*****
في البدء، كانت «الموهبةُ» شيئاً إلهياً يُعطى لعددٍ من عباده، Gift، هديةً ميتافيزيقية، تجعل صاحبها قادراً على فعل ما لا يفعله غيره.
في العربية، الموهبةُ في واحدة من معانيها هي «غدير ماء صغير»، وعلى الأرجح سُمِّيَ ذلك النوع من الغدير بهذا الاسم لأنه ليس نِتاجَ الجغرافيا، بل هو الماء الذي يظهر في الصحراء إثر مطر غزير، هو هدية ربانية إذن، مثل عطاء الفنان الباهر تماماً. قال العرب على صاحبِ الموهبة الفطرية أنه صاحبُ قريحة، و«قَرِيحةُ الإِنسانِ: طَبِيعَتُه التي جُبِلَ عليها، وجمعها قَرائح، لأَنها أَول خِلْقَتِه» كما جاء في لسان العرب.
كان العرب يعتقدون أن قول الشعر أمرٌ موكولٌ بالجن والشياطين، لكن المَن۟حَ لا يأتي إلا شاقّاً، فللشعر شيطانان أحدهما الهوبر، وهو من يَمنحُ العطايا، والآخر الهوجل، وهو مُفسد القصائد. كل قول مجيد هوبري، وكل ركاكة هوجلية. تفسيرٌ بسيطٌ مناسب للمخيال الصحراوي، إذ لا بدَّ أن الشاعر تعثَّرَ بأهل العوالم اللامرئية، ومنحوه كلمات يباهي بها العالم.
هذا التصور الشيطاني كان موجوداً بصيغ مختلفة في الحضارات الإنسانية، حتى توقفت البشرية قليلاً أمام ذلك الهذر، عَرَفَت أن إلقاء المهمة في حُجر الشياطين ينزع عن الإنسانية تميّزها الذي تدعيه. الجن والشياطين مناسبة للخوارق المؤذية فقط، لا في المِنَح الفنية. لا بدَّ أن أحدهم في يومٍ ما قرَّرَ أن يتخلى عن الشيطان معتمداً على اللغة وحدها في التفسير، فجاءت كلمة «الموهبة» دون تعيين واهبها، ليكن الشيطان أو الله، أو الطبيعة، لا يهم، هي منحةٌ أُعطيت لشخص ما لتنفتح عيوننا عن آخرها انبهاراً بأعماله، ويبدو أنها استقرّت عندها ورضيت بمعناها. ياللتفاهة.
أسماءٌ قليلة في التاريخ الفني رُبِطَت بالعبقرية، والكلامُ عن أصحابها باعتبارهم حَمَلَة الوحي بعد الأنبياء – ألا يُسأل الفنان والكاتب حتى الآن من أين يأتيه الوحي؟ – متماهٍ مع منجزهم الهائل، على اعتبار أن منجزهم هذا أحدث تغييرات مفصلية في وعي البشرية. موتسارت، سوف نتحدث عنه بالتفصيل بعد قليل. ديستويفسكي، الروائي الروسي صاحب الكرامات والكآبة، وملهم المحلل النفسي فرويد. رامبو، تاجر عبيدٍ كتبَ الشعر قبل العشرين؛ لا تُذكَرُ أسماؤهم دون الكثير من الانبهار والحماسة التي يختلط فيها المُنتَجُ بالسِيَري، ولا انفصال بينهما على الأرجح مع هذه التجارب. ثم تلتصقُ بهم هذه الكلمة، «الموهبة»، التصاقَ اللافتات بالحوائط، على اعتبار أنها «القول الفصل» في تلخيص ماهياتهم الفنية.
لكن الموهبة مع موتسارت شيءٌ آخر، هي حكاية ملحمية، ثنائيةُ المديوكر (العادي، المتوسط، لا نابهٌ ولا غبي) والموهوب، قصةُ موتسارت وسالييري الموسيقار الإيطالي. يختلط الواقع بالخيال في حكايتهما، من وراء فيلم ميلوش فورمان المؤلم أماديوس، ويحكي الفيلم حكاية موهبة موتسارت الكاسحة بحسب أنتونيو سالييري، وكيف منح سالييري كل شيء في حياته لأجل أن يعطيه الله منحة التأليف الموسيقي، لكنه لم يُعطَ شيئاً يرضى به. توسلات سالييري لله كاشفة: «لماذا يا رب لم تعطني ما أعطيت موتسارت؟» عادى سالييري الله، عاداه في «المنحة الإلهية» التي حُرِمَ منها.
