في الحديث عن «الغائبين» ثمّة معضلة قد تكون في جانب من جوانبها ذات اتّجاه اخلاقي بحت، إذ في الكتابة عنهم لا بدّ من انتهاك ما، قد لا يسرّ الخاطر فيما لو قُدّر لهم حدْسُ ما يُكتب بشأنهم. هو شيء أشبه بتلك «الخيانة» المدفوعة بالترجمة، والتي غالباً ما يقال إنها «مشروعة» وإنها ذلك الشر الذي لا بدّ منه. بهذا يكون كلّ حديث عن غائبين، مغيّبين، ليسوا بيننا، مرشّحاً ليحمل في طيّاته ما يحمل من سوء، حتّى ولو بدا في لبوس استحضار أخلاقي واجب. بهذا المعنى تبدو الصورة فعلاً في تضادّ مؤرّق قبل أن تكون أي شيء آخر. ولكن، وعلى الرّغم من تلك التحفّظات الموجبة، يبدو لي انّ الحديث عن «قضية المخطوفين» الأربعة مسألة كبرى تمثّل طيفاً واسعاً من الجوانب، قد يبتدئ أولها من ذلك الرابط الأخلاقي المبدئي الأصيل، في الدّفاع عن الحقوق واستعادة حدث فيه غدر وخيانة كبيرين، إلا أنها تمتدّ في تدرّج على جوانب عدّة، وطنية وسياسية، ثورية واجتماعية، شخصية ضيّقة وإنسانية عامّة. بين هذا وذاك أرى في الحديث عن رزان زيتونة، وهي تمثّل ذلك الغياب الجامع، فيضاً من كل ذلك، وربّما أزمة شخصيّة ليس لها حل مُرضيْ إلى حين.
في إحدى ليالي المتابعة اليومية للثورة، جاءتني رسالة تقول بأن هناك لقاء سيتم عرضه على إحدى قنوات التلفزة الألمانية، وسوف يتم فيه استضافة الصحفية الألمانية والكاتبة المعروفة سوزانا فيشر. تابعت اللقاء في اليوم التالي حتى أعرف ما القصة. كان لقاء عادياً تناولت فيه الصحفية عدّة أمور من بينها زواجها من مواطن لبناني، وخبرتها في العمل في الشرق الأوسط، وكتابها الأخير عن إنجاب الأطفال في سنّ الأربعين! بدا اللقاء عادياً للوهلة الأولى، وظهر بأنه قد صادف يوم عيد ميلاد الصحفية الضيف. بعد دقائق من الحديث طلب المحاور من سوزانا متابعة فيديو قصير على شاشة مقابِلة في الاستوديو. فجأة تظهر رزان زيتونة، بصفاء وحسن كبيرَين، كانت تجلس على صوفا واضعةً قَدَماً على أخرى في غرفة بسيطة ينفتح شبّاكها على شارع تدخل منه شمس رقيقة. بدت رزان وعلى حضنها قطة بيضاء تداعبها برفق وهي تقول كلمات بسيطة بلغة إنكليزية متدفّقة، يدور فحواها عن تمنيات بطول العمر لصديقة عزيزة. فجأة إذا بالشخص الذي كان للتّو يبدو جدّياً يتحدّث برصانة ليست مفتعلة على الإطلاق ينهار بالدّموع أمام الكاميرات. لم تستطع الصحفية الضيف حبس عواطفها ودموعها وأخذت تجهش بالبكاء الممزوج بالحيرة. كان موقفا قلّما يشاهَد في برامج مع شخصيّات يحسب فيها حساب لكل حركة. قام المحاور بطلب استراحة قصيرة وتم قطع المقابلة ثم عاودت بعد توقف إعلاني قصير.
