لم تكن اسطنبول المحطّة الأولى بعدَ انقطاع الحبل السرّي الذي يربطني مع أرض الشهقة الأولى؛ فقبلها كانت الولايات المتحدة الأميركية ومصر واسبانيا. ولعلّها، أي اسطنبول، لن تكون الأخيرة، إلّا أنّ ما لا شكّ فيه أنها الأكثر تعقيداً. فهي الأقرب من حيثُ الخيبة، كما أنها الأقرب جغرافيّاً. هنا تبدو الخيبة الجمعيّة واضحةً لدرجة أنّ لا أحد يتحدّث عنها علناً، وغالباً ما يستعاض عنها بأمنيات العودة التي تحاولُ التمسّك بما بقي في الذاكرة من وطن. ليست اسطنبول على احتكاك مباشر مع الداخل السوري كالمدن الحدوديّة، لكنها قريبةً بما يكفي لتبقيك على تواصل مع خيبات الداخل وهزيمة الخارج.
***
تقول أمّ أسامة، بعدَ أن أنهت حديثها عن محاولتها وعائلتها شقّ البحر بإتجاه القارة العجوز، وعن المبلغ المرصود لهذه المهمّة «عقبال ما نشربها بفرحتك بسوريا». تستفزني هذه العبارة، خاصةً عندما تأتي في سياقٍ يشبه العبارات المعلبة عن العودة. ابتسمت في البدء ولم أجب، قبلَ أن أسألها «عنجد؟» توقفت عن الجلي وسألتني إن كنتُ قد قلتُ شيئاً. أعدتُ السؤال، «عنجد رح نشربها بسوريا، وبفرحتي؟» ابتسمت وعادت لغسل الصحون «ما إلنا غير نقول إن شالله.. والله مافي أحلى من سوريا».
أم أسامة صبيّة في الخامسة والعشرين من العمر، من حيّ صلاح الدين في حلب، تعمل في تنظيف الشقق والمكاتب. تؤكد لي عند كلّ لقاء أنّ «الشغل مو عيب!»، ولولا «الأزمة» لما اضطرّت للعمل في التنظيف.
سألتها في ذات صباح عن «الأزمة» وماذا تقصد بها بالضبط. ارتبكت قبل أن تجيب بأنها وعائلتها كانت تعتقد بأنّ الثورة «مالها طعمة» ومجرّد تقليد للثورات في المنطقة، إلى أن تغيّر كلّ شيء بعدَ أن سقطَت القذيفة الأوّلى في حيّهم، وأصابت سيارة زوجها وقتلت أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً في الحيّ.
حوّل زوجها فيما بعد سيارتهُ الثانية إلى سيارة نقل لمقاتلي الجيش الحرّ، وباعَ الثالثة ليخرجوا بثمنها إلى اسطنبول. وبدأت رحلة أمّ أسامة مع العمل في المنازل.
***
يصعبُ الحديث عن الحالة السوريّة للمنفى في اسطنبول بالتعميم، فهي غالباً ما تختلف باختلاف الطبقة الاقتصاديّة والفكريّة للفرد. وغالباً ما يكون هذا الإختلاف شاقولياً بين الفئات النخبويّة والمثقّفة، وتلك التي تبحثُ هنا عن قوت عيشها ومستقبلها بينَ تركيا وبلاد الغرب الواعدة. يذكّرني هذا الانقسام بالعاصمة وملحقاتها، حيث تجد المراكز الثقافيّة السورية والمعارض ودور النشر في مركز المدينة المزدحم بثقافات التغريبة السورية، التي تتنافسُ حيناً، وتكرر نفسها حيناً، وتتعاون في بعض الأحيان؛ بينما يبقى ذلك الجانب الآخر من التغريبة السورية بعيداً ووحيداً، تتنافسُ التجمعات الدينية الصغيرة على امتلاكهِ عن طريق تقديم الخدمات العامة والصحيّة والتعليميّة.
