تعاني سارة.ز في كافة تفاصيل حياتها اليومية في تركيا. أصيبت حياتها بالشلل فعلياً بعد أن قررت موظفة دائرة الهجرة تمزيق بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) التي تحملها، بحجة أنها ذهبت إلى سوريا في 2015، وذلك رغم ذهابها وعودتها بإذن من الوالي حينها. منذ ذلك الحين تمشي سارة بقلق في الشارع وهي تمسك يد ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات، خوفاً من تدقيق الشرطة. لا تستطيع تعديل وضعها القانوني بسبب انغلاق كافة الأبواب في وجهها. أدى فقدانها الكيملك إلى خسارتها عملَها ودراستَها، وجعْل المستقبل أمام عينيها في غاية الغموض.
أما علي دياب فيتحاشى المرور قرب حواجز الشرطة، ذلك أنه يحمل بطاقة كيملك من عنتاب، ويقيم في اسطنبول بموجب عمله كطبيب أسنان. لم يستطع نقل قيوده إلى حيث يقيم، فبعد أن كان الموضوع روتينياً في السابق أصبح أصعب بعد ذلك. الآن يتطلب اجراء أية معاملة الذهاب إلى عنتاب التي تقع على بعد 1500 كم، دون أن يتمكن من العودة إلى حيث يقيم، بسبب صعوبة الحصول على إذن سفر، فضلاً عن أن إذن السفر هذا مؤقت ويدوم 15 يوماً على أبعد تقدير.
من جهته، جرّب نور كافة الوسائل لاستصدار كيملك من اسطنبول دون جدوى. واضطر في بعض الأحيان إلى اللجوء للسماسرة الذين أشاروا إلى إمكانية استخراج كيملك من بورصة مقابل دفع مبلغ مالي لا يستطيع تأمينه، قائلين إنه مضطر للقدوم كل أسبوع لتوقيعه من بورصة وإثبات وجوده، رغم أنه بورصة تبعد عشرات الكيلومترات من حيث يقيم، وستكلّفه هذه الرحلة الدورية وقتاً طويلاً يمنعه من الحصول على عمل، ذلك أنه يعمل لحوالي 12 ساعة يومياً، ويتقاضى ما لا يستطيع إنفاق جزء كبير منه على 4 رحلات في الشهر إلى بورصة.
هذه نماذج مختلفة لسوريين، من بين مئات الآلاف، يعيشون في ظروف مقلقة في تركيا، بسبب صعوبة الحصول على وثائق قانونية تُشَرعِن إقاماتهم. وهذه مادة تحاول الإحاطة بأشكال الإقامات القانونية التي يستطيع بموجبها السوري البقاء في تركيا، وتسلّط – قدر المستطاع – الضوء على إيجابيات وسلبيات كل منها.
لمحة عامة
اضطر ملايين السوريين إلى الخروج من سوريا خلال الأعوام الماضية واختيار بلدان بديلة للعيش فيها وبناء حياتهم من جديد. كثيرون عبروا البحار واجتازوا الأسلاك الشائكة، ومشَوا طويلاً في الغابات للوصول إلى وِجهتهم الأوروبية الأخيرة. كثيرون أيضاً قضَوا على الطرقات، برصاص القناصة أو غرقاً في البحار، أملاً بالعيش في مكان لا يهدّد حياتهم بشكل مباشر، ويؤمّن لأطفالهم مستقبلاً خالياً من المعسكرات والبراميل والقتل تحت التعذيب والاختفاء القسري.
العدد الأكبر من السوريين، أي ما يقارب 3.5 مليون سوري، انتهى بهم المطاف في تركيا، حيث يعيشون اليوم، بعد أن أُغلقت الحدود في وجه القادمين والخارجين، وأُقفلت منافذ التهريب، إثر زخم في الحركة شهدته هذه المنافذ في حتى عام 2015.
