قد لا يختلفُ ثلاثةٌ وألف، على أن الثورة السورية كُتِبَ لها على أعتاب الذكرى الخامسة لانطلاقتها فصلٌ «تحطيميٌّ» مثير، لا نعرفُ إن كان قد بلغَ مداه الأعلى، أمّ أنّ هناك طبقاتٍ أخرى، أكثر إيلاماً وتحطيماً في الانتظار. بعد الحرب الشديدة التي أتت على منابع الثورة الاجتماعية والمناطقية، هناك أماراتٌ على سياسة تطهيرٍ طائفي وتهجير جمعي للسّكان في نطاقٍ يتوسّع، مُحدثاً تغييراً عميقاً على الأرض، بحيث يكون له تكلفةٌ سياسيةٌ باهظة لاحقة. فيما تبدو الأمور، في لحظتها الراهنة على الأقل، آخذةً باتجاه «بقاء» نظام الأسد و«تمدده» عسكرياً بالمليشيات «الوطنية» وغيرها، المُستجلَبَة تحت غطاءٍ جوّيٍ روسّي، وآخر دولي بات له أولويات مقلقة تتعكّز على بعيرين: «قضية اللاجئين» و«الإرهاب» وقد وَطِئا أراضي أوروبا القلقة اجتماعياً واقتصادياً.
في هكذا أجواء من الواقعية المتشائمة، يبرز سؤال الفاعل السياسي الذي جاء في ورقة الجمهورية، وطنياً وثورياً، بشكلٍ لم يكن على هذه الدرجة من «الأزماتية» التي هو عليها الآن.
بصفتي أنحدرُ بأصولي «الوصفية» على الأقل من اللاجئين الفلسطينيين، أحد مكوّنات اللّوحة السورية الوطنية الجامعة بعد الاستقلال، يلفحني هذا التساؤل من جهاتٍ ثلاث تحمل رياحاً متعدّدة المضارب: منها السوري الصافي المرتبط بالثورة ومآلاتها حصراً، ومنها ذلك الفلسطيني الملحاح النابع من قضيةٍ وطنيةٍ خاصّة بفلسطين التاريخية واحتلالها، وقد أصبحَ لها عناوين كثيرة، وآخر يذهب صوب التخصيص الفلسطيني-السوري بوضعه الراهن المخلوق أو المُتخلِّق بُعيد الثورة السورية. بكلماتٍ أخرى لا أستطيع التفكير في سؤال «الفاعلٍ سياسيٍ» بتلك الجدّة المطروحة في الورقة، دون الالتفات إلى الفواعل السياسية التي وسمت الفلسطينيين في تاريخهم الحديث، والسوريين في تاريخهم الثوري القصير الحاد.
لا تصحُّ المقارنة، وقد لا تجوز، بين الوضعين الفلسطيني والسوري، إلا فيما قامَ النظام الأسدي بإنزاله من ضروب العنف التي ترتقي بدرجاتها إلى المستوى الذي لا تقوم به إلا قوىً «كولونيالية»، تستهدف في تعاملها مع السكّان المحليين فعل «الإبادة» (genocide) والإخضاع لا شيء غير ذلك، ومآلات سياسية باتت تتشابه بشيء أو بآخر.
يحضرني في هذا السياق، وضع «منظمة التحرير الفلسطينية» مقابل «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» رغم ما في ذلك من جفاءٍ وقسوة. فالفاعل السياسي الأكثر حضوراً وتمثيلاً للثورة وأهدافها (بكثيرٍ من المجازفة) هو الائتلاف، الذي جاء أو تمخّض عن أو أعيد إنتاجه بعيد أن باتَ ما يعرف بـ«المجلس الوطني» ميتاً في ظروفٍ معروفةٍ للسوريين قبل غيرهم.
