً من اللاجئين وجدوا صعوبةً في تصديق وجود أناسٍ يمكن أن يفعلوا ما فعله هؤلاء «الألمان» الذين تجسَّدت فيهم ثقافة الترحيب.

على هذا الأساس، بدأ بعض اللاجئين يتساءلون حول ما إذا كانت «ثقافة الترحيب» هذه «مغرضةً»، بحيث أنها مجرد وسيلةٍ لتحقيق غاياتٍ نفعيةٍ ما (كجذب اللاجئين إلى الديانة المسيحية مثلاً، وخصوصاً). وعلى الرغم من «الخصوصيات الثقافية» التي لعبت، على الأرجح غالباً، دوراً في إثارة هذه الشكوك، إلا أنه يمكن القول إنه من الصعب على الإنسان، عموماً، أن يقتنع أو يصدق بسهولةٍ أن مجموعةً كبيرةً من البشر يمكن أن تكرس كل هذا الوقت والجهد والمال لمساعدة أناسٍ آخرين «غرباء» لأسباب إنسانية أخلاقية، فقط أو بالدرجة الأولى.

لاحقاً، غابت هذه التشكيكات أو تلاشت تدريجيّاً لدى معظم المشككين، عندما تبين لهم عمليّاً أن تلك المبادرة أو «الثقافة المرحِّبة» هي، بمعنى ما، «لوجه الله» أو «لوجه الإنسانية» متمثلةً في الإنسان/اللاجئ. لكن هذا لا يعني افتقار هذه المبادرة لأسبابٍ ومحفزاتٍ واقعية. ولعل أبرز هذه الأسباب والمحفزات يتمثل في الإيمان العميق بما جاء في المادة الأولى من الدستور الألماني «كرامة كل إنسان غير قابلة للمساس بها». ﻓ «ثقافة الترحيب» مؤسَّسَةٌ على مفهوم الكرامة الإنسانية أكثر من كونها مؤسَّسَةً على مفهوم الكرم، وبالتالي، لم تكن هذه الثقافة تعبيراً عن نزوة كرمٍ حاتميٍّ عرضيّ أو انفعال عاطفيٍّ عابر، بقدر كونها تعبيراً عن منظومة قيمية – فكرية متجذرة في المجتمع والدولة والدستور. يضاف إلى ذلك، جاء تأسيس تلك المبادرة تعبيراً عن الرفض الكبير لنمو النزعات اليمينية العنصرية المعادية للأجانب (بيغيدا خصوصاً)، وتجسيداً لقوة المجتمع المدني الألماني وميله الدائم إلى مأسسة عمله، وتكامله مع عمل السلطات الرسمية في الدولة ومراقبته الفاعلة لها، في الوقت نفسه.

ولم يقتصر الدور الإيجابي لهذه المبادرة على التفاعل مع اللاجئ، بوصفه لاجئاً فحسب، بل تعداه إلى التعامل معه بوصفه إنساناً أيضاً. فإذا كان الإنسان اللاجئ شخصاً يحتاج إلى المساعدة ويثير وضعه مشاعر العطف أو التعاطف، فإن اللاجئ/الإنسان هو شخصٌ يمكن أن يكون رفيقاً وصديقاً، ينبغي، بل ويجب، التعامل معه على أساس الندية والإنسانية المشتركة التي تسمح بالاغتناء المتبادل. وفي ظل هذه الإنسانية الراقية، لم يعد التعامل بين «ألمان» و«سوريين»، أو بين «متطوعين» و«لاجئين»، وإنما بين بشر قد يتفقون ويتناغمون فيما بينهم، أكثر مما يتفقون مع كثيرٍ من «أبناء بلدهم أو دينهم أو ثقافتهم … إلخ». وبذلك تم تجاوز «ألمانية» ثقافة الترحيب، من خلال التفاعل على مستوىً إنسانيّ، يتأسس على ثقافات مختلفة ويتجاوزها، في الوقت نفسه. و«انتهى الأمر»، في كثيرٍ من الأحيان، بتفريد هذه العلاقات وشخصنتها.

التقيتُ في ألمانيا بكثيرٍ من الناس الذين يشبهون كورنيليا زٍنغ، من حيث تجسيدهم ﻟ «ثقافة الترحيب»، لكنني، لم أقابل مثلها، بوصفها فرداً متميِّزاً له بصمته الشخصية الفكرية والنفسية الخاصة التي تميزه عن كل الأشخاص الآخرين. وكما جرت العادة في ثقافتنا، فإن أقل ما يمكن أن نردّ به على هذا الترحيب والتأهيل هو القول: شكراً لكل من تجسَّدت أو تأسَّست هذه الثقافة في فكره وسلوكه، شكراً لإنسانيتكم أو أخلاقياتكم المشتركة ولفرادة شخصياتكم. وعلى الرغم من ثقل الشعور بالامتنان، فإن الشعور الأكبر السائد (أو الذي ينبغي أن يسود في «ثقافة الاعتراف») تجاهكم هو الحب والإعجاب والاحترام والتقدير.

لأسبابٍ كثيرة، بعضها ذو «خصوصية ألمانية»، يسهل على كثير من الألمان إبداء شعورهم بالأسف أو العار أو الخجل مما تم فعله باسمهم أو باسم بلدهم في الحاضر أو في الماضي القريب أو البعيد. ومع ذلك، فإن معظم هؤلاء الألمان يبدون حذراً شديداً، الذي قد يصل إلى درجة الرفض القاطع، في التعبير عن أي مشاعر بالفخر «القومي» أو بما هو ألمانيٌّ أو منسوبٌ لألمانيا. ولا يبدو منطقيّاً عدم قدرة الشخص، من حيث المبدأ، على الشعور بالفخر، تجاه طرفٍ ما وفي خصوص أمرٍ ما، مع شعوره تجاه هذا الطرف بالعار أو الخجل، في خصوص أمرٍ آخر. وإذا كان من المفهوم والمعقول تعبير كثيرٍ من الألمان عن شعورهم بالخجل أو العار مما فعله هتلر، مثلاً وخصوصاً، فلهؤلاء الألمان كامل الحق والجدارة بأن يشعروا بالفخر بـ «ثقافة الترحيب» وبكل من جسَّدها «منهم» في فعله وفكره ومشاعره.

وعلى الرغم من الخفوت، الجزئي والنسبي، مؤخَّراً، لهذه الأصوات المعبرة عن «ثقافة الترحيب»، إلى درجةٍ بدا معها أحياناً أن هناك ندَماً، بدرجاتٍ متفاوتة – على المستوى الحكومي والحزبي وحتى الشعبي – على تبني هذه الثقافة أو وجودها، فإن قيام «ثقافة الترحيب» مثَّلَ، في ما يبدو، نقطة تحولٍ كبيرة في تعامل كثيرٍ من «الألمان» مستقبلاً مع تاريخهم، بحيث سيكونون، على الأرجح، قادرين على النظر إلى «حدث ثقافة الترحيب»، بعين الرضى والاعتزاز والفخر. وفي كل الأحوال، أثرت هذه الثقافة تأثيراً إيجابيّاً، وغالباً مصيريّاً، في حياة مئات الآلاف من البشر/اللاجئين. وآملُ وأتوقعُ أن يستمر، في المستقبل، هذا التأثير الإيجابي، ويتبلور وتتضح نتائجه اتضاحاً أكبر.