«علمانيين!»، أجابني صوتُ تشات الفيسبوك القادم من منطقة أسانيورت الإسطنبوليّة. هذه هي التهمة التي رفضت بسببها مدرسة للأطفال أن أقومَ مع مجموعة من الأصدقاء بالتحضير لحفلٍ صغيرٍ للأطفال، نوزّع فيه بعض الكتب.
ولكنّ الحفل لن يحتوي على أيّ توجه سياسي أو ديني، حاولت إقناعه.
«مو مهم، بتعرفي انت شلون هنن بفكروا» أجاب الصديق الذي كان قد تولى مهمّة التواصل مع المدرسة.
في مدرسةٍ أخرى، في منطقة الفاتح التي لا تبعدُ كثيراً عن مركز المدينة، التقيت ُ بيمان ونور. يمان طفل في الصفّ الثالث الإبتدائي، مع أنّهُ كان يجب أن يكون في السادس؛ ونور في الثالث أيضاً، مع أنها، عمراً، يفترض أن تكون في الأول الإعدادي. المدرسة التي التحقا بها معنيّة بتدريس الطلاب السوريين ما فاتهم من دراسة أثناء اضطرارهم النزوح أو اللجوء. المدرسة مجانيّة، تساهم بلدية الفاتح في مستلزماتها اللوجستية وموادها، وينقسم دوامها إلى قسمين، صباحي ومسائي. معظم الطلاب الذين يلتحقون بالمدرسة ينهون دوامهم لينطلق كلّ منهم نحو عمله. يعمل يمان في بقاليّةٍ يسميها هو «الماركت» ، ومهمّته في الماركت هي وزن الفاكهة والخضروات. يحصلُ يمان على 200 ليرة تركيّة شهرياً ( 72 دولار) مقابل عمله لمدّة أربع ساعات يوميّاً.
سألتُ يمان عن أوّل شيء يفعلهِ فور استلامه مرتبه الشهري، فقال أنّهُ يقوم بتسليمه لوالده ليدفع الفواتير، أمّا «البخشيش» اليومي الذي يحصل عليهِ من الزبائن فيعطيه لوالدتهِ لتشتري ما تحتاجهُ من السوق من أشياء قد لا يستطيع والدهُ تأمينها لها ولأخته.
وعندما سألتهُ إن كان يصرف من هذا المبلغ على نفسه صمت وفكّر مطوّلاً، ثمّ قال أنهُ لا يحتاج للنقود، لذلك لم يفكر بالأمر سابقاً.
نور بدأت بارتداء الحجاب بعد انتقال العائلة للعيش في الفاتح، إلّا أنها لا ترتديه في أيّ مكانٍ آخر. تقول أمّ نور بأنّ الحارة فرضت عليها أن ترتدي الحجاب، فلا أحد يتحدّث إليها أو يتواصل معها ما لم تقم بتغطية رأسها أثناء تواجدها في الحارة.
أمّا آلان، ذو الـ 11 عاماً، فلم يدخل المدرسة منذُ خروجه من سوريا قبل عام، إذ ينتظر الالتحاق بوالدهِ الذي وصلَ إلى ألمانيا وأجرى معاملة «لمّ الشمل» لهُ ولعائلته. كان آلان يعزف الكمان في شارع الاستقلال -وسط اسطنبول- كلّ يوم أحد منذُ الصباح وحتّى غياب الشمس، إلى أن قامت الشرطة التركيّة بضربه و مصادرة كمانهِ. بالنسبة لعائلة آلان فالمبلغ الذي كان يجمعه في يومٍ واحد كان يساعدهم في تدبير الأمور ريثما يلتحقون بالأب في ألمانيا؛ أمّا بالنسبة له فقد كان العزف في شارع الاستقلال يعني الشهرةً، والخطوة الأولى على الطريق الذي سيجعلهُ «عازف الكمان المشهور» في العالم.