أتت النكبة وإعلان دولة إسرائيل على المجتمع الفلسطيني برمّته، وطردته من الأرض والسياسة معاً. دخل الفلسطينيون في الداخل والشتات مرحلة «تثبيت/غيبوبة» استمرّت سنوات طويلة، حتى حدثت «حرب الستة أيام» حيث الفضيحة المدوّية واستكمال احتلال الدولة العبرية على كامل أرض فلسطين التاريخية. عرف الفلسطينيون والعرب بأنها، إسرائيل، «باقية وتتمدّد»، وكان من سخرية الأقدار أن همّ الإجماع العربي مأخوذاً بالنّاصرية المتورّمة قبل سنوات قليلة بدعم إنشاء كيان ما بات يعرف بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، لكنّ الانقلاب الذي حصل داخل المنظّمة نفسها، وصعود القوى ثورية الروح والسلاح، دفع الأمور إلى الخروج من «الخطاب العربي»، إلى خطاب أكثر «وطنية»، أعادَ القضية بشيء من الخفة الممزوجة بالاندفاع والمجازفة إلى «أهل الدّار». كانت سنة 1968 هي السنة الحاسمة في (إعادة) ميلاد منظمة التحرير التي تحمل روح «المقاومة المسلّحة» واستعادة «الصوت الفلسطيني» الوطني بعد الانفكاك اللازم عن أدوار الضحية التي لا حول لها ولا قوّة، وقد ساهم فلسطينيون وغيرهم من العرب في بلورتها بشكل فاقع. وهكذا أعادت منظّمة التحرير بوجهها «الثوري» الفلسطينيين إلى السياسة بعد أن ظنّ كُثُر، إسرائيليون وغيرهم، بأنهم تلقّوا طردةً أبدية لا تُبقي ولا تذر، ليس من السياسة وحسب، بل من التاريخ أيضاً. كان لتبديل «الميثاق القومي» إلى «الميثاق الوطني» أكثر من دلالة، سواءً على الصعيد السياسي أم الاجتماعي والهوياتي في الإجماع الوطني الفلسطيني.
ارتبطَ اسمُ المنظّمة الثورية الصّاعدة بقوة بشعار «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، وكان فيها شيءٌ من ذلك طبقياً وشعبياً، مع طغيان ألوان الشتات على الهياكل والمداميك الأساسية المشكّلة لها ولذلك الزّمن آنذاك، وتوّج هذا الصعود والتطلّع التمثيلي دولياً سنة 1974، وباتت نطاقات التضامن والدعم الدوليين تتوسّع في تسارعٍ واضح (ألقى الزعيم الفلسطيني الراحل خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتّحدة/ مؤتمر الرباط). لكن التورّط في حرب لبنان وطرد المنظمة من هناك بعد احتلال بيروت صيف 1982 عبّد الطريق أمام تغيّرات عميقة في التطلّعات السياسية، سواء من جهة إعلان الدولة في المنفى/الجزائر 1988، وصولاً إلى اتفاقات أوسلو التي افتتحت فصلاً جديداً من تلك «السياسة» التي تُفقِدُ السياسة عينها معانيها وأدواتها.
منذ ذلك التاريخ سوف نشهد تدهوراً شاملاً في معاني منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، وفي أدوارها والأهداف التي قامت من أجلها (قيادة الشعب الفلسطيني نحو تحرير الأرض وحق تقرير المصير). أدى إنشاء «السلطة الفلسطينية» المنبثقة عن اتفاقات أوسلو إلى أفول «منظمة التحرير» بشكلٍ يكاد يكون كليّاً، فيما تكفّلت قيادات السلطة بوجود ياسر عرفات (وبغيابه أيضاً)، بجعلها شبيهةً بالنُظُمِ العربية في كثيرٍ من نواحي عملها، والأخطر من ذلك في جعلها تبدو كـ«سلطة بديلة» للاحتلال من دون تقدمٍ سياسيٍ ملفت، ذا قيمة وكرامة وطنية على الأرض
لكننا لمّا ننتهي من منظمة التحرير بعد.
رغم التقدم والإيجابيات العديدة التي أتت بها منظمة التحرير (استقلال القرار الوطني نسبياً، الخطاب العلماني العام، الاهتمام بالنتاجات الثقافية)، بيد أنّها ومنذ الانقلاب الداخلي سنة 1968، باتت أسيرةً لمشاكل جمّة سواء من حيث طريقة الإدارة أو من حيث الهياكل والمؤسسات المنبثقة عنها. ارتبطت إدارة المنظمة بسيطرة «حركة فتح» التي هيمنت عليها بحيث لم يعد هناك من هوامش للتفريق بين المنظّمة والحركة، فيما كانت بقية الفصائل والحركات الدّاخلة فيها «كومبارس» متواضعاً يُكمل لوحةً عامّة.