إغلاق الحدود والتشديد على منافذ التهريب جاء بموجب اتفاق أوروبي-تركي عام 2015، يقضي بوقف عبور اللاجئين من تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، واستقبال تركيا كل لاجئ وصل منذ 20 آذار 2016 إلى اليونان، مقابل التزام الاتحاد الأروربي باستقبال لاجئ سوري شرعي بدلاً عن كل لاجئ يتم إعادته إلى تركيا وتمويل مساعدات للاجئين الذين يعيشون في تركيا.
وكان هذا الاتفاق إشارة للسوريين في تركيا، عَزَف معظمهم بعدها عن التفكير في السفر إلى أوروبا، حيث أصبحت المسألة معقدة، وازداد التشديد على الطرقات، وبدأت البلدان الأوروبية تواجه أزمات سياسية واضحة مِحوَرُها ملفُّ اللاجئين، الذين أصبحوا ورقة ضغط تستخدمها التيارات المتفرقة، ما ضيّق الهامش الذي تناور فيه التيارات المرحّبة باستقبالهم.
في تركيا، قد لا يكون الوضع مثالياً لملايين السوريين، حيث يخاف معظمهم من غموض المستقبل، وعدم وجود قوانين واضحة ومُلزِمة بشأن استقرارهم وحصولهم على الجنسية، كتلك التي تقدمها البلدان الأوروبية. وتهدد تركيا بين الحين والآخر بإلغاء اتفاقية وقف عبور اللاجئين، ودفع «آلاف اللاجئين إلى أوروبا» بعد كل خلاف مع دول الاتحاد، فيما تستخدم الأحزاب التركية المعارضة أيضاً هؤلاء اللاجئين، وتَزُجّهم في المعارك السياسية، داعيةً إلى إعادتهم لبلادهم، ما انعكس بشكل واضح على الشارع التركي، الذي بدأت أصوات المتذمرين فيه تعلو، دافعة السوريين للسعي حثيثاً لإيجاد صيغ قانونية لإقامتهم تُبعد عنهم كوابيس العودة إلى «حضن الوطن» الذي تسوده الفوضى وتحكمه الميليشيات، وتتقاسم خريطته الدول، ويسير بأهله إلى المجهول.
الكيملك.. خدمات مجانية وحركة محدود
تحمل الغالبية العظمى من السوريين الموجودين في تركيا بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) التي تقدمها الدولة التركية، وتضمن من خلالها تقديم خدمات معينة، كالطبابة المجانية والتعليم وتسيير الأمور الإدارية. لكن حاملي هذه البطاقة لا يضمنون الحصول على الجنسية التركية مع الأيام، مهما طالت المدة التي قضَوها، ولا يستطيعون التنقل بموجبها بين المدن التركية إلا بموجب إذن سفر من دائرة الهجرة في المدينة التي يعيشون فيها، وذلك شرط تقديم أسباب مقنعة لذلك. كما لا يستطيعون تبديلها إلى إقامات من نوع آخر إلا بعد مغادرة البلد والعودة إليه، وهذه العودة ليست مضمونة بسبب حاجتهم لتأشيرة لا تمنحها بسهولة السفارات التركية. أي إن هذه البطاقة تقدّم بعض الخدمات، ولكن حامليها مقيّدو الحركة داخل تركيا، ويعيشون تحت رحمة تغيّر القوانين والأمزجة.
بدأت تركيا بإصدار الكيملك من مراكز الشرطة، ثم اقتصر إصدارُها بعد ذلك على مديريات الهجرة في المدن التي يتواجد فيها السوريون. ولكن بعد الاتفاق التركي-الأوروبي وتعقّد المشهد السياسي والعسكري في الشمال، بدأت السلطات التركية بوقف إصدار هذه البطاقة في عدة مدن، أهمها اسطنبول وعنتاب ومدن أخرى يتواجد فيها السوريون بكثرة، ما أغلق الباب في وجه مئات الآلاف ممن لم يستصدروا هذه البطاقة في السابق، وأزال الغطاء القانوني عن وجودهم في تركيا، ووضعهم أمام شبح الترحيل القسري إلى سوريا، وعزّز مخاوفهم من الحواجز ودوريات الشرطة، التي تدقّق على الوثائق بكثافة خلال الفترة الأخيرة.
