يخرج أنبوباً حديدياً نحيلاً من الدرج بجانبه، يوجهه نحو عينَيّ، ضوء أحمر خافت يلمع من طرفه، يضعه على يدي: «مجرد ضوء، لا تخافي». يدفع رأسي إلى الوراء قليلاً، يضع الأنبوب في أنفي، أشعر بدغدغة ما لبثت أن تحولت إلى ألم. أمسكُ بيده في محاوله لسحب الأنبوب الذي اقتحم حلقي، يطلب مني أن أهدأ، الطنين في أذني اليسرى يعلو أكثر فأكثر، يُخرج الأنبوب بخفة: «لا شيء».. مجدداً لا شيء، اللاشيء سببُ ضجري الشديد.

لقد بلغ الضجر عندي عامه الأول، ربما من المستحسن أن أتحدث عنه قبل التطرق إلى أي أمر آخر. ضجري هذا لا يشبه ذلك المتعارف عليه، (عكس المتعة)، بل في فحواه يحمل بعضاً من المتعة، تلك التي تتماشى مع حسّ الغياب عن الواقع، الشرود، النسيان. هو الحاضن لكل تداعيات انهيار دفاعاتي النفسية، آخرها الطنين، غيابُ الصمت.

الساعة الثالثة صباحاً، الطنين يطرق رأسي، ينخره حتى خارت قوى جفني الأيسر من الألم، مضى على هذه الضوضاء المتواصلة قرابة الشهر. ترجلتُ عن سريري، توجهتُ إلى غرفة الجلوس، أدرتُ الراديو الألماني، استلقيتُ على الكنبة، أخذت الأصوات تعلو بشكل موازٍ لطنيني، لا أحد يسمعه سواي، لا مكان للنوم الليلة أيضاً، ضجري من الليل يزداد حدة، أتمتم: «لا علاج له، لا مصدر له، هذا كلام فارغ، ما قاله الطبيب…».

لقد ولد ضجري بعد فترة من انتقالي إلى برلين، كان ثمرة طبيعية لممارسة يومية مع الواقع المحمّل بالصدمات، التغييرات والتداعيات خلال السنوات الأخيرة، أستطيع القول إن ولادته كانت عسيرة بعض الشيء، كسرَ بوجوده سياق الأفكار في رأسي وتسلسلها، يلحظها على الفور ويستبعدها، ما أحال نومي إلى أرق، وأحلامي إلى فوضى عارمة، يبدو أن علاقتي مع الواقع لم تنتهِ كلياً.

مرحلة الحمل

في الأيام الأولى أصبتُ بالغثيان، الإقياء كان مليئاً بالعجز، لكني ما لبثت أن تعودت عليه فوراً بسبب تكرار حدوثه، لكنني بدأت أستشعر ضعفاً ما، حاولت حصره آنذاك في حدود حياتي العادية، التحليلات العادية المرتبطة بالسبب والأثر.

في الأشهر التالية، تعرضت لتقلبات مزاجية، أعتقد أن سببها هو الهرمونات، لم يمر جسدي بخبرة مماثلة من قبل، على الرغم من معرفتي بأن أمراً كهذا ليس بالغريب، لكن حضوره الفعلي في حياتي أظهره بحيوية كبيرة.

وكأي شخص «حامل» ربما، قررت أن أتجاهل حملي هذا، عملت جاهدةً على تطوير حياتي المهنية والشخصية، دون أي مراعاة لجنيني «الضَجَر» وجسدي الحاضن له، إلى أن تحرك في بطني للمرة الأولى. حركته الحاضرة، ألقت الضوء على الأفكار القابعة في الظلمة، لكني تجاهلتها أيضاً، لا يمكنني أن أخمن من الظهور الأول للشيء أي أثر سيتحصل عنه، لذلك واظبتُ على ممارسة علاقتي مع الواقع.

سلوك ممارستي معه كان مليئاً بالعواطف البشرية، من منافسة، مشاكسة، تعاطف، حب، كره، لعب، فضول، الميل إلى الوحدة، إلى الحالة الاجتماعية، الألم والملل. إنها الحرب، فلا وجود للسعادة في حياة إنسان بعد أن أيقن أن الحرب لا يمكن استئصالها لأنها نتيجة الغريزة. ما أوصلني/أوصلنا إلى الجنون، مرحلةُ ما قبل ولادة الضجر.

