صيفٌ، وصباحُ يوم أحدٍ مُشمِسٍ في الصيف، أحملكِ على ذراعي، نصف صاحٍ، متجولاً بين الغرف متأملاً معكِ وجوه الأحد في المرايا.
جئتِ أياماً قبل موعدكِ المنتظر، زرقاء زرقاء مثل أغاني الشوق، ويدُكِ ملأى بالساعات، أثرٌ ظلَّ من أصابعٍ قاسيةٍ سحبتكِ إلى العالم. كان ليلَ جُمعة بطيئاً من مطلع آذار في الغرفة 101 في مشفى جنوب المدينة. القابلةُ العرجاء، وكانتْ قد أحضرتْ قبلاً لأمّكِ مشروباً دافئاً طعمه مُكعّبُ ماجي، سألتني، إن كنتُ أرغب في أن أقصَّ حبلك السرّيّ، رفضتُ مفزوعاً من الدم وصرخات الولادة، ولم أندم حتى الآن.
حين وُلدتُ، ذكراً أول في الجيل الثاني من العائلة، احتفظتْ جدّتي بحبلي السرّيّ، وَصلةُ الروح الرقيقة تلك، أخفتها في قطعة قماش سميكٍ بين كِتابين على رفٍّ لم يبلغه أحد، سعياً لربط قدري بالكتب، ومؤونةً للذاكرة. بيعتْ المكتبةُ أو أُحرقتْ، وهاجرتُ حاملاً معي كتابين تركتهما في أرضٍ باردةٍ بعيدة، الحبل السرّيُّ ضاع، والجدّةُ، سَميَّتُكِ، التي ماتت قبل أن تولدي تاركةً غصّةً في القلب، سأحكي لكِ عنها قبل أن تكبري.
* * * * *
صيفٌ، وصباحُ يوم أحدٍ مُشمِسٍ في الصيف، سربٌ من حمامٍ ينظّفُ ريشه اللامع على سطح ثكنةٍ قديمة لم تُهدَم بعد.
صرتُ أباً للتو، وكُنتُ قبلاً غافلاً مطمئناً غير مستعدٍ لكلِّ هذا الحب. صرتُ أباً ولا أدّعي معرفةً فيما صُرتُه ولا شجاعةً، أباً عادياً مُتتبعاً درباً يضمُّ صفاً طويلاً من بشرٍ سبقوني، هكذا كما كانت الأبوة، في أغلب تاريخ البشرية، حالاً نبلغها دون قرارٍ واعٍ، فالأمهات والآباء صاروا أمهاتٍ وآباء منذ آلاف السنين دون أن يتخذوا موقفًا حيال ذلك، والأطفال أتوا إلى العالم بالطريقة الغامضة نفسها التي أتى بها الموت، دون أنّ نملك تدابير للتحكم بالموضوع، ودون أن نكون مستعدين.
ثُم بَلغنا عصورنا الحديثة، عصور الرفاهيات الليبرالية المُكتسبة، قانعين بأننا قادرون على التحكّم بالإنجاب، محاولين مَنطَقَة القرار بحساب الإيجابيات والسلبيات. ويظلُّ القرار كبيراً وغير قابل للتغيير، لا نقدرُ على اتخاذه بناءً على حدسٍ أو على حقائق. أَصْلُ التردد هو ذلك الاقتناعُ العميق بأننا مِحورُ ما يدور حولنا، المستقبل بالكامل في أيدينا وحُرياتُنا تسمح لنا بأن نُخضِعَ كل القرارات لخياراتنا العقلانية. والقلق تكثيفٌ للتردد وامتدادٌ له، خوفٌ مُستمرٌ من اتخاذ قرار خاطئ. فُرَصُ التحكّم كثيرة في عالمٍ ليبرالي، حيث تتمتع، المرأة أولاً، ثم الشريكان معاً، بشيءٍ من السلطة على متى وبأي طريقة يريدون الأطفال. خياراتٌ مثل تجميد