كأي حاكمٍ عربي، أدار ياسر عرفات منظمةَ التحرير بالكفاءة إيّاها، كانت مرتعاً لنزواته وانفعالاته وأخطائه السياسية القاتلة، فيما تكفّلت بطريركية شديدة المركزية مسألة صنع القرار الإداري والسياسي. في الوقت التي ازدادت فيها عسكرة المنظّمة (1974 حتى 1982) كان هناك منحىً منحدرٌ لتراجع الرؤية الديمقراطية والممارسة التعددية والشعبية. يكفي النظرُ بما حل بأهم مؤسستين في المنظمة، «المجلس الوطني الفلسطيني» كهيئةٍ «تشريعية» مسؤولة نظرياً عن صياغة سياسات المنظمة وخططها كما يليق بأي برلمانٍ «منتخب»، و«اللجنة المركزية» التي وجدت كي تكون هيئةً «تنفيذية» للمنظمة بالإضافة إلى عنايتها بالتمثيل الدولي للفلسطينيين، حتى نتبين حجم البيروقراطية والانفلات، فضلاً عن المحسوبيات الشخصية والمناطقية التي تبتعد بدرجات واضحة عن أي تمثيل أو شغل وطني. مع مرور الوقت والسنوات أصبح المجلس الوطني/مجلس شعب الفلسطينيين تابعاً للهيئة، وليس مشرفاً على أعمالها، والإثنان تابعان لقرارات الرئيس عرفات وطريقة إدارته وأسلوب تعيين أعضائهما «العشائري» في الحكم
لكنّ «أوسلو» و«السلطة الوطنية» و«الهوس الإستراتيجي» بالمفاوضات، وصعود القوى الإسلامية الجهادية المحاربة على أرض فلسطين التاريخية هذه المرة (الداخل ممثلاً بحركتي حماس والجهاد الإسلامي)، فتح ملفّاً آخر ورمى سؤال «التمثيل» السياسي و«الشرعية» في القرار الوطني في وجوه الجميع. وهنا برز نقاشٌ حادٌ حول «تمثيل الفلسطينيين»، أعيد إنتاجه بقوّة مع أوسلو التسعينيات، ولم يكن ميدانه الكلام والاجتماعات وأردهة السياسة والمجتمع فقط، بل أرض المساحات الضيقة التي تكرّمت بها سلطات الاحتلال، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزّة حصراً، حيث باتت المواجهة الفلسطينية-الفلسطينية مسلّحةً هذه المرة، يؤخذ فيها كل شيء بالقوّة والعنف، من دون أية روادع وطنية أو حتى سياسية صرفة (مثلاً الانقلاب السياسي/العسكري للسّلطة على الانتخابات التشريعية بعد فوز حماس 2006، والانقلاب التّالي المسلح لحماس في غزّة 2007). هنا برزت مفارقة جليّة، فالأطراف الفلسطينية إسلامية الهوى (حماس والجهاد) التي بنت أغلب سياساتها وخطابها الشعبي على التشكيك في نزاهة المنظمة، قبلاً، وجدوى بقائها خاصةً في ظل استحقاقات السلطة الوطنية في رام الله لاحقاً، باتت صاحبة الفرادة ومتقدمة الصفوف في الدفاع عن وجود المنظمة، مع السّعي لإصلاحها وانتزاعها من سطوتي فتح والسلطة، متماشية مع خطاب «دعوي» واضح حول إلى إعادتها إلى رشدها «المقاوماتي-المسلّح»، في أجواء تتخطّى هي الأخرى الأبعاد الوطنية، الفلسطينية البحتة منتقلةً إلى سياقٍ «إقليمي» باتت تتحكّم فيه رداءةٌ سياسية من نوعٍ آخر، جاء بها ما بات يعرف بـ«محور المقاومة/الممانعة» برعاية النظامين الإيراني والسوري الأسدي. مع الوقت واشتداد الانقسام الحاد، أصبح لدينا في الوعي الفلسطيني، الافتراضي والعياني، فعلياً سلطتان، ونهجان وسياستان وحزبان، وجمهوران من الشبيحة والبلطجية أيضاً. أضحى كل شيء يدخل منطق الثنائيات النافرة المتنافرة عدا شيء واحد: الاحتلال المطبق على الجميع. في لوحة كهذه يمكن القول بأن طرفي «النقيض» الفلسطينيين (السلطة وحماس)، باتا يتباريان في ممارستهما لتلك «السّياسة من فوق» (كما جاء في تعبير ورقة الجمهورية الموفّق جداً)، حيث السّلطة، ذلك الكيان الذي أضحى بلا جمهور، أو تلك «الإقطاعية الدينية المسلّحة» التي لا تعبأ بتعريض جمهورها وغيره من المجتمع الأهلي تحت سيطرتها إلى جحيم الحروب الإسرائيلية، الخالية من أي مآلات سياسية ذات أبعاد وطنية (سوى تثبيت سلطات الأمر الواقع الحمساوي/غزّة).