ليس سرّاً بأن رزان تمتلك مفاتيح أساسية لشخصية كارزمية تستأثر بأغلب من يتعامل معها بشيء أو بآخر. لا تبدو فقط ملامح رزان الهادئة التي تُضفي بُعداً حضورياً مرئيّاً ما، ولا صوتها المأخوذ ببحّة خفيفة تاركاً آثاره البعيدة لدى السّامع، هي تلك الأمور/الأسباب التي تثير ذلك الانطباع الأول الذي تتركه رزان عند محدّثها، فهناك شيء أبعد من ذلك السحر الآني والسطوة المرحلية في شقّها الإدراكي المرتجل. في رزان تجتمع مهارتان تطبع تلك الشخصية المميزة: مهارة المحاججة المنطقية والحديث المدعوم بالأسباب والوقائع، ومهارة الإنصات العميق الذي يستدعي صمتاً واجباً لأمر ما. رغم ذلك، يتميّز التواصل اللغوي لرزان باقتصاد «رشيد»، خفيف الظل، مع تلوينات مختلفة من التعليقات اللّماحة عند الضرورة. رغم ذلك لم تكتسب رزان تلك الشخصية المثيرة فقط لأن فيها سمات «محاميْ بارع»، بل لأن تلك الشخصية كانت ترتكز على دعائم أخلاقية وإنسانية كانت تُظهر يوماً بعد آخر ثباتاً أصيلاً. فالدّفاع عن حقوق قطاعات اجتماعية كالنساء والأطفال والمعتقلين السياسيين ليس لها سند مكين في بيئات الاستبداد المتبدّلة، يتجاوز ذلك الهمّ المِهَني العام لينفذ الى تلك الطبقات العميقة من الحس الإنساني والوطني المجبول بالتزام لا يبدو أنّه نابع من أيديولوجيا متكلّسة.
«يعني شو فينكون تقدموا؟» لا تبدو عبارة عسيرة على الفهم، إلا أنها ترشح «براغماتية» ودفعاً باتجاه ذهاب الأمور نحو الأعمال والأفعال، بعيداً عن الأقوال المتراكمة. رزان تمتلك في ذلك طاقة عالية على شحذ الأفكار البسيطة بتلك القدرة التي تسمح بإنجازها بدون لفّ ودوران لا طائل منهما. عبارات رزان غالباً ما تكون مبتسَرة، تحتضن أفكاراً قابلة للتطبيق وحاملة معاني السّعي والحماس نحو ذلك. «في عندنا مدرسة بحرستا وبدنا دعم لسنة دراسية»، «بلّشنا بمشغل لبيع المشغولات ورح نبيع المنتج ونسوّقو ويرجع المبلغ للنساء صافي»، «عندنا حالة جريحة وبدنا نطالعها من الغوطة للعلاج، هات لشوف!»، «اعْملوا حفلة غناء بألمانيا وتبرّعوا بالريع لروضة أطفال هون!»… هذه عينة من تلك الأفكار و«المشاريع الصغيرة» التي كانت ترعاها رزان بدَأَب يومي غريب. وبعد أن تطمئن إلى أن حراكاً ما بدأ يمضي، تترك الأمور للجري على هواها بعد تسليم أغلب هذه الأفكار لميادين الواقع. ليست مغرمة دائماً بمتابعة كل شيء، لكنّها تمتلك إحساساً عاتياً على أن الأشياء سوف تمضي على ما يرام.
على غير ما كان يُعتقد، كانت رزان على اطّلاع يومي ودقيق على أحوال الكتائب المقاتلة على الأرض، خاصة في الغوطة الشرقية. صحيح أنها لم تكن لتخفي نهجها «المدني» العام في الثورة، وتمسّكها بالتنظيمات والنشاطات ذات الطابع المدني الخالص، الا أنها لم تكن لتسقط في تلك النظرة «المتعالية» و«الخيالية» السطحية إزاء كل ما هو «عسكري» أو له علاقة بـ«السلاح»، تلك النظرة التي أضحت في عيون وأفكار كثير من النشطاء السوريين شيئاً أقرب الى تلك الأيديولوجيا/الأفكار المعلّبة، سهلة الترويج، في الوقت الذي أظهر فيه النظام طاقة عنف هائلة في كل مكان استطاع إليه سبيلا. في إحدى الرسائل التي تشعر فيها بجدّية زائدة طرحت رزان عليّ فكرة جديرة: تأسيس جمعيّة مستقلّة ولا تتبع الى أي جهة كانت… هذا ليس جديدا حتماً؛ الجديد هو في أغراض هذه الجمعية وهدفها الأساس والذي تمثّل بشيء ليس أكثر ولا أقل من «إنشاء صندوق مالي يهدف إلى تأمين الإعانات المادية والعينية الممكنة لعائلات المقاتلين من المجموعات المنضمّة إلى الجمعية». ويمكن لقارىء لوائح النظام الداخلي أن يتابع بأن هذه الجمعية «تتألف من أفراد عوائل الفصائل العسكرية المقاتلة في سوريا، المتواجدة ضمن منطقة عمل الجمعية، والتي قبلت الانضمام اليها»، والأهم في ذلك الفقرة التالية، والتي جاءت على شكل مادّة أساسية فيها: «لا يجوز لهذه الجمعية أن تتدخل في العقائد الدينية أو الأمور السياسية، وهي تلتزم بتقديم المساعدة إلى المحتاجين من عائلات المقاتلين المعنيين بدون أي تمييز من أي نوع كان».