البويضات، أو استعمال حبوب «لننسَ ما حدث البارحة»، أو التبنّي، أو إجراء الإجهاض حتى عدد أسابيعٍ معين، أو الحصول على متبرعين بالحيوانات المنويّة أو استخدام وسائل متنوعة لمنع الحمل تعطي انطباعاً بأنّ القرار بالكامل ملكٌ لنا. القرار المعقّدُ هذا مُتاحٌ بطريقةٍ ما وفي المتناول، وهذا بالضبط ما يجعلُ اتخاذ قرارٍ خاطئ سهلاً ومخيفاً. بعد التوقيت والتفاصيل، يبقى السؤال الأساسي اليومي هو الأكثر تعقيداً، فالاختيار بين السعادة، غير القابلة للقياس، المُرافقة لإنجاب الأطفال، أو البؤس، غير القابل للقياس، المُرافق أيضاً للإنجاب، خيارٌ لا يمكن معالجته موضوعياً. الدراسات التي حاولت الإجابة على الأسئلة عن طريق الأرقام والإحصائيات، اعتماداً على ظروف وتكاليف تنشئة طفل حتى سن الثامنة عشرة، خلصتْ إلى أنّ الأمهات والأباء عموماً أقل سعادةً بعد دخول الطفل إلى حياتهم، ووجود الأطفال يقللُ من رفاهية العائلة الاقتصادية… الأبوّة، بقياساتِ السوق، ليست استثماراً ذكياً، ورغم معرفة الكثير منا لهذه الحقائق، تُحاصرنا الفكرة حتى نستسلم.
نستسلمُ أخيراً، فما مِن معركةٍ رَبِحها أحد، وما من معركةٍ خاضها أحد وما النصرُ إلا وهمٌ من أوهام الفلاسفة والمجانين. نختارُ الإنجاب على المغامرات والأحلام والقضايا الكبيرة، واثقين أن رتابة اليومياتِ سبيلٌ وحيدٌ لتجنب الكآبة. نمدُّ الأيادي عالياً فوق الرؤوس، مشيرين للحياة أنْ تعالي، ضعّي الأصفاد في السواعد ثم اتركينا للتكرار. نحن الرجال المملّون، ما عاد يدهِشنا شيءٌ، منزليون مثل أواني المطبخ، مُترددون بسبب الرِضى الحزين بأننا لا نعني جوهرياً لأحدٍ سوى إزعاجٍ أو واجب، مختبؤن في فقاعاتنا الآمنة مقتنعين أنّ ما مضى أحلى من ما سيأتي.
وهكذا، مُخدّرين من هولِ ما نُقدم عليه، نستسلمُ كما يفعلُ الناس فيصيرون أسْرى ما استسلموا له، أسرى العمل، أسْرى الإدمان، أسْرى صفِّ الحجارة على الحجارة، أسْرى السفر، أسْرى الثورات، أسْرى مُلاحقة القلوب على الشاشات، أسرى يتقاذفون الفجر كالوسائد. المُملون منا، أولئك الذين لم يجرؤوا على الانتحار، يختارون الإنجاب، أكثر أشكال الأسرِ قبولاً.
* * * * *
صيفٌ، وصباحُ يوم أحدٍ مُشمِسٍ في الصيف، شَعرُكِ ليس بُنياً، رفعتِه ووضعتِه خفيفاً على ميزان الأسى: كان أثقل مني..
كان عُمركِ أربعة أشهر حين أطعمناكِ للمرة الأولى مِلعقةً صغيرة من تُفاحةٍ مهروسة، لم نفهم تعابير وجهكِ حين أكلتِ. صباحَ اليوم التالي علّقتِ لنا على باب البراد ورقةً كتبتِ فيها بخطٍ واضح: التُفاح بِدْعة أُريدُ حليباً.