***
كنتُ خارجةً من أحد المطاعم القريبة من ساحة تقسيم وسط اسطنبول عندما ركضت خلفي طفلة ترتدي فستاناً زهريّاً جميلاً تغطيّه بمعطفٍ زهريّ برّاق. قفزت أمامي قاطعةً عليّ الطريق وقالت «مابدك تشتري مي؟» أجبت بالنفي وأنا أنظرُ إليها متعجبةً لجرأتها وعفويتها. «أنا عم اشتغل ما عم اشحد، ما بدّك تشتري منّي؟» أجابتني، فضحكتُ بصوتٍ عالٍ سمعتهُ أمّها فاعتذرت. اقتربتُ من هالة وأجبتها بأنّي سأشتري منها كلّ ما تحمل، فرفضت وقالت باستهجان أنني إن اشتريت كلّ ما تحمل فلن تتمكّن من العمل!
أمّ هالة سيّدةً كبيرة الحجم وصعبة الحركة، ترتدي ما يشبه الحجاب على رأسها تُغطي به شيبَ السنين. كانَ الجوّ بارداً جدّاً يومها، فعرضتُ عليها شراء ما تملك من الماء وتذهب باكراً وابنتها إلى المنزل، إلا أنها رفضت وبدأت بالبكاء. جلستُ بجانبها محاولةً الاعتذار عن أيّ إهانةٍ صدرت منّي. «نحنا ولاد عزّ» أجابت بغضب، «بس جار علينا الزمن»، أضافت. أمسكتُ بيدها واعتذرت منها مجدداً فسحبت يدها من يديّ وأمسكت بمعصمي مؤكدةً أنني لستُ السبب بل السبب هو رجلٌ خليجيّ كانَ قد مرّ وعائلتهُ منذُ قليل وعرض عليها الزواج من ابنتها ذات السنوات الستّ، وعندما رفضت ووبختهُ رمى لها النقود ومشى.
أمّ هالة وابنتها تعيشان مع أبو هالة في منزلٍ صغير في منطقةٍ بعيدة، وتحتاج أم هالة لساعتين من المواصلات للوصول إليه من مركز المدينة. أبو هالة لا يعمل، كما أنه لا يبحث عن عمل، فهو مكتفٍ بأنّ هالة وأمّها تبيعان الماء، وكلّما عرضت عليه أن يقوم بالبحث عن عمل يحمّلها مسؤولية انتقال العائلة إلى اسطنبول، رافضاً أن يتحمّل مسؤولياته في هذه البلد الذي لا يعجبهُ.
نشأت بين أمّ هالة وبيني علاقة وديّة جعلتنا نتبادل أطراف الحديث لساعات بينَ الحين والآخر، أجلس بجانبها ونتحدث عن أيّ شيء.
بعد حوالي أسبوعين توقفتُ كالمعتاد للحديث مع أمّ هالة لأطمئن على أحوالها. كانت هالة تحاولُ جاهدةً بذراعيها الصغيرين احتواء الكتلة الضخمة حول كتفي والدتها، وعندما اقتربت نظرت إليَ مشيرةً بإصبعها أن أسكتَ. جلستُ بالقرب من أمّ هالة ووضعتُ يدي على كتفها، انتفضت ونظرت إليّ مشيرةَ لهالة كي تعود للعمل.
رفعت موبايلها الذكيّ الجديد بوجهي وقالت «شبّ متل الوردة». على شاشة الموبايل ظهرت صورة لشابٍ متبسمٍ، حليق الشعر بلحية خفيفةٍ وخجل بعض الشيء. حاولت الاستفسار أكثر، قالت «استشهد». ضممتها وترحمتُ على روحهُ فطلبت منّي أن أقرأ الفاتحة معها. قرأنا الفاتحة معاً وبدأت هي بالدعاء لهُ. جلستُ صامتةً بالقرب منها أحاولُ أن أمارسَ الصمت المطلوب وأنا ضائعة بينَ ما يجبُ أن أفعل أو لا أفعل. قطعتُ بكاءها محاولة أن أستفسر عن طريقة استشهادهِ فأصابتني إجابتها بالعجز التام. لقد كان الشاب يخدم بالجيش العربي السوري، وقُتلَ برصاص الجيش الحرَ. لم أعد أذكر كامل تفاصيل القصّة، فكلّ ما علقَ بالذاكرة هو خدمتهُ في الجيش العربي السوري وموتهُ على يد الجيش الحرّ. شعرت أمّ هالة أنّ شيئاً معقداً قد حصل، فوضّحت لي بأنّها وعائلتها من مؤيدي الأسد وبقائه في السلطة.
