في إحدى زياراتي القليلة لبعض المناطق التي تم تحريرها وخرجت من سيطرة النظام السوري كنت في جلسة عابرة مع أصدقاء أعرف بعضهم، وما أن هممنا بتبادل الأحاديث وإذ يرنّ هاتف نقّال لشخص كان يجلس على ميمنتي، تحدّث الرجل باقتضاب على السماعة، وكان يبدو شديد الإنصات وكأن في الأمر شيئاً طارئاً. ساد صمت عابر، تبدّلت ملامحه في ثوانٍ معدودات، ثم نظر الى شخص كان يقابله جالساً على ميسرة مني وقال له بجدّية واضحة: لقد قتلوه! يبدو أن المتصل كان طرفاً على علاقة بوالدة الشاب القتيل، وقد أخبروها بأنّهم نفّذوا «حكم الشرع» بولدها وتم إعدامه، وعندما طلبت استلام الجثّة قوبل طلبها بالرّفض: لا يجوز أن يدفن في مقابر المسلمين! قمنا عوضاً عنكِ بدفنه في صحراء العراق! لقد كان أحد المسؤولين في «تنظيم الدولة الإسلامية» على الطرف الآخر، على ما قال المُجالسون.
منذ أسابيع خلت من تاريخ كتابة هذه السطور
لا نعرف على وجه الدقة عدد الأشخاص المتهمين ب«المثلية الجنسية»
في النظر الى القضية جوانب عديدة، منها ثقافي واجتماعي ومنها ديني وشرعي، فيما يبقى القانوني والسياسي متأرجحاً فيما بينهما، تعوزه الأهمية التي تلقاها تلك الجوانب.
تأخذ «قضية المثلية» في الموروث الإسلامي العام من قصة «آل لوط» في القرآن مرتكزاً لها ومنطلقاً بدا وكأنه عام وشامل، يأخذ بالقصص القرآني أبعاداً جديدة تسحر الألباب، تتلقفها المعاني والرموز، تاركة مساحات شاسعة للتفسير والتأويل، دونما التخلّي عن الذم وابراز الغضب الإلهي عن الممارسات الموبقة التي تصل عديد الفظائع المركّبة والتي تنتشر على 51 آية، وتتوزّع على سبع سور. أعيدت نفس العبارة تقريباً مرتين «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ»، واحدة كصيغة فيها سؤال عاتب، بينما الثانية في صورة تأكيدية تثير الجزع. ورغم العتب الإلهي الواضح من الإتهام المباشر بالسلوك المثلي «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء» (80/الأعراف)، «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ» (164/الشعراء)، ضمن سلسلة كبيرة من المعاصي الإلهية «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ» (33/القمر)، «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ»(159/الشعراء)، «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28/العنكبوت)، إلا أن العقاب جاء جماعياً، مبرزاً إرادة الله وجبروته على من يعصيه ويكذّب برسله، في استخدام تصويري بالغ الأثر «فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ»(73/الحجر)، كان من عناصر الطبيعة نصيباً واضحا فيه، من دون تخصيص فردي أياً كان نوعه.