الأمومة تأكيدٌ طبيعي على أن المرأة غير قابلة للاستبدال، إذ تُهددُ الحريات باقي العلاقات، العاطفية والجنسية، بالتغيير الدائم. وحليبُ الأم من أوائل وسائل هذا التأكيد بعد الحمل والولادة. التشبث بالرضاعة الطبيعية يحول الحليب من غذاء إلى إيديولوجية أساسها احتكار الأم للقدرة على تنشئة الطفل بطريقة صحيّة، ويضفي على الأمومة، بكلِّ ما فيها من مشاعر سامية، شيئاً من حبِّ الذات. علاقة الأم بالرضيع تُشبه هُنا العلاقة بين الدول ومواطنيها، والحليب باعتباره مشروباً حميمياً خاصاً حالةٌ واضحةٌ لهذا التشابه. التمدّن ودخول النساء في سوق العمل أجبرنا على البدء باستعمال أنواع حليب أخرى لإكمال تغذية الأطفال، وجعلَ الحساسية المتعلقة بالحليب تتجاوز العلاقة الأولية بين الأمهات والرُضّع، صار الحليب بشكلٍ عام مُنتَجاً دالاً على نقاء الأمم، ويندرُ أن تستورده الدول المتقدمة من خارج الحدود.
* * * * *
صيفٌ، وصباحُ يوم أحدٍ مُشمِسٍ في الصيف، الحياةُ سهلة، الأسماك تقفزُ، والقُطن عالٍ.. الحياةُ سهلة، والدكِ غني وأمُكِ جميلة
تكررتْ الفحوص الدورية والاختبارات المصليّة أثناء فترة الحمل للتأكد من سلامة الجنين وطبيعية منحى التطور داخل الرحم، مع توجيهات مستمرة للأم حول الفيتامينات والمعادن التي تحتاجها ونصائح حول المشي والاسترخاء كي تولد الطفلة مُعافاة. ابتساماتُ الأطباء الوقورة والألوان الباهتة لممرات المراكز الصحية تعطي إجمالاً شعوراً بالراحة والأمان. لكن التطور الطبي المتسارع لا يخلو من إرباكٍ أخلاقي مُرافِق للتطور، بطبيعة الحال ليس هُناك أي فخرٍ في أن تُعرِّضَ الأم الجنين للخطر بسبب نقص الرقابة الصحيّة، لكن التطور الذي يكادُ يستطيع التحكم في الجينات لتحسينها أو تغييرها، يحيلنا إلى حالةٍ من الاصطفاء قد نكون فيها قادرين على إنجاب أطفالٍ خارقين، نُصممهم كما نصمّم تطبيقات الأندرويد، ربما بمعدلات ذكاء أعلى أو بنسبِ أمراضٍ وراثيةٍ أقل. السؤال الفلسفي قديم: هل ستغيرين نفسكِ إذا كُنتِ قادرةٍ على تحسين طبيعتك البيولوجية؟ هل تختارين إنجاب طفلٍ مثالي إذا استطعتِ ذلك؟ أو بطريقة أبسط: هل ستحاولين تحسين الطبيعة البيولوجية لسلالتكِ إذا استطعت؟
منطقياً يمكن اعتبار التحسين الجيني مُجرّد امتدادٍ طبيعيٍ لما يحاول الأهالي تقديمه لأطفالهم بوسائل غير طبيّة. لا توجد في العموم مشكلة أخلاقية في رغبتنا في أن يكبر أطفالُنا في ظروف جيدة، نحاول قدر الإمكان العيش في مناطق منظمّة وآمنة بعيدة عن الجرائم، وعند القدرة نرسلهم إلى مدارس الأغنياء التي تعطيهم تعليماً أفضل، دون أن نشعر بأننا نرتكبُ خطأً أخلاقياً، لكن الاستهجان يبدأ فقط حين ننتقل في الخيارات إلى المستوى الجيني.
