في الطابق الثاني داخل أحد المقاهي في بيروت، جلستُ على الأرض بجانب أشخاصٍ كُثُرٍ قَدِموا لمشاهدة فيلم عَرَضَته مؤسسة «بدايات للفنون السمعية والبصرية»، ضمن إحدى نشاطاتها (نادي السينما)، اسم الفيلم «وطن… العراق سنة صفر» للمخرج العراقي عباس فاضل.

يوثّق الفيلم المكون من جزئين الحياة اليومية لعائلة عراقية قبل وبعد الاحتلال الأمريكي سنة 2003م، عارضاً الفرق الحاصل في المجتمع العراقي من جميع النواحي، لينتهي نهاية تراجيدية تصيب العائلة العراقية التي يتبعها. عُرِضَ الفيلم في أكثر من 40 بلداً حول العالم، وحاز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان «رؤى واقعية» في سويسرا، كما عُرِضَ في مهرجان غوتنبرغ السينمائي في السويد.

المعلومات أعلاه عن الفيلم قمتُ بنسخها ولصقها تماماً كما وجدتُها في موقع إلكتروني ما، ومن الممكن أن يشعر القارئ عند قراءة هذه المعلومات الجافة بالملل مثلي، أو أن يتأفّفَ من موضوع الفيلم ذاته. العراق قبل السقوط وما بعد السقوط، ليس موضوعاً جديداً، بل تم التطرق إليه مراراً وتكراراً خلال 14 عاماً الماضية، عبر وسائل الإعلام، التواصل الاجتماعي، الندوات والأفلام… إلخ.

في الواقع لم يتغير إحساسي في الساعة الأولى أثناء مشاهدتي للفيلم، بل ذهب الأمر عندي إلى أكثر من ذلك، فعندما نظرت إلى وجوه المشاهدين الأجانب الموجودين في الصالة والتي ظهرَ عليها الاستغراب والاهتمام، شعرتُ أن الفيلم لم يصنع لنا، بل لأشخاص يجدون في الشرق الأوسط مكاناً مثيراً للدهشة و«إيكزوتيك».

كل هذا لم يمنعني من متابعة الجزء الأول من الفيلم، والسبب فقط أنني كنت قد قررتُ سابقاً أن لا أترك صالة عرض قبل أن ينتهي الفيلم مهما كان مثيراً للضجر، من الممكن أن يكون هذا عقاباً أفرضه على دماغي.

أحداثُ الفيلم بطيئة للغاية، نظرتُ إلى حقيبتي بتردد، حملتها، أخرجتُ منها «عدة» التدخين، لففتُ سيجارة، وبقفزة سريعة أحبطتُ فيها حالة التردد بقوة، خرجتُ إلى الرصيف المقابل للمكان، وضعتُ السيجارة في فمي، أشعلتُها، وأخذتُ أنفثُ الدخان بسرعة ملفوحة بالذنب، ورغبة لا أدري سببها تدفعني للعودة فوراً لمتابعة ما يجري على الشاشة.

من الممكن أن لا يجد القارئ حتى الآن أي سببٍ أو جدوى لقراءة هذا النص، تماماً كما شعرتُ في الساعة الأولى أثناء مشاهدتي للفيلم، لكن من المحتمل أن يكون هناك قارئٌ قد أخذ قراراً بقراءة النصوص حتى الكلمة الأخيرة مهما كانت مضجرة، مثل قراري حول مشاهدة الأفلام.

في 1 كانون الأول 2016، اقتحمت قوات النظام السوري، حزب الله وإيران وروسيا، الأحياء الشرقية في مدينة حلب، ما أسفر عن مقتل قرابة 300 مدنيٍ حسب مصادر عدة. بعد أيام قليلة سقطت تلك الأحياء، ولم يكتفِ النظام السوري وحلفاؤه بذلك، بل استهدفوا النازحين منها جواً وأرضاً، وقتلوا كثيرين منهم.