السؤال الذي يلف ويدور في ذهني هنا: هل نحن أمام مسخرة (أو مأساة لا فرق) بعنوان «سوري» هذه المرّة، أراد التاريخ أن يداعبنا بها بقسوة؟ وهل التاريخ فاعلُ حقٍ يتجاوز صانعيه من البشر بهذه الدرجة من التنظير المتعالي؟ هل يمثّل «الائتلاف السوري» فعلاً مسيرةً مظفّرةً بالفشل لما كانت عليه «منظمة التحرير الفلسطينية»، لكن بطريقة مكثّفة جداً؟
لكن ما هذا الكيان الذي يدعى «الائتلاف»؟
لا أملك أجوبة واضحة، لكنني أحاول التقاط الخيوط في أفكار عديدة تدور في رأسي. أجد نفسي كقطاعٍ كبيرٍ من السوريين جاهلاً حقّاً في معرفتي بهذا الكيان الذي يتكلم باسم السوريين دولياً. رغم عمره الزّمني القصير، إلا أن هناك نقصاً «منهجياً» شديداً بالدراسات أو المقالات التي تناولت هذا الكيان بالتحليل والدرس. عدا عن بعض المقالات «الوصفية» والاتهامات الفيسبوكية العامة من هنا وهناك. أرى من بين المشاكل العديدة التي يعاني منها «الائتلاف» ثلاثةٌ أساسية يجب محاولة الخوض فيها: مسألة التمثيل السياسي للثورة، الهيكلية العامة وطرائق العمل، وأخيراً التمويل وما يجلبه من ارتهانٍ سياسي محتمل للقرار الوطني المرتبط بأهداف الثورة المعلنة.
رغم مرور حوالي أربع سنوات على تشكيل الائتلاف، نحن لا نعرف حقّا ما هي القدرة التمثيلية التي يتمتّع بها في عيون السوريين المنتفضين على الأقل، مع الأخذ بعين الاعتبار التبدّلات الهائلة التي أحدثتها الحرب على البيئات المحلية، سواء في المدن والأرياف وبروز ظاهرة النزوح والهجرة القسرية ومجتمعات اللجوء. مكوّنات الإئتلاف
لكن أليس بعض ما أسلفت، مدعاةً وجيهة لظهور «إطار سياسي/أطر سياسية جديدة» في الساحة السورية كما افتتحت مجموعة الجمهورية ورقتها؟
يغمرني شعورٌ بأنني لا أملك جواباً قاطعاً بذلك، لكنّ بالقياس إلى أمثلة عديدة (من بينها مثال منظمة التحرير الفلسطينية) يأخذني اعتقاد بأن محاولات إصلاح هذا الكيان «المريض»، قد تكون أجدى وأقل كلفة سياسية وثورية من الدعوة إلى تأسيس/إنشاء كيان أو كيانات جديدة، من المرجّح أن تعيد الكرّة ذاتها، وقد تنتهي لما انتهى إليه الائتلاف في هذه الأوقات. هذا لا يعني بأننا أمام «حتمية» سياسية اجتماعية على مبدأ «هذه إمكانياتنا» و«هذا نحن»، لكننا أمام «ضرورة» يجب أن تنادي بفهم أكبر لهذه الإمكانيات وتحليل أفضل لما هو موجود من «مكاسب» أو أشباهها حققها السوريون، في محاولة لتطويرها صوب «المقاصد العليا للثورة». نحن أمام هيكلٍ سياسيٍ «عليل»، يحتاج أولاً إلى الإحساس الكبير بالعجز والمرض، وهذا موجودٌ حتى عند كثيرٍ من أعضائه، نحتاج الآن قدرة نادرة على «التشخيص الواقعي» كي نستطيع معرفة الغث من السمين في تجربة السوريين الكبيرة هذه، بعيداً عن دارجة المهاترات والتخوين الموروثة من أجواء البعث البائد.