في حياة النبي محمّد بن عبد الله لا نرى تواتراً للحوادث التي تتعلق بالمثلية الجنسية كتلك التي نراها في موضوعات أخرى من الحلال والحرام وأمر الحدود، لكننا نجد عوض ذلك سلسلة من الأحاديث التي تنسب الى النبي، تتراوح بين اللّعنة والدعوة الى القتل وإن بصور مختلفة من درجات الصحة والإسناد. لعل أهمها حديث ابن عبّاس عن الرسول قال «من وجدّتموه يعمل قوم لوط فاقتلو الفاعل والمفعول به» (رواه الخمسة إلا النسائي)، وآخر يروى عن محمد بن اسحاق عن عمرو بنت ابي عمر يقول فيه «ملعون من عَمِلَ عَمَل قوم لوط»، وهنا نجد اللّعنة عوضاً عن القتل! ورغم تكرار أحاديث مختلفة في الصّياغة عن شعور النبي بالإمتعاض والغضب والخوف على أمته ممّن « عَمِلَ عَمَل قوم لوط» والتي نقلها بعض الرواة المعروفين (الترمذي، وأحمد، والنسائي، وابن ماجة)، إلا أن عقوبة القتل بشكل مروّع بوصفها «حدّاً» قد تم نقلها عن خلفاءئه وليس عنّه، خاصة ابا بكر وعلي وكانت من إخراج الراوي البيهقي، شافعيّ الهوى، الذي مات بعد اربعمئة وخمسين سنة من الهجرة! اذ يحدّث البيهقي عن حادثة جرت في حقبة الخليفة ابو بكر وقدم فيها إليه رجل كان «يُنكح كالنّساء». وعندما سأل ابو بكر أصحاب رسول الله عن العقوبة التي يمكن اتباعها كان عليّ الأكثر شدّة من بينهم في قوله «هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم الا أمة واحدة صنع الله بها ما علمتم، نرى أن نحرقه بالنار!»، وفي رواية أخرى عن عليّ يقول فيها بحق من يتلبّس باللواط: يقتل بالسيف ثم يحرق لعظم معصيته! ورغم اختلاف المرويات عن الخلفاء الأربعة في رؤيتهم للعقوبة المتوفرة بين الرجم والقتل والتقطيع بالسيف وهدم الحائط على المجنى عليهم، إلا أن البيهقي يعود في إخراج عن ابن عبّاس ليقول: ينظر أعلى بناءٍ في القرية فيرمى به منكّسا ثم يتبع بالحجارة! ابن عبّاس هو ابن عم النبي، الصحابي الذي كان له ثلاثة عشرة سنة عند وفاة النبي محمّد. يذكر العلّامة الدمشقي ابن القيّم، وهو أحد أعلام الفقه السني المحافظ بأنّ أربعة خلفاء قد قاموا بحرق اللوطية: ابو بكر الصديق، علي بن ابي طالب، عبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك.
ونتيجة لتراكم شديد في التأكيد على كبر المعصية الفاحشة، تولّت نسجه الكتب المحدّثة للرواة ورُواتهم وشارحي رواياتهم ومفسروها بتكثيف مضطّرد كلما ابتعدنا عن الزّمن القرآني المحمّدي المؤسس، أخذت المؤسسة الدينية الفقهية تتشدّد في النظر إلى «اللواط» جاعلة منه أم الكبائر، ناظرة اليه كجريمة تماثل الزنا وتستدعي «إقامة الحدّ» الذي يصل إلى القتل، مع الإختلاف في الطرائق والإبتكارات الوحشية فيه. قالت في ذلك الشافعية والحنبلية والمالكية على السواء، فيما شذّ عن هذا الإجماع الأحناف، لرأي جدير قال به أبو حنيفة النّعمان، اعتبر فيه أن عقوبة اللواط تستلزم «التعزير» فقط، مخالفاً ما نادى به قبله عن وجوب إعمال القتل «شرعاَ» بمن يمسك بهم من اللائطين.
هناك فرضية يدافع عنها أصحاب العقائد الخالصة، الذين يجزمون بشكل لا ريبة فيه بأنهم يمثّلون الشريعة الحقّة والفرقة الناجية التي تعكس القوامة والصراط في الوجود الإنساني العام، تقوم على أن المثلية الجنسية ضرب من ضروب مخالفة الفطرة السليمة والطبييعة الإنسانية التي خلق الله عليها كائناته. فالذكر ذكر والأنثى أنثى، والفسطاطان شديدا التمايز والتباين. هذا لديه خصال واضحة صارمة وتلك لديها خصائص وملامح تكشفها بداهة لا نقاش فيها. بلغت هذه الرؤية حدا ايديولوجيا يقوم على تقسيم البشر بين «طبيعيين» يشدّون رحال القوامة المبرمجة سلفاً و«شاذين» يخالفون الشرائع والنواميس الكونية العامّة. لا تستطيع هذه النظرة ذات الأساس الديني المنغلق، شديد المحافظة، التمييز من داخل المنظومة البشرية بين التنويعات الجنسية ذات الوجود المترامي في القدم، سواء كانت تعلّقت هذه التنويعات بالهوية الجنسية أم بالتوجّه الجنسي العام.