تزامناً مع ذلك، فرضت دوائر الهجرة على جميع السوريين حاملي هذه البطاقة تحديثَ بياناتهم في دوائر الهجرة في المدن التي يعيشون فيها. هذا التحديث يتضمن ذكر عنوان السكن والمهنة وتفاصيل أخرى، وقد يُسأل اللاجئ عن رأيه في التيارات السياسية في بلده، والمناطق التي يراها آمنة في سوريا.
وأفادت شناي أوزدن، الباحثة في شؤون الهجرة واللجوء، بأن السوريين المقيمين في الولايات التي توقفت عن عن إعطائهم الكيملك «يشعرون أن الأبواب تُغلق في وجوههم، وبعضهم يلجأ إلى مدن أخرى لاستصدار كيملك، ويعود إلى المدينة التي يقيم فيها، وفي هذه الحال فإن الشرطة إذا أوقفته تُعيده إلى المدينة التي صدر منها الكيملك، ما يعني أن حياته تتعطل كلياً نتيجة ذلك». وأضافت أن هذه الإجراءات الضاغطة، والتي تحرم الآلاف من الحلول القانونية لأوضاعهم، تشجع البعض إلى اللجوء للسوق السوداء بهدف إيجاد بدائل عن طريق دفع الأموال والرشاوي.
إذن السفر.. طوابير في الانتظار
يحتاج أي سوري يحمل بطاقة الحماية المؤقتة في تركيا إلى مراجعة دائرة الهجرة في مدينته للحصول على إذن سفر لوجهته المطلوبة. ويطلب موظفو الهجرة إثباتاً من السوريين يبرّر حاجتهم للسفر، كإجراء مقابلات في السفارات، أو حضور مؤتمرات، أو العمل أو العلاج. أي إن الإذن يُعطى لمن يحتاج، ولمن يقدم دليلاً على حاجته للسفر، ويزداد التدقيق على القادمين من مدن الجنوب التركي إلى اسطنبول. قد لا تكون الرغبة في السياحة سبباً كافياً للحصول على إذن السفر مثلاً، ولكن ليس هناك قاعدة ثابتة وعلى المرء أن يجرّب.
إذْن السفر هذا يصلُح لمدة 15 يوماً، ولا يستطيع السوري الحصول على أكثر من إذن سفر في الشهر الواحد، لذلك على الراغبين بالسفر مراجعة دوائر الهجرة للحصول على إذن قبل موعد السفر بيوم أو يومين لا أكثر، لعدم إضاعة أيام الإذن بطلبه قبل عدة أيام من موعد السفر.
الإقامة السياحية.. حركة أسهل في الداخل والخارج
تُعطى الإقامة السياحية في تركيا للأجانب القادمين إليها، شريطةَ أن يتقدموا للحصول عليها خلال فترة 3 أشهر من دخولهم إلى الأراضي التركية. إذا اجتاز الأجنبي هذه الفترة فعليه الخروج والدخول مرة أخرى للتقديم عليها. وحصل آلاف السوريين على هذه الإقامة فور وصولهم إلى تركيا. وكان بإمكان السوري إذا تجاوز فترة 3 شهور دون استصدار هذه الإقامة الخروج والعودة مجدداً إلى تركيا، وذلك قبل إغلاق الحدود وفرض تأشيرة على السوريين.
أغلب السوريين الحاصلين على الإقامة السياحية في تركيا خلال الأعوام الماضية كانوا من الطبقة المتوسطة، حيث يتطلب الحصول عليها وجود حساب بنك وعنوان سكن وتأمين صحي، وبتكلفة تصل إلى حوالي 200 دولار، وهو مبلغ قد لا يكون متوافراً لدى محدودي الدخل.