لا يظهر الموهوب إلا بحضور المديوكر. يحبُّ العالم ميسي أكثر لأن رونالدو موجود، وحتى الصحف الإسبانية تستعين بمثالي موتسارت وسالييري للانتصار لميسي. لا مكان للمجهود والدأب ها هنا، الميتافيزيقا هي التي تهمين على التقييم، وعلينا أن نخضع لها.
*****
عامان مضيا على خوفي من فكرة أن أكون مديوكر، واجهتُ نفسي بخشيتي من متلازمة سالييري، (المتلازمة النفسية التي تُعرَفُ بأنها انسحاقُ منجزٍ في ظل آخر أكثر لمعاناً). لماذا لم يعطني الله القدرة على الكتابة مثلما أعطى موتسارت القدرة على التأليف الموسيقي؟ لماذا أرى ذاتي سالييري وكل الشعراء موتسارت؟ كنتُ أخافُ ألا أُعطى على مقدار محبتي للشعر، أنا محبٌّ مجنونٌ للشعر، لا أرى مركزاً في حياتي إلاه، محبوساً في خيالات الطفولة، وتوقيعاتها المغرورة «أعظم شاعر في العالم». زادَ وعيي وبَقيَت سذاجتي الطفولية كما هي. أشاهدُ فيلم أماديوس وأتقمص أداء سالييري في مشهد الفيلم الأخير، حين يحيي المجانين صائحاً فيهم إنه «ملك الميديوكر»، وأبكي على حالي. كيف لا يخاف المبدعون من فيلم كهذا؟
أحببت سالييري محبة المشفق على «قريب» فرمته مظلومية الموهبة، قتلت هذه الموهبة محبة سالييري الغامرة للموسيقى التي أرادها أن تكون معجزته، ضلّته إلى أماديوس. يرى بأم عينيه كيف لذلك الطفل العابث غير الملتزم بالقواعد واللياقة وقد صار مالئ الدنيا وشاغل الناس، الكل يتحدث عن عبقريته، عن موسيقاه التي لا تُضاهى.
موتسارت هو الذي بدأ التأليف الموسيقي طفلاً. بعد أعوام من الانسحاق أمام سيرة «فولفي» (اسمُ الدلال الذي أطلقوه على فولفجانج أماديوس موتسارت الملعون)، وقفتُ أمام هذه الجملة كثيراً: «موتسارت بدأ التأليف طفلاً… موتسارت بدأ التأليف طفلاً» تماماً مثل الأساطير، وقعُها أكبر من الحقيقة. نبشتُ وراءها حتى عرفتُ عدم صحتها كلية، فهو لم يؤلف أول سيمفونية قبل أن يُتم العاشرة كما يُشاع. كل ما في الأمر أن وراءه «عائلةً» أرادت له أن يكون موسيقياً، المسألة لا تختلف كثيراً عن تدريب قرد على عزف نوتات على البيانو. بل يمكنني الذهاب إلى هو أبعد، فأستعينُ بألفريدا يلينيك العظيمة في روايتها العظيمة عازفة البيانو، وأعتبرُ أن ما حدث مع «فولفي» بالمقاييس الحالية هو نوع من العنف ضد الأطفال، child abuse بالتعريف. هكذا بدأتُ أهدأ قليلاً، وأفكرُ بعقلانية مغرضة، موتسارت وُضِعَ في الظروف المناسبة لأن يعرف الموسيقى قبل أقرانه، ألا يشبه في ذلك الأطفالَ الذين أتموا حفظ القرآن في سنينهم الأولى؟ بالتأكيد يشبههم، الطموح العائلي نفسه تجاه الأطفال، تلقيمُ العبقرية بالملعقة. ذهب أبو فولفي بابنه إلى كل بلاط في قصر أو كنيسة ليُظهِرَ موهبة طفله للجميع، هو بالفعل قرد يعزف بعض النوتات.