أعتقد بأن الورقة تطرح أسئلة مهمة للغاية، لكنّها تجازف بحرق مراحل وتسريع خطوات، سواء كانت ذات أبعاد وطنية- سورية أم تعدّتها لأبعاد دولية أكبر، بطريقة تبدو أكثر مما تحتمله الأحلام، وأقلَّ ممّا تبرزه الوقائع. هذا الكيان السياسي الموجود الآن لديه كثيرٌ من العوارض والنقائص، لكنّه يملك رصيداً دولياً لا بأس به يتأرجح بين نصف تمثيل ونصف اعتراف، في عالم يتسيد فيه القوي وتتصارع فيه قوى لا قبل لنا (سورياً وثورياً) في مواجهتها. الكلام عن «أزمة الدول في منطقتنا» وإمكانية «ولادة فاعل أو فواعل سياسية عالمية لا يعترفون بنتائج ما بعد الحرب العالمية الثانية»، ولا «بأن مصدر الشرعية هو مجلس الأمن»، كما أتت عليها الورقة، يحمل همّنا الوطني الممكن والمحتمل إلى مستوى آخر فيه عودة غير محمودة إلى «أممية» لا طاقة لنا بها، وتتعدى بمراحل كثيرة ما تحتمله ظروفنا وظروف الثورة والمنطقة بأسرها. هذه فكرة جديدة «عابرة للحدود»، وعلى نبلها وطاقتها الإنسانية تحمل نفساً إيديولوجياً قد يسوّق أوهاماً تطير بنا إلى أمكنة بعيدة عن مواضع أقدامنا التي نجهل كثيرأً من تضاريسها. لا أعتقد بأن أحد أهداف الثورة السورية هو تغيير التوازن العالمي الموجود وتطوير «أممية» جديدة (لا أعرف كيف أسميها)، هذا بالتأكيد ليس همّا كونياً كما يعتقدُ البعض. وما يحدث في سوريا ليس مختبراً لـ«ضمير» العالم كما يشعر كثيرٌ من السوريين بحرقة وألم مفهومين. السياسات الدولية لم تكن عادلة لا اليوم ولا الأمس في كثيرٍ من بقاع العالم، من فيتنام إلى كشمير وراواندا مروراً بفلسطين وايرلندا الشمالية ويوغسلافيا السابقة. هذا ليس بجديدٍ على الإطلاق رغم قسوة الأحكام. أعتقد بأن محاولة فهم وتحليل ما هو موجودٌ «سياسياً» أفضل وأكثر واقعية/ براغماتية من محاولات الاجتهاد فيما هو غير موجود، أو ذاهبٌ صوب المستحيل. ما هو موجود قد يكون عقلانيأً والعكس صحيح (على قياسٍ هيغيلي: Was vernünftig ist, das ist wirklich)، بيدَ أنّ السياسي «الموجود» تنقصه أفكارٌ جديدة واستراتيجيات مبتكرة في التطوير «الواقعي» لتجارب السوريين الحالية بقضّها وقضيضها، أمّا المفترض والمأمول فقد يطأ مدارات «المثالية» التي لا تزيد الأمور إلا تعقيداً، وبدلاً من «فاعلٍ سياسي» عليل ومشوه يصبح لدينا «عاطل سياسي» جديد، يمارس هو أيضاً «سياسة من فوق» ويدعو لأندلسٍ إن حوصرت حلبُ، بحسب تعبير درويش الأخّاذ.
لنبقى ضمن المتاح والممكن والمقبول دولياً في النضال من أجل إزاحة نظام عنيف طرد السوريين من السياسة (والأرض لاحقاً)، والعمل على إيجاد صيغ جديدة/عقد اجتماعي واقعي يعود فيه السوريون إلى امتلاك مصيرهم ضمن إطارات التداول السلمي المتاح للسّلطة، العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والدينية (لا أعرف كيفية التعامل مع «الجهاديين» المعولميين وكلاء «تنظيم القاعدة» المحليين، كما يطرح نفسه نموذج «جبهة النصرة» البائس).
وقد يفرض السؤال نفسه علينا: هل هذا الكيان الموجود الذي يدعى الائتلاف قابلٌ للإصلاح والتطوير بالنقاط التي ذكرناها سابقاً؟ كيف يمكن الحديث فعلاً عن محاولات تطوير الائتلاف، في وقتٍ لا يستطيع فيه هذا الكيان تطوير «موقعه الإلكتروني» وتحديثه!
عودةٌ إلى الشأن الفلسطيني، حيث ظهرت في السنوات الأخيرة محاولات جديرة بالدرس قام عليها فلسطينيو الشتات في تكوين وإنشاء عديد من الشبكات العابرة للوطنيات
للبؤس أوجه قد يكون أشدها ضرورة،ً الحديثُ عن «الشتات السوري» مع تفاقم ظاهرة اللجوء السوري ووجود إمكانية ضعيفة لعودة قطاع كبير من هؤلاء اللاجئين الموزعين/العالقين في أربع رياح الأرض إلى «آبارهم الأولى» في سوريا لأسباب عديدة
هذا الحال لن يكون له صيغة مرضية إلى حين.