ورغم ازدياد صعوبة الحصول عليها، يحاول كثيرون ممن يحملون بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) الآن إلغاءها والحصول على إقامة سياحية، لكي يتمكنوا من التحرك أكثر داخل وخارج تركيا.
ولكن رغم مزايا هذه الإقامة، هناك مشكلة قد يواجهها السوري الذي يحملها، قد تؤدي إلى فقدانها وبقائه دون إقامة إطلاقاً. المشكلة هذه واجهها عدة أشخاص، وهي أن الإقامة السياحية تُعطى للشخص بحسب مدة صلاحية جواز سفره. فإذا كان جواز السفر صالحاً لشهرين تُعطى الإقامة لشهرين. وبالتالي يجب على حامل هذه الإقامة أن يحرص بشدة على أن يكون جوازه سارياً، وأن ينتهي من تجديده قبل موعد تجديد الإقامة. فإذا تأخر تجديد الجواز في القنصلية السورية وانتهت الإقامة قبل إتمام إجراءات تجديده، فإن حامل الإقامة قد يفقدها ببساطة، وقد يبقى دون صيغة قانونية. لذلك يتوجب على حامل هذه الإقامة البدء بإجراءات تجديد الجواز دائماً في وقت مبكر، ربما قبل 6 أشهر من انتهائه، حرصاً على تلافي الوقوع في هذه المشكلة.
تحويل الكيملك إلى إقامة سياحية.. ضربة حظ
وفقاً للقانون التركي، لا يستطيع حاملو الكيملك (الذين تجاوز معظمهم مدة 3 شهور منذ دخولهم إلى تركيا) استصدار إقامة سياحية إلا بعد الخروج من تركيا والدخول مجدداً، وتقديم طلب الإقامة خلال 3 أشهر من دخولهم. الخروج من تركيا قد يكون سهلاً بعد إبطال الكيملك، لكن العودة قد لا تكون مضمونة، لأنها مشروطة بالحصول على تأشيرة زيارة من سفارات تركيا في الخارج، وهذه التأشيرة لا تُعطى بسهولة في غالب الأحيان.
وأفاد حسام أورفلي، مؤسس شركة أورفلي للاستشارات القانونية، في حديث للجمهورية، أن السائد هو عدم استطاعة حاملي بطاقة الكيملك على تحويلها إلى إقامة سياحية. ولكنه قال إن هناك عدة حالات حصلت مؤخراً تمكن فيها حاملو بطاقة الحماية المؤقتة من تبديلها إلى إقامة سياحية. ليس هناك قانون واضح وحاسم بخصوص ذلك، يضيف أورفلي.
إقامة العمل.. إذن العمل
أوضح أورفلي أن إقامة العمل تعطى للأجنبي المقيم على الأراضي التركية، شريطةَ أن يكون حاملاً للإقامة السياحية. يجب على طالب هذه الإقامة العمل في شركة مرخصة في تركيا، ودفع ضرائب شهرية، مقابل مزايا يحصل عليها، كالتأمين الصحي وإمكانية التنقل بحرية، إضافة إلى إمكانية الحصول على الجنسية التركية بعد مرور خمس سنوات من استصدارها، في حال استطاع اجتياز المراحل السبع في إجراءات الحصول على الجنسية.
«إذن العمل لا يختلف كثيراً عن إقامة العمل»، بحسب أورفلي، إذ إنه يُعطى للسوريين حاملي بطاقة الحماية المؤقتة والذين يعملون في شركات مرخصة في تركيا. يمكن لحامل إذن العمل التنقل داخل الأراضي التركية فقط (دون الخروج من تركيا والعودة إليها)، وقد يرشح حامله السوري للحصول على الجنسية، بعد مرور 5 سنوات على استصداره.
إقامة الطالب
عدا عن إقامة العمل والإقامة السياحية، يفضّل كثيرون الحصول على إقامة الطالب، بعد التسجيل بإحدى الجامعات التركية، وهذه الإقامة تزيد من فرص الترشح للجنسية.