لا تستقيم الموهبة دون سردية تدعم منطقها، هكذا تحول موتسارت إلى عبقري موسيقى، اسأل كل من يتكلم عن عبقريته (من غير أهل الاختصاص) سوف يحكون عن طفولته الباهرة، عن عزفه قبل الكلام، عن سيمفونيته الأولى في البواكير. وكما كانت بدايته ملحمية لامعة، كانت نهايته كذلك. كما بدأ مع الموسيقى لا بدَّ أن يختم بها أيضاً. تحكي الأسطورة أنه جاءه شخص مجهول الهوية متنكراً، اعتقدَ البعض أنه سالييري –لكن الحقيقة هو كونت نمساوي يدعى فرانز فازلج- عارضاً مبلغاً كبيراً من المال مقابل أن يؤلف له موسيقى القداس الجنائزى (ريكويم) Requiem، وقد وافق موتسارت وبدأ بالتأليف. توفي قبل أن يكملها وأكملها أحد تلاميذه. اكتلمت كل عناصر الأسطورة لتتنفس السردية إلى جانب أعماله.
بيتهوفن، أيضاً اكتملت عبقريته بفقدانه السمع، حكاية تخلق سردية موهبته، موسيقار يفقد السمع، وهل يوجد ما هو أكثر جاذبية من أسطورة كهذه؟ منجزه الموسيقي العملاق والفارق لم يكن كافياً وحده، كانت سيرته الشخصية عاملاً أهم في وصول صيته للجميع. ألا يحب الجميع الحكايات؟
ابحث عن كل «موهوب» وكل «عبقري» في التراث الإنساني، سوف تجد سرديةً –صَدَقَت أو لم تصدق- تمشي مع اسمه وأعماله: رامبو، الطفل الذي كتب الشعر، وقال كل شيء قبل أن يتم العشرين، لوتريامون، قال هلاوسه وصداعه وملله من العالم قبل الخامسة والعشرين في أناشيد ملدورور. طرفة بن العبد زاحمَ أهل المعلقات في إجادتهم وهو في العشرين من عمره –وقيل أصغر-. ديستويفكي، كان يملي رواياته إملاءً على كاتبته التي صارت زوجته. كافكا، ترك كل شيء كَتَبَهُ للحرق، لكن ماكس برود خالف وصيته ونشرها. فان جوخ عانى من نوبات جنون جعلته يقطع أذنه ذات مرة. بيسوا، كان يختبئ وراء شخصيات خَلَقَها، ألفريدو كاييرو وريكاردو ريس وكامبوس، وكلهم هو. كيرت كوبين لمع كشهاب، ثم مات بين نمائم تتأرجح بين انتحاره وموته على يد زوجته كورتني لوف. سيّد درويش منح مئات الألحان في أقل من سبع سنين، ومات مسموماً على يد السلطة. لا بدَّ من حكايةٍ ما تعطي لأعمالهم قيمةً مضافة، من هنا تنشأ العبقرية، وهكذا تُلقى عليهم الموهبة.
أضف إلى كل ما سبق أن «فتنة الموت المبكر» تعطي الموهبة ألقاً أكبر، طرفة وكوبين والشابّي، وأسطورة (27 عاماً) حول مغني الروك (أسطورة الروك الشهيرة التي ضمّت أساطير ماتوا في السابعة والعشرين من العمر، أشهرهم جيمي هندريكس، وكيرت كوبين، وإيمي واينهاوس وجيم موريسون)، ورامبو بالتأكيد. كل هؤلاء ماتوا في عمر صغير، لتكتمل الملحمة.
*****
علينا جميعاً أن نكره موتسارت، أن نكره ما يمثّله في وعينا الإنساني الباحث عن تجليات جديدة للميتافيزيقا، إحالة كل عمل فني جميل إلى خوارق ومفاهيم غير واضحة المعالم. لماذا على الفنان أن يكون عبقرياً أصلاً؟ لماذا يجب أن يكون موهوباً؟ ثم ما هي الموهبة غير عدة عوامل اجتماعية وظرفية تجعله قادراً على «التعبير» متخففاً من المعايير.
خلَصتُ إلى نتيجةٍ أرضتني تماماً في مسألة موتسارت وأقرانه، أن كل الفنانين الذين اعتبرناهم عظماء، كانوا لاهين، غير جادين، يعزفون ويؤلفون ويكتبون ويرسمون «بجدية طفل يلهو» كما يقول بورخيس. لا باستخفاف، لكن بخفة. إدراك القواعد بغرض التخلص منها، لا حمولات معرفية تثقل الخيال، لا خوف من التعبير، وبالتأكيد لا «بوليتيكال كوريكتنس».
علينا أن نكره سيرة موتسارت، ونكره كل الموهوبين، لأننا نحن من جعلناهم أنبياءً. لكن علينا أيضاً أن نحسد خِفَّتَهم التي لا نصل إليها إلا بمشقة.