يعتبر ظهور المجتمع المدني، بمنظماته ومجموعاته الكثيرة بعد الثورة السورية، ظاهرة جديدة بالمقارنة مع واقع ما قبل عام 2011. فمنذ صدور قانون الجمعيات رقم 93 الصادر في عام  1958، وما تلاه من تعديل للقانون بالمرسوم التشريعي رقم 224 في عام 1969، والذي يزيد من رقابة الدولة على الجمعيات ويقتضي موافقات الجهات الأمنية على تأسيس أي جمعية، غابَ المجتمع المدني عن الساحة واقتصرت الجمعيات المسجلة على جميعات خيرية وكثير منها كان ذا طابعٍ ديني. وفي حالات قليلة أخرى في تسعينيات القرن الماضي، ومن ثم ما بعد ربيع دمشق، ظهرت منظمات حقوقية (غير مرخصة) تعرّض مؤسسوها والفاعلون فيها للتضييق الأمني، ما حدّ من قدرتها على الاستمرار أو تحقيق تغيير في القضايا التي نشأت أو نشطت لأجلها.

يرى الكثيرون أن المجتمع المدني الذي ظهر بعد بداية الثورة هو استمراريةٌ للحراك الثوري، حيث تحولت العديد من التنسيقيات الى منظمات مدنية، أو توجّه الكثير من الناشطين والناشطات نحو تأسيس منظمات مدنية أو الانخراط في منظمات موجودة؛ وقد غلب على المجتمع المدني في بداياته طابع النشاط ذي الطابع التحرري الحامل لقيم الثورة.إزاء ذلك،  نواجه اليوم سؤالاً محورياً في هذا المجال: هل ما زال المجتمع المدني، بعد تسع سنواتٍ من نشوئه، قابلاً للتعريف ضمن هذا الإطار؟

يختلف المجتمع المدني الناشئ نتيجة حراك شعبي أو في ظل النزاعات عن غيره، فبينما تؤثّر البيئة المستقرة على هوية وطبيعة الأخير، تفرض البيئة الشديدة التغيّر، سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً -والتي يغلب عليها طابع عدم الاستقرار والتخبط أحيانا- ظروفها على الأول، وتساهم في تشكّله وتطوّره وتفاعله مع قضايا الشأن العام بطرق مختلفة. ولا يغيب عن المجتمع المدني الناشئ نتيجة حراك شعبي أو في ظلّ نزاعات، أيضاً، تأثره بعوامل كثيرة مشابهة للًعوامل التي تؤثر على بيئات النزاع، بما فيها مصادر التمويل والدعم وأجندات أطراف النزاع أو الداعمين لهم. فعادةً ما يعتمد المجتمع المدني في هذه البيئات بشكل كامل على الدعم الخارجي، إذ تغيب أشكال الدعم المحلية أو الوطنية في ظل غياب الدولة، وخاصةً حين تكون هذه الدولة المُسبّب الرئيسي لهذا الواقع. يختصر البعض تجربة المجتمع المدني السوري باعتباره ينهج نهجاً قائماً على الاستجابة الطارئة، «السريعة»، المرتبطة بالمتغيرات على الساحة السياسية. ويحصل أن  تُعمّم هذه النظرة ليس فقط على المجتمع المدني القائم بأعمال الخدمات والإغاثة -وهذا واقعه بطبيعة الحال-، وإنما أيضاً على ذلك الذي يقوم على نهج الحقوق وتغيير الخطاب.

خاض المجتمع المدني السوري منذ 2011 حروباً كثيرة، وواجه تحدياتٍ جمّة، واضطر فاعلون وفاعلات في هذا المجال في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرارتٍ أخلاقية وقيمية لم تكن سهلةً على الإطلاق. ولا نعمّم هنا بهذا القول، فالحقيقة أن البعض اختار عدم خوض النقاشات القيمية، ووضعَ نفسه على الحياد، مأخوذاً بخطابْ تنامى بقوّة ضمن هذا الوسط بعد عام 2015 وبدفع من الممولين، حول ضرورة أن يكون المجتمع المدني على الحياد. وكثيراً ما ظهرت هذه المواقف في الملفات الشائكة؛ كالعقوبات الاقتصادية وإعادة الإعمار.