وقال أورفلي إن إقامة الطالب أصبحت اليوم بيد الجامعات، وهي المخولة بالتواصل مع إدارة الهجرة للموافقة على استصدار الإقامة. ويجب على الطالب أن يدرس بشكل رسمي في الجامعة حتى يتمكن من الحصول على الإقامة، وألا يكون ذلك إجراءً شكلياً فقط، حيث يظن كثيرون أن التسجيل الوهمي في أي جامعة يمكّن صاحبه من الحصول على إقامة الطالب، إلا أن ذلك ليس صحيحاً.
الجنسية الاستثنائية
الجنسية التركية في الأحوال العادية تُعطى ضمن شروط معينة، كوجود إقامة عمل سارية لمدة 5 سنوات، أو الزواج من مواطن/ة تركي/ة، أو للمستثمرين. هناك الجنسية الاستثنائية التي لها شروطها الخاصة أيضاً، والتي مُنحت لآلاف السوريين في الفترة الأخيرة.
بدأت تركيا بتقديم الجنسية الاستثنائية لآلاف السوريين، من خلال التركيز على أصحاب الشهادات ورجال الأعمال أو الطلاب. هذه العملية تبدأ عند تحديث بيانات الكيملك، فمن يقدم شهادته الجامعية أو إقامته الدراسية تزداد فرصته للترشح للجنسية.
ويتزاحم مئات السوريين على أبواب دوائر الهجرة يومياً للسؤال عمّا إذا كانت أسماؤهم مرشحة للجنسية. حيث تم ترشيح كثيرين رغم عدم وجود شهادة جامعية أو إقامة طالب. وتشير المصادر إلى أن أكثر من 60 ألف سوري حصلوا على الجنسية التركية، من أصل 3.5 مليون، فيما تستمر عملية الترشيح وتسعى الحكومة التركية لتجنيس ما يقارب 300 ألف، بحسب مسؤولين.
وتشمل إجراءات الحصول على الجنسية التركية المرور بسبع مراحل، تبدأ بتقديم الأوراق؛ مررواً بمرحلة التحرّي الأمني، وهي الأصعب، إذ ما زال الآلاف عالقين فيها، خصوصاً العاملين في المنظمات الأجنبية؛ وانتهاءً بالمراحل الروتينية اللاحقة.
تأشيرة الزيارة.. آمال السوريين برؤية ذويهم
بعد فرض التأشيرة على السوريين الراغبين في دخول الأراضي التركية من بلدان أخرى مطلع عام 2016، بدأت الأمور تصعُب وتتعقّد على السوريين المقيمين في تركيا وخارجها.
وتُعطى تأشيرة الزيارة من السفارات التركية في الخارج، في البلد التي يُقيم فيها صاحب الطلب. وأصبحت هذه التأشيرة بعد فرضها جداراً يحول بين أفراد العائلات السورية المقيمين في الخارج، الراغبين بزيارة أهلهم في تركيا، حيث رُفضت طلبات كثيرين ما زالوا يكررون محاولاتهم بهدف الحصول على تأشيرة.
وصعّبت هذه التأشيرة على السوريين المخالفين استصدار الإقامة السياحية بعد الخروج لبلد آخر والعودة إلى تركيا، حيث يفضّلون البقاء دون إقامة قانونية على المغامرة بالخروج والعودة غير المضمونة في الغالب. يضاف أن السوري يحتار فعلاً حتى لو كان بإمكانه الخروج والعودة دون تأشيرة، لأن البلدان التي كان يستطيع الدخول إليها قبل الآن لإجراء هذه الخطوة، كلبنان والسودان ومصر، أغلقت الأبواب في وجهه وفرضت هي الأخرى تأشيرات دخول.
