مكان للإقامة فقط، لا يُسكّن
عنوانُ هذا العدد، اسطنبول التي لنا- عنوان مؤقت، كان عنوانَ الإيميل الذي أرسلناه إلى مجموعة من الكاتبات والكتّاب الذين تجمعهم علاقة، مستمرة أو منتهية، مع اسطنبول. ولم يكن ناتجاً عن تفكيرٍ مطوّل، بل عن حاجة لكتابة عنوانٍ ما للعدد لمراسلة الكاتبات والكتّاب بتصوّر مبدئي عن فكرته، مع توضيح أن «اسطنبول التي لنا» عنوانٌ مؤقّت للعدد وسيتم تغييره قبل النشر. لكن تفكيراً لاحقاً أدى بنا لتقرير أن العنوان المؤقت يمكن له أن يصير دائماً، مثل سيرة حياة الكثيرين منا. وهو، مع اللاحقة التوضيحية، هو أكثر التعابير مباشرةً عن مجموع المعايشات والتناقضات، وخليط المشاعر والهواجس، التي تقدّمها نصوص العدد مجتمعة.
وقد قلنا «اسطنبول التي لنا» بدل «اسطنبولنا» لأن الثانية تبدو وكأنها مُزاحمةٌ لآخرين على اسطنبول واحدة، فيما في الأولى إحساس بأن هناك اسطنبول لنا، وإن ضمن اسطنبولات كثيرة ومتنوعة لآخرين كثر ومتنوّعين، أتراك وسوريين و«أجانب» -في الحديث السوري الدارج، «الأجانب» في تركيا هم الآخرون-. أما من نحنُ فهو السؤال الصعب والجميل في آنٍ معاً: نحن سوريون، من ضمن مئات كثيرة من آلاف السوريين الذين وصلوا إلى اسطنبول مُهجّرين من مدنهم وبلداتهم، وجعلوا اسطنبول، رسمياً، أكبر «مدينة سورية» خارج سوريّة، فيها من السوريين أكثر مما تحوي غالبية مراكز المحافظات السوريّة؛ ثمة اسطنبولات سوريّة كثيرة ضمن «اسطنبول السورية»، إذ تحوي اسطنبول تنوّعاً وهوامش وأنماط عيش وأشكال علاقة مع المدينة وتفاصيلها وزواياها أعقد بكثير من مخيال المطعم السوري والسوق السوري والأحياء ذات الكثافة السورية، والحياة الأُسرية للعائلات السورية اللاجئة.
لا ترصد مواد العدد كلّ هذا التنوّع بطبيعة الحال، لكنها تسعى للإضاءة على معايشات انفتحت على هوامش ومساحات غير مطروقة عادةً عند الحديث عن «اسطنبول السوريّة».
من جهة أخرى، سيجد قارئ العدد أن الطابع المؤقت لاسطنبول كعنوانٍ لكثير من السوريين موجودٌ في الصوت الخلفي لغالبية نصوصه. في سنين التواجد السوري الكثيف في اسطنبول تغيّرت سوريا، وتغيّر السوريون، وتغيّرت تركيا، وتغيّرت اسطنبول أيضاً. وسط عجلة التبدّلات الرهيبة السرعة رحل كثيرون منّا، بدءاً من مراحل البحث عن فرص استقرار أفضل دفعت كثراً للانتقال إلى أوروبا؛ ورحل مطار أتاتورك الذي استقبلنا وودّعنا، وأيضاً سَجَنَ بعضاً منّا. ثم وصلت الحملة الأمنية الأخيرة ضد اللاجئين السوريين من غير حاملي «الكيملك» الاسطنبولي، والتي أيقظت في الأذهان رعب حصارات ماضية. وأيضاً بقي كثيرون، إلى حين، ربما يقصر أو يطول، أو ربما يتحوّل استقراراً مديداً. لا نعلم. «عنوان مؤقت»، كما سبق القول.
بيننا، نحن أهل إحدى الاسطنبولات، وبين «اسطنبول الواحدة» زعلٌ كبير الآن، زعلٌ لن يُحلّ قريباً على ما يبدو. لذلك، نرى أن تقديم صورةٍ مركبة عن اسطنبولات كثيرة هو وسيلتنا للدفاع عن أنفسنا في وجه مُزاحمينا من توحيديي اسطنبول، وهو أيضاً تحيّة لشركاء لنا في المُركّب الاسطنبولي، من سوريين وأتراك و«أجانب».
رسوم وتصميم فني: ياسمين فنري.
مجلة الجمهورية الأسبوعية