تاريخ ذاك الحدث ليس بعيداً عن حاضرنا بل ملتصقٌ به، حاضرنا نحن المشاهدون للموت. أذكر ليلة اجتياح الأحياء المحاصرة، كما يذكرها العالم أجمع، شاهدنا الحدث بصرياً وسمعياً، كما تابعنا تداعياته بشكل حيٍّ ومباشر لحظة بلحظة. خرجت مظاهرات كثيرة في مدن كوكب الأرض، نددت وطالبت بوقف الإجرام والقتل بحق المدنيين في حلب، وتلاحقت صورٌ ومقاطع فيديو لا منتهية آنذاك في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، مقالات، نصوص، آراء، تعليقات كما البركان، وفجأة في اليوم التالي، تحول الحدث إلى ماضٍ بعيد، وتوقف كل شيء.

في وقت سابق، كتبتُ عن صورة تصدرت قبل قرابة الشهرين كل الوسائل البصرية: «في مكانٍ ما، جثثٌ مبعثرةٌ في طريق يبدو أنه مدمر كلياً، الدماء تحيط بأكياس برتقالية تحضن أجساداً ساكنة، ترى الأبنية المحطمة وقد ألقت بأجزاء منها بشكل فوضوي مبعثر، بينما أبقت على سكانها تماماً تحت أنقاضها الصامتة. لكن في هذه الصورة، وفي منتصف الكادر، جسد امرأة، لا نرى منها سوى السواد. إحدى قدميها مرفوعة، هل تمشي نحونا مباشرةً أم أنها تسير إلى الأمام بعيداً عنا؟ قريباً سوف تخرج هي من الكادر، وسوف نختفي نحن تماماً».

وهذا ما حدث إلى حدٍّ ما، لقد اختفت تلك المرأة من الكادر، ومع خروجها عن مرأى المُشاهِد، أي نحن، تلاشت كلياً، كما لو أن الحدث توقف عن الحدوث مع اختفائها. لكن الواقع أنها أكملت سيرها، نازحةً إلى مدينة أخرى، أو ربما قُتِلَت أثناء ذلك.

لم نعد نتابع ما جرى، المشاهد خلف شاشة العرض لم يعد يستقبل أي أخبار عن تداعيات سقوط حلب، أي أنه كفَّ عن عملية المشاهدة، مشاهدة ما بعد الحدث، وعلى هذا غَرِقنا في سكون مفرط تجاه جريمة أخرى.

يبدو أن حِسَّنَا المشترك فطريٌ وآني، نلجأ إليه لمواجهة الحياة اليومية، ينتفضُ انتفاضةً واحدةً وينطفئ انطفاءةً واحدة. في الانتفاضة على اجتياح حلب كان حقيقياً واقعياً، وليس مجرد تظاهر، وكذلك كان في سكونه. لقد أصبحنا ملتصقين التصاقاً كلياً باللحظة الصادمة المباشرة فقط، إنه حسّنا المشترك المنهك من كثرة الاستهلاك، من كثرة العجز والتكرار، تكرار الهزيمة واللاجدوى.

بالعودة إلى صالة العرض، المشاهدون في المكان هم بعضٌ ممن شَهِدوا سقوط حلب الشرقية الشهر الماضي، يتابعون بصمتٍ صراع الحياة اليومية لعائلةٍ في العراق ما قبل 2003 وهي تترقب اجتياحاً أمريكياً قادماً، ويلاحقون استعدادات أفرادها لمواجهته بصمت مفرط. وعلى الشاشة أمامنا، وداخل غرفة الجلوس في منزل المخرج العراقي، يجلس أفراد عائلته أمام تلفاز صغير، يشاهدون مقاطع فيديو لصدام حسين، مع جيشه الخاص، ومع أمهات القتلى من أفراد الجيش. لقطةٌ قريبة لصدّام حسين يقف فيها بثباتٍ أمام جنوده، رافعاً يده اليمنى إلى الأعلى، يرافق ذلك أغنية وطنية، بعثية، تؤكد على الانتصار وتمجد التضحية فداءً للأب القائد. بعد لحظات وبشكل مفاجئ انقطعت الكهرباء في غرفة الجلوس، وحلّ الصمت.