ولادة الضجر

أرسلَ لي أحد محرري مجلة أميركية إيميلاً طلب مني فيه أن أكتب نصاً عن «دمشق»، لقد قمتُ بأسر ذاكرتي عنها منذ زمن، متجاهلة وجودها في حياتي، نصوصي، وحتى أحلامي، لا أدري لما ظننت أن الوقت قد حان لاستدعائها.
الساعة الثانية ظهراً، جلست على مكتبي، قلبت على جهازي صوراً قديمة كنت قد التقطتها هناك، أي في دمشق. بعد ساعة وخمس وعشرون دقيقة تحديداً شرعتُ بالكتابة، وعند السطر الرابع قام شيءٌ ما بركل قلبي بقوة، أحسست أنه خرج من مكانه، (لا، ليس تعبيراً درامياً مجازياً أبداً)، مددت يدَيَّ نحو لوحة الكتابة، وإذا بهما ترجفان، خرجتا عن السيطرة، الكلمات أمامي غرقت في غباش غريب، شعرت بالرعب، ركلَ شيءٌ ما قلبي مجدداً، قفزت من مكاني، جسدي خرج هو أيضاً عن السيطرة، دقات قلبي تزداد سرعة، لم أعد قادرة على التنفس، كدت أن أفقد الوعي، حملت هاتفي بصعوبة، اتصلت بسيارة الإسعاف. في المشفى بعد أربع ساعات جاء الطبيب، أجرى كل الفحوصات اللازمة، دقات قلبي عادت إلى طبيعتها، سألته عن سبب ما حدث، أجابني: «لا شيء، عودي إلى منزلك، وحاولي أن تسترخي قليلاً، كل شيء سيكون على ما يرام»، لكن كل شيء لم يعد على ما يرام بعد ذلك، لقد هجرتني الكتابة كلياً. إنها لحظة الإنجاب، ولادة الضجر.

بعد ولادة ضجري، علقت أناي المغلقة داخل نفسها، وتغلبت اللاجدوى على هشاشة اليقين بعكسها، وعلى هذا تدهورت علاقتي مع والد ابني الضَجَر، «الواقع».

ما قبل الطنين

كنتُ قد كتبتُ قبل عام نصاً بعنوان «الارتطام بالمنفى»، قمتُ فيه بملاحقة التطورات الناتجة عن انتقالي القسري الثاني خلال الأشهر السبعة الأولى، ليس فقط على حالتي النفسية بل على جسدي أيضاً، حينها أسميته المنفى لجدة وجودي فيه على ما أظن، الكتابة كانت بالنسبة لي الوسيلة المحببة للإقياء، كنت أرى فيها أداتي التي أتقنها، حقيقتي ومعنى وجودي الوحيد، الكتابة التي سلبها مني الضجر.

أرسلت لي صديقة، كانت قد ترجمت المقال إلى اللغة الفرنسية، تُذكرني به، مرفقة إياه بسؤال: «هل كنت ستكتبين اليوم ما كتبته في نصك هذا؟».

لا أظن ذلك، كنت في أقصى حالات الجنون آنذاك، حيث أُدخلنا خلال السنوات الأخيرة إلى مصح الواقع الرحب الذي ما لبث أن امتد إلى معظم مدن العالم، قامت بعضها باحتضاننا، وصرفت علينا من ميزانيتها الخاصة، لكن من دون تعريضنا للعلاج، فما كان علينا سوى التحرك نحو الاندماج نحن حاملو الجنون المرتبط بكل التجارب الكبرى التي خضناها في أزمنة المطاردة والحرب واللجوء الطاحنة.

المجنون المحتجز داخل المصح يعلم تماماً أن لا مجال لفكاكه عنه، لا حقيقة له، لا وطن له إلا في هذا الامتداد الخصب الجديد، لهذا سلموا أنفسهم.

اندمجَ في المصح الكبير الرحب المرضى مع غير المرضى، لقد أصبح عددنا كبيراً، كبيراً جداً، تحولنا إلى ظاهرة شديدة التعقيد، لم يستطع الطب اكتشافها، لهذا أصبح الحد منا هو الحل الأكثر مثالية، آخره كان إغلاق الحدود في وجه المجانين الجدد.

لا أحد مسؤول عن سلوك المجانين، ولكن الكل مرتبط به، هناك تواطئ عالمي ضمني، «إذا كان الجنون يأخذ بصاحبه في دوامة حيث يفقد السيطرة على نفسه، فإن المجنون على العكس من ذلك، يذكر الجميع بحقيقتهم»، ميشيل فوكو.