هززتُ رأسي بالموافقة على أنني فهمتُ القصّة، ولكنني لم أفهم شيئاً في الواقع. مؤيدة لبقاء الأسد تبيع الماء مع ابنتها في مدينة اسطنبول، تتعرّض وابنتها لمواقف مؤذية، ويستشهد إبن اختها على يدّ الجيش الحر بعد عام على خروجها من حلب هرباً من القصف الذي تؤيّدهُ للقضاء على «الإرهاب»، وهي وأنا الآن نجلسُ تحت سماء اسطنبول، المعارضة بسوريتها، الباردة في شتائها.
***
وصلَ أبو أحمد مع عائلتهِ إلى تركيّا هرباً من تطوّر الأوضاع في القامشلي، واستقرت العائلة في اسطنبول. لم يكن أبو أحمد يفكر بالخروج من اسطنبول نظراً لتعلقه بعائلتهِ ورغبته بأن يعيش هنا بالحدّ المقبول، وكان عملهُ وزوجتهُ يؤمنان ذلك. استمرّ الوضع كذلك إلى أن عرض أحد الأصدقاء على أبو أحمد أن يرافقهُ في رحلة عبور نحو أوروبا بشكلٍ مضمون. المختلف في هذه الرحلة أنها تخرجُ من اسطنبول باتجاه بلغاريا سيراً على الأقدام، وعلى الحدود البلغاريّة هناكَ جنديّ كرديّ سيساعدهم على عبور الحدود. خرجَ أبو أحمد تاركاً عائلتهُ في اسطنبول، وعبرَ الحدود البلغاريّة قبلَ أن يتعرّضَ لنكسةٍ صحيّةٍ اضطرتهُ للدخول إلى المشفى في بلغاريا، ما عرّضهُ لخطر «البصمة البلغاريّة» التي ستجبره على البقاء في بلغاريا، وتعقّد إمكانية الحصول على اللجوء في ألمانيا.
youtube://v/-o_f-i6qoxs
قامت مجموعة من الأكراد في بلغاريا بمساعدته على التخلّص من البصمة في بلغاريا رغم أنّ الحكومة البلغاريّة تكفّلت بكامل مصاريف العمليّة وفترة النقاهة. لم أتمكّن من فهم رواية زوجته عن الآليّة التي اتبعها للتخلّص من البصمة، أو كيف ساعده التجمّع الكردي تماماً؛ ولكن عدتُ وسمعتُ عن فائدة هذا التجمّع الكردي في بلغاريا ثانيةٍ من شابٍ كرديّ كان يحاولُ اللجوء بنفس الطريقة (سيراً على الأقدام) بعدَ حوالي خمسة أشهر.
بالنسبة للعديد من السوريين، لا تقدّم اسطنبول مستقبلاً مقابل ما تأخذهُ من حاضر، لا تعد بشيء ولا تقدّم أدنى الضمانات التي تقدمها الدول الأوربيّة، ما يجعلها منفى ما قبل المنفى. المحطّة التي تأخذُ منكَ ما تعرفهُ عن الوطن الأمّ قبل َ أن تسلّمكَ بطاقة العبور نحو أوروبا. قلّة من الناس تأتي إلى اسطنبول لتستوطن هنا، معظم السوريين يغادرون.
***
لا أملكُ، شخصياً، تعريفاً للمنفى؛ تغرّبتُ صغيرةً وسافرتُ كثيراً، فضاعت الحدود بينَ الوطن والمنفى. كلّ مكانٍ في هذا العالم يمكنُ أن يكونَ وطناً إذا ما أردنا لهُ ذلك، أمّا المنفى فهو ما لا نريد. اسطنبول ليست أكثر من تجربة أخرى في منفى، من جهة؛ ووطناً يعبقُ بالمشاعر والتجارب السوريّة والإنسانيّة المستمرّة من جهة أخرى.