كغيرها من المناطق المحرّرة، خضعت الغوطة الشرقية الى جملة من التغيّرات التي لم تعد أسبابها تُخفى عن أحد، جعلت من فصائل إسلامية ذات هوى سلفي محافظ تتحوّل من قوى داخلة ومشاركة في مشروع كبير ومعقد اسمه «إسقاط النظام» الى قوى تأخذها العزّة والغلوّ، تفرض نمطاً معيناً من السلوك والعقائد وتتصرف باستئثار واضح كسلطة أخرى بديلة للنظام ذاته الذي كان المفترض أنّها قامت من أجل إسقاطه، وكل هذا في بيئة لمّا تزل محاصرة وتحت نيران النظام بشكل يومي. المشكلة التي كانت تتأكّد يوماً بعد آخر تمثّلت بحدوث عملية فرز واستقطاب شديدَين في إمكانيات القوى العسكرية المتشكّلة هناك، أنتجتها عمليات تمويل ضخمة تركّزت لدى قوى معيّنة لا تنطلق في مشروعها من تربة وطنية جامعة ولا تتحرّج من الإشهار بذلك. رزان كانت بحسّها الواقعي القريب من مجريات الأمور تشعر بأّن «العامل الإقتصادي» يلعب دوراً كبيراً في الجنوح نحو تيّارات معينة لدى الكثير من التشكيلات المسلّحة المقاتلة، رغم مشروعية عوامل أخرى لها تماسّ أكبر مع أيديولوجيات ومشاريع بدت في واجهتها العامّة أكبر ممّا يحتمل الوضع. حملت رزان الفكرة وجالت بها في مناطق تواجدها، والتقت عدداً من قادة الكتائب التي تُعير اهتماماً أكبر للهمّ الوطني بالرغم من أن بعضها كانت له توجّهات «إسلامية» واضحة، لكنّها تظل من تلك التي لها الحق في التعبير عن مشروعها ضمن إطار ما زال ينضوي ضمن الأهداف الأولى للثورة في بواكيرها الأنقى.
دعم عائلات المقاتلين ذوي التوجّه الوطني العام (بمعنى إسقاط النظام والتأسيس لدولة مدنية، لا عسكرية ولا دينية) وتأمين وضع يُتيح لهم حرية ما مع قدر من الكرامة، لهم ولأطفالهم ونسائهم، هو بالضبط ما كانت تحلم به رزان في واقع كان يزداد خطورة يوماً بعد آخر. قبل اختطافها بيومين هي ورفاقها الثلاثة (سميرة الخليل، وائل حْمادة، ناظم حمّادي) كانت على لقاء جمعها مع مسؤولين عن «مطبخ ميداني» يزوّد المقاتلين وعائلاتهم بالطعام يومياً. تحدّثت رزان عنه بكثير من الإيجابية، فضلاً عن شعور العديد ممن التقتهم من المقاتلين وقادة الكتائب عن ترحابهم بإمكانية تحقيق مشروع كهذا (أي جمعية دعم عائلات المقاتلين). كانت رزان ممّن آمنوا بضرورة الثقة بمعطيات الواقع بعيداً عن كل شيء مسبق، سواءً كان هذا المسبق آراء أم مواقف. في البحث عن تمويل «طويل النفس» كانت رزان أثناء النقاشات والاجتماعات الأولى لأعضاء هيئة التأسيس تُصرّ على دور «رأس المال الوطني»، وعلى وجود شخصيات «وطنية» ينصبّ همّها الأول والأخير نحو الدّاخل والمناطق المحرّرة، ضمن الإطار العام الذي حدّدته بدايات الثورة، مبتعداً قدر الإمكان عن «أهواء» الجهات الخارجية المانحة، أيّاً كان توجّهها. كغيرها من الناشطين في الدّاخل لم تكن أحوال رزان المالية