السماسرة.. مئات الدولارات تختفي بلمح البصر
مع ازدياد تعقيد المعاملات التي يحتاج السوريون لإجرائها، يلجأ كثير منهم إلى الاستعانة بالسماسرة للحصول على استثناءات وتيسير المعاملات الصعبة، مقابل دفع مبالغ مالية طائلة قد تصل لآلاف الدولارات.
يخرج هؤلاء السماسرة حين يحتار السوري في أمر ما. يضع اسم المعاملة التي يريد على محرك البحث فيجد مئات الأسماء والأرقام، لأشخاص يدّعون القدرة على حل المشاكل: استصدار إقامات، حجز مواعيد، نقل بعربات خاصة بين المدن والولايات، تأمين الوثائق وتصديقها… قد تصل المبالغ التي يطلبها هؤلاء السماسرة أحياناً إلى ما قد يعادل متوسط دخل اللاجئ السوري لمدة عام كامل، كما أنهم يطلبون المبالغ بالدولار.
من يريد تجديد الجواز مثلاً، عليه أن يدفع مبلغ 300 دولار لأحد السماسرة حتى يتمكن حجز موعد فقط في السفارة، التي سيدفع فيها حوالي 300 إلى 500 دولار إضافية كرسوم لتجديد الجواز.
ورغم هذه المبالغ الكبيرة التي يحصّلها النظام السوري من تجديد الجوازات، والتي تعتبر مصدر دخل وتمويل لا يُستهان به بالنسبة له، إلا أن قليلاً من السوريين المعارضين يختارون الإحجام عن تجديد هذه الوثيقة والبقاء دونها، لأنها قد تكون ضرورية ومصيرية في حال قرّروا السفر إلى مكان ما.
ولم تقدم هيئات المعارضة السياسية بديلاً معترفاً به لهذا الجواز، بل على العكس، عوملت الجوازات التي جددها أصحابها عن طريق الائتلاف في السابق على أنها وثائق مزورة، الأمر الذي ضيّق الخناق على حامليها بدل المساهمة في حل مشاكلهم. معظم دول العالم تعترف بالجوازات الصادرة عن النظام ولا تعترف بتلك التي تصدرها المعارضة. السوري المعارض يجد نفسه في ورطة حقيقة هنا، وهو مضطر لمقايضة مصيره بمبادئه.
جواز السفر السوري فعلياً هو الأغلى في العالم من حيث رسوم التجديد، ورابع أسوأ جواز من حيث الدول التي يُسمح لحامله بالدخول إليها. يجدد السوريون – الذين يعمل معظمهم لساعات طويلة مقابل أجور منخفضة – جوازات سفرهم، خشية حصول طارئ في يوم ما واحتياجهم هذا الجواز. وهم يدفعون ما قد يساوي رواتبهم الصافية لشهور عدة، كل عامين، أملاً بالحصول على تأشيرة ما في يوم من الأيام إلى أي مكان. هي عملية شراء أمل قد تحمله الأيام بين طياتها، كـ«شراء السمك في الماء».
التشديد الأمني وشبح الترحيل
بدأت السلطات التركية بنشر حواجزها ودورياتها بشكل مكثف في شوارع المدن التركية، وخاصة في المناطق التي يتواجد فيها السوريون بكثرة، سائلةً المارّة والعابرين عن وثائقهم، ومتخذةً إجراءات بحق من لا يملك إقامة قانونية في تركيا.
ورصدت وسائل إعلامية حدوث عدة حالات ترحيل إلى الداخل السوري بحق عشرات السوريين الذين لا يملكون الكيملك أو أي إقامة أخرى في تركيا، مقابل احتجاز من يملك كيملك صادرة من مدينة غير التي يتواجد فيها ما لم يمتلك إذن سفر، وإعادته لاحقاً إلى المدينة التي صدرت منها الكيملك.
آلاف السوريين الذين لم يتمكنوا من استصدار الكيملك والداخلين عن طريق التهريب إلى تركيا يعيشون حالة من الخوف والقلق من احتمال ترحيلهم إذا أوقفتهم دوريات الشرطة.