زُرنا المركز الصحي، عابرين جسراً ميكانيكياً ضخماً يُفتحُ من وسطه نحو الأعلى مُشكِّلاً مبدأ طريقين عموديين إلى السماء، كان موعدُ تلقيحها بإبرتين للمناعة لحمايتها من أمراضٍ عديدة لا أعرفها. ممرضةٌ، بوجهٍ دقيق الملامح يُشبه وجه القِطط المرسومة على ألواح الشوكولا، حددتْ بسبّابتها نقطة الحقنِ، تاركةً على الفخذِ ما يشبه أثر أصبعٍ في العجين. حقنتْ الإبرة الأولى في جسدٍ لم يعرف ألماً مشابهاً من قبل؛ كُلُّ ما عرفته من آلام صغيرة قبل الإبرة كان يأتي من الداخل، من جسدها نفسه بطريقة أو بأخرى، آلامها السابقةُ مغصٌ في البطن أو حَرقةٌ خفيفة بسبب جرحٍ خرمشته بأظافرها على خدها أو بكاءٌ لأنها تشدُّ شعرها غير مُدركة للعلاقة بين شدِّ الشعر والآلم.. لكن الإبرة هذه أتتْ من الخارج، من العالم، من ممرضةٍ ينبغي أن تكون صديقةً ودودةً لها. صرختْ، مُدركةً أن العالم مؤلم، وأنّ البكاء والتحديق في الوالدين بعيون دامعةً طلباً للنجدة لا يجدي، الألم أحياناً أكبر من الوالدين وأقوى منهم.. ظلّت تبكي وتحدق، ثم حين هدأتْ بعد دقائق حقنتها الممرضة بالأبرةِ الثانية في الفخذ الثاني، بكتْ وبكينا وبكتْ بواباتُ المركز الصحي وبكتْ الأشجار بجانب المركز وبكى النهر والنوارسُ على النهر والجسرُ.. شكرنا الممرضة، وخرجنا نهتفُ لتحسين الجينات..
* * * * *
الصيفُ في آخره، ظلالُ أيلول غطّتْ المرآة المدوّرة في الممر. الصيفُ في آخره ومغلوبٌ أنا مثلكِ، لا تاجَ عندي ولا قصر ولا عرش ولا إيوان..
راقبتكِ وأنتِ نائمة، وديعة مُبتسمة في النوم، ثم استيقظتِ وديعة، وحدكِ صامتة في غرفة شبه مُعتمة تُلاعبين أقدامك وتتأملين حركة الظلال على السقف.
أحكي لكِ بأربع لغات ذكرياتٍ غريبة، عن السنديان شَجرِ الحكايات، وعن أنَّ عالِقاً رقيقاً تحت الحِصار أخبرني أنّه قبل أن ينام أطفأ منبّه الصباح، خافَ إن مات أن ينزعج الجيران من الرنين.
نتصلُ بأمي، تخافُ من عيونها إذ تنظرُ في الهاتف إليك، ثم تسردُ لنا وصفةً لإعداد الكعك وتكررُ أن الأطفال يتعلمون الرقص قبل المشي، إحساسٌ دافئٌ بالقُرب يخيمُ علينا أثناء المكالمةِ يليه فراغٌ فسيحٌ مُفرطٌ في قسوته.. ولأن الحكايات تجرُّ الحكايات نتصلُ مع الأهل البعيدين، نقول لهم مازحين أننا سنرسلكِ إلى البلد حين تصبحين في الرابعة من عمرك، لتتعرفي على العائلة ولتتعلمي اللغة والعادات. قريبةٌ بقيتْ هُناك تدندنُ لكِ أغنيةً عن طفلةٍ وجهُها مُدوّرٌ مثل رغيف الخبز، تظلُّ تركضُ طوال النهار، لابسةً ثوباً مُخاطاً بإبرة من ذهب فيه سبعة ألوان من لم يرّه مَحرومٌ من العيدين. تركضُ ثم تغفو أول السهرة فيحملها الأهل نائمةً إلى البيت..
* * * * *
نسمةٌ باردةٌ في باحةِ منزلٍ فسيح رُصِفتْ فوقَ سُورهِ قِطعٌ من زجاجٍ مُكسّر، شجرةُ توتٍ وسط الباحة، وطنجرةُ ضغطٍ تُصفّرُ في الصباح لإعداد شوربة العدس.
الجَدّةُ هُناك، جيوبها ملأى بالسكاكر، تناديني «خروفي» وتمسحُ بكفّها الخشن على ظهري. العمّاتُ طالعنَ صُحُفاً حمراء أول النهار، نَصَبنَ تحت الشجرة مراجيحَ للأطفال، ثم خبزن خبزاً أسمرَ وتركن للعابرين رغيفاً ساخناً عند الباب.. اسمُ المكان عامودا، بعيدٌ ثلاثين عاماً، والفصلُ خريف.. تكبُر زينِه، لن تزور البلد ولن تعرف قراءة ما أكتب، ولا أدري، ليس في الأمر ما يستحق الذكر.