وكأننا تفاجأنا عندما قرأنا مقال زياد عدوان في هذا الملف، حين يعتبر أن الفُرجة على المسلسلات نمطُ عيشٍ سوري، ونمطُ تعاملٍ مع الشأن العام، وأن الشعب السوري هو شعب المسلسل بامتياز، ويتفرج على حياته كمسلسل؟ نعم، الأمر بهذه البساطة. المسلسل مهمّ في حياتنا لهذا السبب، لأنه نَظَمَ شروط الفُرجة لدينا، ولأنه المنتج الثقافي «الفُرجي» الأهم، شئنا أم أبينا، مقارنةً بالكمّ الذي يُنتَجُ سينمائياً ومسرحياً، ولكن لأنه كذلك محفظة ذاكرة جمعية يتقاسمها السوريون، من بين أشياء قليلة يتقاسمونها، عندما يربطون أحداثاً ومنعطفاتٍ تاريخية بمسلسلاتٍ بعينها.
بعض الممثلين يمثلون نموذجاً لهوية سورية ما، مذكّرة أو مؤنّثة في الذاكرة الجمعية (خالد تاجا، منى واصف، عبد الرحمن آل الرشي، سمر سامي، إن لم نذكر غيرهم)، أو حتى يمثّلون عصراً ما، ونهتمّ (أو كنّا نهتم) بآرائهم ومواقفهم من الشأن العام. بعض المسلسلات شكّلت وعياً وعلامةً فارقةً في الوجدان (صحّ النوم، أسعد الورّاق، هجرة القلوب إلى القلوب، أحلام كبيرة، ثلاثية الأندلس، التغريبة الفلسطينية). كان المسلسل كذلك مُستشعِراً يستخدمه السوريون لفحص هوامش الرقابة أو الجرأة في الطرح، أو كوامن المتغيرات السياسية، أو «الإسقاطات» على الواقع كما كان يحلوا لهم أن يقولوا.
بعض المهاجرين السوريين يعتبرون المسلسلات في هيكل اليوتيوب مَزارَاً، يستعيدون من خلاله مشاهد من مدنهم في تمرين عنيد لإبقاء الأمكنة راسخة في الذاكرة. بعضهم يفتقدون طقوساً اجتماعية كفنجان القهوة، فيسترجعونها عبر زيارة المسلسلات في يوتيوب، ويتنافسون في التعليقات بعدد مرات تكرار مشاهدتها، بما هو أقرب إلى الحنين منه إلى الاهتمام بمحتوى المسلسل. البعض يحاول نسيان ما حلّ بسوريا في العشرية الأخيرة، فيُشاهد مسلسلات مما قبل 2011 وكأنها ذكرى بابلية آبدة.
هناك كثيرٌ من الزوايا التي كان من الممكن تناول المسلسلات السورية من منظورها. في البداية أحببنا أن نتكلم على المسلسلات المرتبطة بمنعطفات تاريخية في سوريا المعاصرة، مسلسلات مرتبطة بحرب أو نقلة أو تغيير، مسلسلات أيقونية إن صحّ التعبير. في النهاية، رأينا أن مُساهمينا لديهم الكثير ليقولوه عن المسلسل كمرآة لخطابٍ عن الوطن والمواطنة، وعن سردية تشكّل الوطن السوري ومكوناته المتنوعة عبر التاريخ الحديث (كما في مقال عمر الغزي)، أو التاريخ الأبعد (كما في مقال وائل سالم)، وتفاعله مع الثورة السورية (مقال نيكولا أبلت ومقال نائلة منصور)، أو حتى تحليل الموارد البشرية في إنتاج المسلسل نفسه مثل كتّابه وصنّاعه (كما في مقال هبة محرز)، فتركنا لكل مساهم حريته في التناول دون التقيد بفكرة ناظمة. ونعتقد أن المسلسلات تستحق اهتماماً متزايداً في دراسات الاجتماع السوري، ومَلفُّنا دعوةٌ إلى ذلك.
اليوم، ربما يكون من الصعب مشاهدة المسلسلات السورية المعاصرة الجديدة، التي أصبحت في أغلبها منسلخةً عن واقعنا؛ قصصها بعيدة عمّا أصبحنا عليه، ووجوه كثيرٍ من ممثليها تحمل خذلانهم لنا. وربما يكون الأصعب هو إعادة بناء الجسور مع المسلسل السوري دون رؤية كل ماهو خارج كادر الكاميرا، وذلك مهما كانت اللقطة نظيفة، إلا أن المسلسل السوري كان دوماً، ولدى أجيال كثيرة من السوريات والسوريين، أحد المواضيع اليومية التي يمكن الحديث عنها، وكان حضور حلقاته طقساً يصنع العديد من مَساءَاتنا.