بعد مضي ما يقارب ساعةً ونصف، انسحبَ بعض المشاهدين من المكان، تسلّلتُ إلى الخارج في محاولة لأجد جواباً توافقياً أشعر من خلاله بالرضا الداخلي تجاه رغبتي الضمنية في الانسحاب (الذي لم أقم بتنفيذه) من عملية المشاهدة. سمعتُ جملاً متطايرة منهم: «حسيت حالي عم نشوف سوريا بالتسعينات وقت النظام البعثي، صدام حسين، حافظ الأسد»، «الواحد ليه بدو يرجع يشوف شو صار بالعراق مرة تانية بـ 2016»، «تفاصيل كتير بتشبه يلي عشناه بالشام، ويلي عم يعيشوه الناس بالمناطق المحاصرة، شي عم نشوفو كل يوم!»، «سقوط بغداد صرلو مليون سنة، سقطت وخلصت…».

عدتُ أدراجي إلى الداخل، مع فهمٍ تقريبي لمشاعري المتقلبة تجاه ما قام عباس فاضل بتصويره، إذ كنتُ أقوم دون إدراك مني باسترجاع ذكريات ظننت أني نسيتها كلياً من طفولتي، مراهقتي وشبابي. أجريتُ من خلال تلك الصور عملية ذهنية قائمة على تأكيد تطابق تفاصيل حياة تلك العائلة في ظل نظام صدام حسين البعثي، مع حياتنا في ظل نظام حافظ الأسد البعثي، ولأني كنتُ أعاني في الفترة الأخيرة من فرطٍ حادٍ في المشاعر وفرطٍ حادٍ في السكون كذلك.

بسبب تكرار التطابق في الأحداث المفاجئة والأحداث الساكنة في الشخصي والعام الصادم، شعرتُ لأول مرة بما قد تثيره الصور المألوفة من ثقلٍ شديدٍ في نفسي. قطعني هذا الثقل الشديد إلى ثلاثة أشخاص في الوقت نفسه، ثلاثة أشخاص مع مشاعر مختلفة ومتضاربة، كلٌ منها مستقلٌ ومرتبطٌ مع الآخر. في تطابق الحياة اليومية للعائلة العراقية مع الحياة العائلية الشخصية تحت حكم النظام البعثي في سوريا، كنتُ أنا حتى بلوغي الثامنة عشرة من العمر. وفي مشاهد التحضير للحصار، كنتُ أنا اليوم في الحادية والثلاثين من عمري، المُشاهِدَ المُستحضِرَ لصور الأحياء المحاصرة في سوريا. أما الشخصية الثالثة، فقد كانت أنا في الستين من عمري، أو لعلّها الخوف مما أخشى أن أصبح عليه في مستقبلٍ مُطابقٍ لحياة من يكبروننا سناً، أناسٌ ناضلوا سابقاً ضد النظام السوري، منهم من بقي حيث كنّا، ومنهم من نُفي إلى الخارج، ومنهم من كان معتقلاً قبلنا، هؤلاء الذين عايشنا ذكرياتهم ونكساتهم في شبابنا.

أطبقَ «ثلاثتي» المكانَ على صدري.

المشهد: في غرفة جلوسٍ داخل منزل أحد شخصيات الفيلم، تسمع بوضوح صوت أم كلثوم تغني «دارت الأيام»، أربع رجال في الستينات من العمر في المكان. الرجل الثاني على اليسار، مغمض العينين، يلقي بيديه على معدته الكبيرة، ثابتٌ لا يتحرك. الرجل على يمينه نحيلٌ، يتمايل بهدوء على الأغنية، يلتفتُ إلى الرجل بجانبه، يمد يده نحوه، يوقظه، ويغني بصوت عالٍ مع أم كلثوم. الرجلُ على يمين الرجل النحيل، يبدي إعجابه بصوت صديقه. جميعهم يشربون، تبدو عليهم علامات الثمالة الخفيفة. الرجل الأول، يبدو أنه ممثل مسرحي سابق، تجد صوره متناثرة على الطاولة ومعلقة على الحائط، صور له أثناء تأديته لأدوار مسرحية أو سينمائية ربما أثناء شبابه، الكاميرا ثابتة عليه، يغني مع الأصدقاء، يرتشف من كأسه، ويبكي…