على ما يرام، ورغم ذلك لم تكن تتوانى عن التصرّف بمالها الخاص في سبيل قضايا تؤمن بها. في أحد الأحاديث التي جمعتني بها بخصوص كيفية تأمين المبلغ الأوّلي، الذي من المفترض تواجده لإطلاق مشروع كهذا، طلبت بكل وضوح وضع مبلغ جائزة «سخاروف» التي حصلت عليها من البرلمان الأوربي لنشاطها الحقوقي والمدني في الثورة تحت التصرّف. «وهي معكن 10 تالاف يورو، بلشوا فيها يا أخي» كانت الكلمات التي قالتها رزان كي نبدأ بالعمل مباشرة. يومها أخبرتني بأنها بعثت برسالة الى رئيس البرلمان الأوربي مارتين شولتز، وهو ألماني الجنسية وينحدر من ضواحي المدينة التي أقيم فيها، وطلبت منه أن يرسل مبلغ الجائزة لأنها تحتاجه الآن.
هل لهذا المشروع علاقة بحادثة الخطف؟ لا أستطيع الجزم أو النفي. قد تكون الفكرة تسرّبت فعلاً إلى جهات أصبحت معروفة ولا تتحرّج من إظهار سلطتها واحتكارها للعمل العسكري في الغوطة الشرقية، ممتطيةً ذرائع واهية عن ضرورة «توحيد» الجهود تحت مظلّة هيكيلة واضحة (أقصد هنا ’جيش الإسلام‘ بقيادة زهران علّوش). ومن المرجّح أيضاً أن رزان وما تمثّله من نشاط ورمزية كانت هي بحدّ ذاتها السبب الذي يكمن في تغييب صوتها، وذلك بغضّ النظر عن أية دوافع أخرى على علاقة مباشرة بالموضوع. كانت الأسابيع التي سبقت عملية الخطف والتهديد الجدّي الذي تعرّضت له يؤكّدان بشكل كبير بأن ما تمثّله رزان شخصيّاً واجتماعياً، وربما وطنيّاً وسياسيّاً، لم يعد مرغوباً به، أو أنّه أضحى عبئاً محرجاً، في بيئة محاصرة بدأت ترزح تحت تسّلط ذي هوى ديني هذه المرّة، شديد الحساسيّة لأي نقد، لا يعبأ كثيراً بالذهاب الى أقصى التجاوزات في سبيل بسط النفوذ والسلطة، بأحادية بادية في التفكير وبضيق شديد في الأفق.
ضمن هذا السياق، وفي هذه الأوقات التي تمرّ بها الثورة، حيث الاستبداد الأكبر ممثّلاً بنظام القتل الأسدي وحيث تتوالد أنماط الاستبداد الأخرى وتتناسخ بتواتر مقلق، تكتسب قضية المخطوفين الأربعة أبعاداً جديدة وقيماً انسانية ووطنية سابقة على كل ما عداها من قيم. مهمّتناً كأفراد وجماعات، نشابه بشيء أو بآخر المخطوفين الأربعة من حيث سعيُنا نحو الاستقلالية في التفكير والقرار والدّفاع عن الأهداف البكر الأصيلة للثورة، وحق الضحايا في الحديث عن روايتهم، لا نملك في ذلك لا سلاحاً ولا علاقات متنفّذة ولا حتّى قدرة على التغيير في واقع الثورة المتروك لعلاقات القوّة، مهمّتنا هي التحصّن، قدر الإمكان، بتلك المبادىء التي تلتزم قيم العدل والحرية وتحرّم التشبّه بنظام الأسد وثقافته التي يريد لها أن تنتشر مع دبّاباته وصواريخه. هذا فقط ما كانت تحلم به رزان، وما كانت تحلم به سميرة ووائل وناظم.
هنا بالضبط يكون الحديث عن الغائبين حديثاً ذا نفع وقيمة، غير ذلك لا يكون إلا ضرباً من اللغو، وأي لغو!