إضافة إلى ذلك، حصلت عدة حوادث أمنية في المناطق التي يتواجد فيها السوريون، كمنطقة أسنيورت في اسطنبول ومناطق أخرى في أورفة وعنتاب، دارت فيها مواجهات بين سوريين وأتراك وانتهت بترحيل عشرات السوريين واعتقال مواطنين أتراك بتهمة «التحريض»، فيما قالت مصادر إن عدداً من السوريين تم ترحيلهم «بسبب ارتكاب مخالفات بسيطة».
وقالت شناي أوزدن إنه لا قرار رسمياً بترحيل السوريين، لكن تم رصد عدة حالات فردية من الترحيل لأشخاص لا يحملون وثائق ثبوتية، وهناك دائماً الحديث عن ما يسمى بـ«العودة الطوعية»، التي من الصعب تحديد مدى طوعيتها في جميع الحالات. ولا تتوقع أوزدن حدوث حالات ترحيل جماعية في المدى المنظور.
وتضيف أن حالات الترحيل عموماً مرتبطة بشكل وثيق بالسياسة الدولية والأوروبية حيال المهاجرين واللاجئين السوريين. لقد دعم الاتحاد الأوروبي المديرية العامة لإدارة الهجرة في تركيا في رفع معدلات إعادة اللاجئين أو المهاجرين «غير الشرعيين» بشكل «طوعي» إلى بلادهم ليصل إلى 3,500، وهذا الرقم لا ينحصر بالسوريين فقط، وإنما يشمل المهاجرين من كافة الجنسيات. لافتة إلى أن الترحيل هو عمل غير قانوني، وما لم يكن ثمة «سلام» في سوريا، لا أحد يستطيع ترحيل السوريين بشكل جماعي.
أعتقد أن تركيا تزيد من الضغوط على السوريين الموجودين على أراضيها حتى يقرروا هم بأنفسهم اتخاذ قرار العودة، تقول شناي أوزدن، مضيفة أن تركيا «لا تزال تستلم مبالغ مالية من الاتحاد الأوروبي لدعم اللاجئين بحسب الاتفاق المبرم بين الطرفين، وهذا يعني أنها لن تتخذ إجراءات ترحيل جماعية في المدى القصير طالما أن هذه النقود تتدفق إليها. ما أتوقعه شخصياً على المدى الطويل أن السوريين في تركيا لن يظلوا على الحال ذاته مستقبلاً، أي ضمن نطاق الحماية المؤقتة، فهذا سيتغير لاحقاً. أظن أن مزيداً من السوريين سيحصلون على الجنسية، لكن لن يكون ذلك لأربعة ملايين سوري بطبيعة الحال».
تعقيب
لم يخرج ملايين السوريين من بلادهم للسياحة والاستمتاع بالمناظر الخلابة في البلدان التي وصلوا إليها مكدّمين. لقد تركوا خلفهم مدناً محطمة، وطائرات متعددة الجنسيات تهوي على حاراتهم بالقنابل الثقيلة، وشباناً يذهبون إلى المحرقة، وأطفالاً يهذون في المنامات، وأمهات ترفع رايات الحداد والدمع المُرّ، ومستقبلاً مرفوعاً على فوهات البنادق، وخرائط تتقاسمها الدول بالمدافع والميليشات بالسكاكين.
كل ما يفعله السوري اليوم في بلاد المهجر والمنفى يهدف إلى عدم العودة إلى بلاده. يحاول تأمين الأرض التي بإمكانه الوقوف عليها برسوخ. يسعى لتعليم أولاده وتأمين مستقبلهم. لقد رأى كثيراً من الأهوال ولا يريد لقمةً من فم أحد. خرج عُنوةً من حارته ومدينته باتفاقات دولية. ومن حقه أن يكون مواطناً حيث حلّ بماله وعياله مجبراً. لا يمكن لأحد أن يمُنّ عليه بما يعطيه، وهو على أية حال ليس جحوداً حتى لو كان يحصل على حقه.