تعرضنا نحن المجانين إلى أحداث آنيّة بشكل كثيف، قاسية وصادمة، آنيّةُ الأحداث آنيّةٌ كما ردود الفعل والعجز تجاهها، الحدث الآنيُّ المتلاشي ما بعد حدوثه، كشف عن لا جدوى العالم وتفاهة الحياة اليومية، الآنيّة تلقي بنفسها في الموت فور حدوثها.

انتقلتُ بعدها إلى مرحلة الهذيان، كنت حينها أهذي مثل الرضيع، لا أميز أناي من عالمي الخارجي، أعتبره مصدر مشاعري المتدفقة منه إلي، فكتبتُ ما كتبت.
برلين، مكان جميل، معقد وهائل، مليء بالاحتمالات والخيارات، أدركُ ذلك تماماً، لكن ما يزعجني حقاً، أنه عليَّ أن أزعم بأنني في وضع ممتاز، ما يدخلني في حالة سبات وبلادة مستمرة، تظهر عوارضها في عدم الرغبة والامتناع عن فعل اليومي الشخصي الذي يبعث على البهجة، عدم الرغبة بالأكل والشرب، بالقراءة، الكتابة ورؤية الأصدقاء، كما لو أن المكان ضيق، محدود ومستهلك إلى حد الإصابة بالإقياء أحياناً. لا رغبة لدي في أن أكون هنا، في أن أكون هناك، ومع هذا، لا بد أن أرسي دعائم الاستقرار، لا بد أن أهدأ وأقترب رويداً من الواقع بكل تفاصيله.

بعد ذلك، تطور هذياني إلى تبدّل شديد وسريع في المزاج، حالة من التناقض الوجداني الحادة، ما دفعني لأكتب التالي فور كتابتي لما سبق:

برلين، مكان جميل، معقد وهائل، مليء بالاحتمالات والخيارات، أدركُ ذلك تماماً. في تكراري لهذه الجملة التي أوردتها سابقاً في النص، إصرارٌ على الاعتراف بإمكانية أن يحمل المنفى رغم بيروقراطيته الجافة، جوانب لم أكن سأحصل عليها في «بلادي» التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، تعقيدات اجتماعية ودينية، من ضمانات صحية، اجتماعية وقانونية، حقوقي الفردية، حريتي الشخصية، حاضر قائم على أساس الفعل وليس رد الفعل، مشروع مستقبلي لا يرتكز المضي نحوه على أساس الضرورة والحتمية العامة.

متعة الضجر

تدور معظم أحداث حياتي في منزلي أو حوله، لهذا أنطلقُ منه في المشاهد التي أكتبها في أغلب الأحيان، ولأني أخشى فقدانه (كما حدث معي مراراً)، ألتصقُ به التصاقاً حميماً، مزعجاً لبعض الأصدقاء، مقلقاً لبعضهم الآخر، لكن علاقتي به واضحة، بسيطة ومضجرة على الأقل بالنسبة لي.

ألقي باليانسون في كأس ماء ساخن، يقولون إن اليانسون يساعد على النوم. أقفُ بجانب الطاولة، أحدق في الكأس مطولاً، يحتاج إلى القليل من الوقت حتى يمتصه الماء جيداً، أحمله، وبخطوات خفيفة أتجه نحو غرفة الجلوس، أضعه على الطاولة الخشبية، صحن السجائر، وعدة التدخين (التبغ – الفلاتر – ورق اللف)، كل شيء في مكانه. أدرتُ التلفاز، التلفاز جزء أساسي من روتيني اليومي، اخترتُ فيلماً سخيفاً، الأفلام السخيفة قبل النوم تعطل دماغي، تضعف محركه الصغير، صغير لأن حجم رأسي صغير نسبياً، أضع أصبعي في أذني اليسرى الطنين ما زال يتدحرج فيه، لكني لم أعد أكترث له.

الضجرُ أحاله إلى صوت اعتيادي، وأحالني إلى مشاهد لنفسي، وهنا تكمن متعة الضجر، حيث أصبحتُ أنا المشاهد لحياتي الخاصة من المسافة نفسها التي أشاهد فيها الفيلم السخيف على الشاشة، وما أشعرُ به تجاهه هو فقط من وجهة نظر المشاهد.