من خلال الدراسات المتراكمة حول طبيعة السلوك الجنسي الإنساني يمكننا القول بأن هذه النظرة الصارمة ليست على قدر من الصحّة ولا على درجة من الصّواب والبرهان. فغالبية البشر لديها هوية جنسية واضحة نوعاً ما، تتبدّى فيما بعد في سلوك تطوري معقّد يتوّج بتوجّه جنسي مغاير، أي نحو الجنس الآخر الغيري والذي يتمثل بمزاوجة ذكر-أنثى وأنثى-ذكر (hetrosexuality). تتراوح نسبة هؤلاء في المجتمعات الإنسانية بين 80 إلى 90 بالمائة تقريباً. الا ان هناك نسبة أخرى تعتبر ثابتة بالحد الأدنى ومتغيرة تبعاً لظروف عديدة لا تمضي في هذا الطريق الجيني-الثقافي المعقّد، رغم عدم وجود أي أعراض تدل على باثولوجية معينة تتعلق بالهوية الجنسية لديها. هنا يكون لدينا توجّه جنسي مثلي يتّجه صوب الجنس المماثل ويتّخذ منه «موضوعاً» للشهوة والانجذاب الجنسيين وبشكل لا يمكن تغييره تقريباً (homosexuality). تصل هذه النسبة في حدها الأدنى الى 1.7 بالمئة من اي مجتمع على وجه البسيطة، ويمكن في حدّها الأعظمي ان تصل الى حوالي 4 بالمئة، وهنا يأخذ التوجّه الجنسي العام معادلة ذكر-ذكر، أو أنثى-أنثى. رغم ذلك ورغم بلادة الأرقام والنسب تبدو المثلية الجنسية متغيّرة وخاضعة لأنماط شتى من ظروف التواصل الإنساني. فالمعروف بأن التوجّهات المثلية الجنسية والإهتمام الجنسي المثليين يزيدان بشكل واضح نتيجة لبعض الظروف كما هي الحال عند الإقامة الطويلة في السجون وفي الوحدات العسكرية ودور الإقامة الداخيلة وفي تلك الظروف التي تحرّم التواصل الإجتماعي بين الجنسين، كذلك في تلك التي تسعى إلى الفصل التام بين الجنسين. لأسباب هرمونية وأخرى جينية لم يكشف كنهها بعد هناك ما يشير فضلاً عن ذلك إلى أنّ مرحلة البلوغ والمراهقة عند الإنسان يزيدان من التوجّهات المثلية الجنسية ضمن طيف كبير وواسع من السلوكيات الجنسية التي تقود المرحلة ضمن سياقات التطوّر، في شقّه المتعلّق بالشخصية والهوية تحديداً.
يذهب علماء اللسانيات بأن اللغة مرآة للخطاب. في الكلمات وفي منابعها الأولى يتبدّى صفاءً توصيفي الهوى، حيادي التوجّه، لا تلبث فيما بعد بأن تتشبّع بروح الخطاب السّلطوي السائد الذي يحملها ويثقلها بالمعاني والدلالات بحيث تبتعد عن الأصول بدرجات معقولة. غالباً ما يطلق الفقهاء وحرّاس المؤسسة الدينية بتلويناتها التوحيدية اليهودية والمسيحية والإسلامية مصطلح «الشواذ» على المثليين جنسياً. ولئن كان المفهوم يحمل، في أصوله العربية على الأقل (ابن منظور)، دلالاتٍ مختلفة عامّة من قبيل «شذ عن الجمهور أو الجماعة: أي ندر عليهم وانفرد، شذّ عن الأصول: أي خالفها، والشذّاذ من الخلق: اي الذين يكونون من القوم ولكن ليسوا من قبائلهم». إلا أنه ومع مرور الزّمن أخذ مفهوم «الشذوذ» يحمل شحنات هائلة من السلبية والإشمئزاز تجاه مجموعة اجتماعية محددة، فضلاً عن حمله طاقات هائلة من الرُّهاب والنظرة الدونية التي تدلّ على معصية كبيرة وإثم جلل، تستدعي اتجاهات عدائية واضحة، تتجاوز معادلة القبول أو النفور نحو الدّعوة المبّطنة أو الصّريحة الى القتل أو اشتهائه للمغايرين على أقل تقدير.