وبينما يخوض المجتمع المدني بفاعليه هذه الحروب، يظهر القليل منها لمن هم خارج هذا المجال، ويتعرّف الجمهور الأعم فقط على جزئيات هذه القضايا، التي غالباً ما تكون مُوجهةً نحو اتخاذ مواقف محصورة بثنائية «داعم» و«معادي». لقد جاءت فكرة ملف مقاربات عن المجتمع المدني السوري نتيجة نقاشٍ بين منظمة بدائل والجمهورية حول الحاجة إلى نقل بعضٍ من التجارب والأحاديث المحكية المتداولة ضمن الفاعلين بهذا الشأن، وداخل دوائرهم، إلى حيّزٍ يتسنّى فيه للجمهور العام الاطلاع عليها. ولا يعود ذلك فقط لنازعٍ ديمقراطي يسعى وراء أكبر قدر من العلنية والشفافية، بل أيضاً لإحساسنا بخطورة جمودٍ نراه قائماً في نقاشات المجال العام: وسط ظروف خساراتنا، نجد شعوراً منتشراً لدى الفاعلين في الشأن العام -والمنخرطون فيه من بوابة المجتمع المدني ضمنهم- يتهيّب عمومية النقاشات، خاصةً على وسائل التواصل الاجتماعي، لإحساسهم بسهولة انزلاق هذه النقاشات نحو أشكالٍ شعبوية وتحطيمية، ويفضّلون حصر النقاشات والسجالات (والخلافات) في دوائر ضيقة، أشبه بمساحات الأمان، تقيهم إحساساً بأنّهم في مهبّ النهش. بدوره، يتسبّب هذا الواقع أيضاً بإحساسٍ غير مريح بغياب الشفافية لدى قطّاع من الجمهور العام، يعيش نفس ظروف وطأة الخسارات وقصووية الأوضاع التي يعيشها أي فاعلٍ تحرري في الشأن السوري، ما يدفعه، في كثيرٍ من الأحيان، لافتراض أسوأ الاحتمالات، أو لإطلاق الأحكام القاسية، والتخوينية في الحالات القصوى. تتسبّب هذه الحلقة المُفرغة بنحولٍ شديد، وغير صحّي، في النقاش العام السوري. ورغم تفهّم أسباب معقدة لوجود هذه الحلقة، ودون الرغبة بالدخول في تحليل مُسبّباتها والمسؤولين عنها أكثر من ذلك، نرى أن فتح أكبر مجال للتداول، وللسجالات الفكرية، وللنقاشات السياسية، ولكل أنواع التعاطي مع الشأن العام السوري، هو ضرورة مُلحّة في سياقنا السوري، ولعلّه أهم ما نحن قادرون على فعله وسط الظروف العامة السيئة، وخروج قسمٍ كبير من عناصر تقرير مصائرنا من مجال إرادتنا وقدرتنا على التأثير. بيدنا أن نتمكن من تشكيل بيئة نقاش وتفاعل وسجال، وتفهّم واعتراض، تضمن مكاناً للاتفاق الفعّال، وللاختلاف المؤنسن، وللخصومة بكرامة.

كذلك، نبغي عبر هذا الملف أن نساهم في ملء الفراغ الذي تتركه قلة الأدبيات عن المجتمع المدني السوري بأقلام الفاعلين والناشطين في هذا الشأن.