مع تراكم الدراسات العلمية الخاصّة بالجنسنة الإنسانية في القرن العشرين ومع زيادة المعارف الهائلة في علوم الطب النفسي وعلم السلوك الجنسي وعلم النفس تم إلغاء مفهوم «الشذوذ» عن المثلية الجنسية، ولم تعد تشكل أزمة «مرضيّة» بالمعنى الطب-نفسي العام، كتلك الإضرابات العقلية والنفسية التي تستدعي تدخّلاً علاجياً ما. كانت سنة 1973 محورية في هذا الصدد، إذ قامت الجمعية الأمريكية للطب النفسي، إحدى أكثر الجمعيات أهمية في العالم بحذف مفهوم المثلية الجنسية من دليلها الثاني الخاص حول الإضطرابات العقيلة والنفسية والمعروف اختصاراً (DSM)، وفي دليلها قبل الأخير الرابع المنقّح لا نجد إلا أثراً واحداً للمثلية الجنسيّة كشيء له علاقة بالإضطراب النفسي الا في الفصل الخاص ب«اضطرابات جنسية غير محددة»، يشير إلى تلك المعاناة المستمرة التي يمكن أن تصيب الأشخاص جرّاء توجهم الجنسي العام. أما منظمة الصحة العالمية فقد قامت هي الأخرى سنة 1992 بشطب «المثلية الجنسية» من لائحة الاضطرابات عند صدور الطبعة العاشرة المعروفة (ICD-10)، مع التنويه إلى أن منظمة الصحّة العالمية معروفة بأخذها قدر الإمكان بالمعايير الإنسانية الشاملة التي لا ترتبط بمجتمع معين، آخذة بالحسبان العوامل الثقافية في المجتمعات البشرية كافة. هذه التطورات المهمة التي طرأت على الموضوع على المستوى الدولي رافقها ظهور لغويّ في العربية يحلو له الحديث عن مفهوم «المثلية» بدلاً من «الشذوذ» فاتحاً المجال لقدر ضئيل من تبديد الرهاب والمحمول السيء الذي يمكن أن يثيره المفهوم الثاني. إلا أن كلمات مثل «لوطي» و«لواط» و«شاذ» و«شواذ» مازالت حاضرة في اللغة المحكية والمكتوبة، ولا يرجّح أن تختفي من التداول اليومي و«الميدياوي» في زمن قريب.
تمتاز المؤسسة الدينية والفقهية المتضخّمة والمستجرّة لتراثها (الإسلامية خاصّة)، باستئثارها الحديث عن مفهوم «الأخلاق» وربطه «قسرياً» بالمفاهيم الدينية وبالإيمان الديني حصراً، وبالممارسات والسلوكيات الدينية التي يمتاز بها كل دين ويخص بها أتباعه. لا تشذ المؤسّسة الإسلامية عن مثيلاتها من باقي الأديان التوحيدية وغيرها، ولكنها تزيد عنهم بفائضٍ كبيرٍ من درجات الدمج التي تماهي الأخلاق بالتديّن. هذا التماهي ينجم عنه فرزٌ تعسّفي كبير بين أولئك المتدينين الذين يوصفون عادة بـ«الاستقامة والأخلاق» وغيرهم من المخالفين للعقائد أو الممارسات أو الشرائع الدينية الذين غالباً ما تُنزع عنهم صفة «الأخلاق»، مرة واحدة والى الأبد. في هذا السياق يُنظر الى المثلية الجنسية بوصفها «انشقاقاً» لا رجعة فيه عن «الأخلاق الحميدة» المحصورة فقط بالمتدينين وأتباع الشرائع السماوية، بينما ينظر إلى «المثليين» كأشخاص بلا أخلاق، منزوعين من كل الفضائل الإنسانية بما فيها التديّن، موسومين بالرذائل والضّلال دوماً. لو أخذنا «طائفة» المثليين جنسياً، وهم بالمناسبة شديدو التباين في الطباع والعادات وأنماط الحياة اليومية، لوجدنا بأنهم لا يختلفون عن بقية المجموعات الإنسانية التي تتوافق مع «الفطرة» المفترضة، فمنهم الصادق والكاذب ومنهم من يرتكب أعمال السرقة وربما القتل، ومنهم من يقوم بالأعمال الخيّرة التي تنحو الى مساعدة الآخرين. المثليين يمكن أن يكونوا فاشلين أو ناجحين تماماً في أعمالهم دراستهم وعلاقاتهم الإجتماعية، هناك على سبيل المثال عديد الأشخاص المثليين الذيت يتبوّأون مناصب عالية وحسّاسة، سواء في قطاع الإدارة والأعمال أم في قطاع السياسة والأحزاب في أربع رياح الأرض. منهم أطباء ومهندسون ورسامون وعاطلون عن العمل، منهم المدرّسون وأساتذة الجامعات ولاعبو كرة قدم، ومنهم المتسوّلون والتّجار وأصحاب الأعمال الهامشية. ومنهم أيضاً من لا تستطيع المؤسسة الفقهية الدينية والعقل الجمعي المحافظ استيعابه ولا تصّور وجوده: المثليون المتديّنون!
من مفارقات الوقائع ذات الإستقطاب الشديد ومن غرائبها أيضاً وجود تناقض يكاد يكون عصيّاً على الفهم. مثال ذلك هو المفارقة بين ما تدلي به «السلطات الدينية» الإسلامية حيال المثلية الجنسية من جهة وما هي عليه الحال في المجتمعات التي تتّخذ من الإسلام بعداً ثقافيّاً مجتمعياً لها من جهة أخرى. ففي مقابل هذا التشدّد الصارم والقاطع في بواطن الكم الهائل من النّصوص المتراكمة، هناك وجود وقبول مدهش ودرجة كبيرة من التسامح وآليات التعامل مع المثليين في المجتمعات المسلمة عبر تاريخها الممتد على أربعة عشرة قرناً، وإن كان ذلك على درجة كبيرة من التغاير والإختلاف من مكان لآخر ومن زمان لآخر
ليس هذا فحسب، هناك من يرى بأن إضطهاد المثليين وتجريمهم واقصائهم لدرجة الموت يعتبر حديث العهد على العالم الإسلامي، لا بل وعلى علاقة بحقبة الإستعمار الكولونيالي الحديث وتبعاته في العلاقة مع الغرب
كل الإيديولوجيات الموغلة بالتعصّب كانت تنتقي ضحاياها بشكل محسوب. لا نبالغ في القول بأن نازيّي «الرايخ الثالث» في ألمانيا هم الأقرب والأكثر شبها بدواعش الدولة الإسلامية المنفلتين بين سوريا والعراق الآن، إلّا أنهم يفوقونهم وحشّية ومنهجة ومأسّسة لكل الفظائع بدرجات واضحة. كانت المثلية الجنسية تمثّل للنازيين «انحرافاً» خطيراً عن القيم العالية للإنسان الألماني الرّفيع وخطراً «وجوديّاً» سوف يؤثّر على سلامة هذا العرق الخارق. ساووا بينهم وبين «اليهود» كأحد أخطر الأعداء الذين يجب التّخلّص منهم، مرّة واحدة وإلى الأبد ما أمكن. في سنة 1940 وتماشياً مع أصوات المدافع والاجتياحات البرّية للوحدات الألمانية الهائلة اتّخذ أحد مهندسي «العرق المصطفى» هاينرش هيملر (Heinrich Himmler) قراراً باعتقال كل من تلوح في سلوكياته «ميوعة» لا تتناسب مع هوامات المواطن الألماني الصّالح. سيق بناء عليه الآلاف من المتهمين بالمثلية الجنسية الى مراكز الإعتقال الرهيبة تلك، حيث يصفّى البشر على نار هادئة. تعرّض أغلبهم كنوع من الحل العقلاني إلى «الخصاء» بطريقة قسرية موجعة. من بين 50 الى 100 ألف معتقل لم ينجو من هذا الجحيم إلا عدد قليل، عاش بعضهم ليروي الفظائع التي يمكن للإنسان أن يرتكبها بحق مخالفيه. هذا لم يحدث في كل تاريخ العالم الإسلامي من شرقه الى غربه. إنّ الفضيلة العنصرية للعرق النّازي التي سعى اليها مهاويس هتلر بدأب مرضيّ قاتل هي ذاتها تماما الفضيلة الإلهية التي يسعى اليها دعاة الصفاء الجنسي من أنصار ومقاتلي التنظيم الفريد الذي يدعى «الدّولة الإسلامية»، وغيرهم ممّن يحسدونهم على صنيعهم بالسر والعلن. ليس هناك من «آخر» يمكن أن يكون أكثر جدارة بالموت والوحشية وبجميع الإسقاطات الذكورية حول الصّرامة والثبات من ذلك الذي تمثّله صور المثليين الجنسيين في المخيّلة الجّمعية الجاهزة للتصنيع. لم تكن المثلية الجنسية سواء عند النّازيين أو الدّواعش حاجة لمشهدية العنف المنفلت فقط ، بل كانت ولمّا تزل ضرورة لتبرير العنف وللذهاب في مداراته الى حدود مطلقة لا مكان للحلول الوسط فيها.