كتصوّرٍ غير مُلزم لترتيب قراءة للملف، نقترح البدء بمادة الدكتورة نورا أبو عصب في تعريف المجتمع المدني كأداة مقاومة، نشأت وتطورت وتموقعت ضمن هياكل قوى عامة. بعدها، نجد مادتين تتناولان الشأن النسوي، إذ تستطلع لين العابد جملة التحديات التي تواجه المنظمات النسوية والنسائية وسط ظروفنا غير المستقرّة؛ ومن جهتها، تشير الدكتورة نوف ناصر الدين إلى إشكالياتٍ في العمل النسوي ترى أنها ناتجة عن تبني الحراكات النسوية منهجيات عمل المجتمع المدني وطرق مأسسته، وذلك بسبب التمويل وسياساته، المتأثر بالمجتمع الدولي وأجنداته. وفي قسمٍ ثانٍ، عيانيٍ إلى حدٍّ كبير، نقرأ حواراً مع آمنة خولاني وسلمى كحّالة، أجرته عُلا رمضان، عن العلاقات بين منظمات المجتمع المدني ومجموعات الضحايا، وتجربة منظمة دولتي وحركة عائلات من أجل الحرّية مثالاً؛ ويأخذنا مجدي ماهر إلى نموذج حمص كمدينة تحت سيطرة النظام تنشط فيها «جمعيات» ومنظمات دولية، في إطّلاع مفيد على الهوامش والحدود الممكنة، والظروف القائمة، للعمل المدني العلني في مناطق سيطرة النظام. وفي قسمٍ ثالث، تحليلي ومُعايِن، نمرّ على تحليل إبراهيم العُلبي وإياد حميد لإطار النقاش المضني لمنظمات المجتمع المدني بما يخصّ إشكالية العقوبات الاقتصادية؛ وعلى تحليل محمد العبدالله لواقع وتحديات وإشكاليات عمليات التقاضي الاستراتيجي، الساعية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب بحقّ السوريين في الهوامش القضائية المتاحة، في أوروبا على وجه الخصوص.

ومع أن أجزاء من الملف تطرّقت للموضوعة من وجهة نظر بحثية وأكاديمية، إلا أننا سعينا لأن يكون الملف مكتوباً بأقلام فاعلاتٍ وفاعلين في المجتمع المدني السوري، باختصاصاتهم ومواقعهم المختلفة، ورؤاهم ومواقفهم التي قد تتباين تجاه مواضيع سجالية تخصُّ المجتمع المدني السوري، أو الشأن العام ككل. لذلك، تعبّر تحليلات ومواقف الكتّاب والكاتبات عن آرائهم الشخصية، دون أن تتفق (أو تختلف) بالضرورة مع آراء ومواقف بقية المساهمين، ولا مع محررات الملف.

يركز الملف على مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني السوري العاملة في المجال الحقوقي وتغيير الخطاب، ولم يتطرق للعمل المدني الإنساني أو الإغاثي الطابع، رغم أنه أحد مشاهد المجتمع المدني الأساسية في سوريا اليوم، كونه يشكّل بيئة نشاطٍ لها همومها ونقاشاتها المتمايزة، وتحتاج وقفةً منفصلةً وخاصة. كذلك، لم ينشغل الملف كثيراً بأكبر «فيل في الغرفة» في مسألة المجتمع المدني، ألا وهو التمويل والاستدامة، ولم نفعل ذلك تعفّفاً عن نقاش جوهري وأساسي في وجود وبقاء مؤسسات المجتمع المدني؛ نقاشٌ ننوي خوضه في فرصةٍ لاحقة، وإنما تحدياً لجوهريته هذه، التي تجعله في كثيرٍ من الأحيان طاغياً على مواضيع أخرى، ورغبة في ألا يكون، مرةً أخرى، مدخلاً للحديث عن المجتمع المدني السوري. غير التمويل، ثمة نقاط كثيرة تستحق التوقف والتحليل والنقاش لم ترد في نصوص هذا الملف، ولذلك نرجو أن تكون هذه المجموعة من النصوص والنقاشات محفّزاً لتفاعل فاعلين عامين ومتابعين مهتمين، ولاقتراحاتهم ومساهماتهم في النقاش العام.