خاتمة
في غمرة الحديث عن موضوع نجده على علاقة بالظروف المعقّدة التي تمرّ بها الثّورة السّورية قد يسائلنا سائل: لقد قام النظام السوري بما لا يخطر على بال في حربه المعلنة ضد المنتفضين على حكمه مستخدماً كل صنوف القتل، منوّعّاً منها قدر الإمكان، وتاركا للمخيّلة ما تشتهي من صور القتل والتدمير: آلاف القتلى من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ، مدن كاملة يأخذها الدّمار، قرىً خاوية على عروشها، وشعب أضحى بين مخالب اللجوء والنفي في أربع رياح الأرض. هل هذا وقت الحديث عن «المثليين جنسياً» الآن؟، والأمور لم تتعدّى سوى بضع حالات منهم؟ ألم يكن الأجدى ونحن مقبلين على مشارف السنة الخامسة من الثورة الحديث عن ضحايا بشار الأسد من المدنيين، بدلاً من الالتفات إلى حالات فيها قدر كبير من الإشكالية، أخلاقيا ودينيّا على الأقل؟
لا أعتقد شخصيّا بوجوب وجود «وقت ملائم» للحديث عن موضوع ما، كائنا ما كان، فكل الأوقات ملائمة وجائزة للحديث عن أي شيء، خاصّة عندما يكون هذا الشيء على صلة بجرائم قتل وحشية تم ارتكابها باسم «الشريعة الإسلامية»، وباسمنا أيضاً، نحن المسلمون العاديون. واعتقد بشكل أكبر أنّه لا يمكن المفاضلة والتمييز بين أنواع الضحايا أيّاً كان لونهم وشكلهم وظروف مقتلهم. لا أعتقد بأن هذا فعل أخلاقي حميد يمكن أن يقوم به أخصائيون، أو أن يغضّوا الطرف عنه بشكل لا يؤرّق ضمائرهم. بصفتنا أحد الشهود على مرحلة مهمّة من تاريخ البلد والمجتمع، أجد هناك حاجة ملحّة لطرق أبواب جميع القضايا حتى ولو كانت على درجة كبيرة من الحسّاسية والتجاذبات المتناقضة كقضية المثليين جنسياً في العالم العربي والإسلامي بشكل عام، أو قضية مقتل أحد المتّهمين بهذه الكبيرة على يد «قبضايات» الدولة الإسلامية/داعش بشكل خاص.
موضوع المثلية الجنسية موضوع شائك وله جوانب عديدة لم يسعني الوقت والهدف أن أتناولها في هذا المقال. هناك العديد من النقاط التي لم يكن المرور عليها موسّعاً بذلك القدر من الكفاية العملية والمعرفية، سواءً من حيث المفهوم نفسه أم من حيث الجوانب التي أتينا على ذكرها. تبقى الفكرة التي يدور حولها هذا الكلام هي «الدّفاع» عن أناس تعرّضوا للقتل وحُكم عليهم بالإعدام لأسباب تبدو على علاقة بالتعصّب الديني وإحلالٍ مرضي للنفس البشرية محلّ الإله أكثر من علاقتها بالسلوكيات الدينية بحد ذاتها. لأسبابٍ لها علاقة بالسّعي لسيادة صور أحادية صارمة لإله مكفهرّ غضوب، لا يرحم عباده الذين خلقهم على فطرة معيّنة، مقابل محاولات طمس وتغييب لصور الله الرّحيم المتفهّم المتعالي، إله أغلب المسلمين على وجه البسيطة، الذي تسع رحمته كل المخلوقات، حتى ولو كانوا شديدي التمايز والتباين.
في هذا يستوي جميع القتلة، من بشّار الأسد إلى «حرّاس الوهم» دواعش الدّولة الإسلامية!