ثلاثة عشر عاماً. أيُّ خلاصاتٍ وأسئلة تُتيحها وقفةٌ مع ما جرى في كل تلك الفترة؟ وأي مفارقات؟

على قدر الفرحة التي أيقظتها مظاهرات السويداء العام الماضي، أثارت فينا الفزَع بكم الحرية الذي أحاط بها، فبدا ما تَعِدُ به من آمال مؤوداً بمعرفة عدم قدرة غيرها من المدن على فعل المثل.

لمحاتٌ من 2011 يُعيدها هذا الحراك، مع تحرُّك بعض النشطاء متخفين باتجاه السويداء لتفريغ شحنة معارضة، ومن ثم عودتهم إلى حياتهم اليومية، كما كان يحدث سابقاً في مناطق في دمشق وريفها مثل الميدان وبرزة وقدسيا والغوطة، أو عندما كان البعض يذهب إلى درعا وحمص وحماة للمساهمة ودعم حراكات تلك المناطق، لا مناطقهم. ولكنّ هناك ما تغيّر جذرياً في ثلاثة عشر عاماً، الهمُّ الاقتصادي اليوم يجمعُ السوريين على اختلاف انتماءاتهم السياسية، ويدفع بشريحة كبيرة من المؤيدين بعيداً عن النظام أكثر فأكثر. بقاؤهم الذي لطالما تم ربطه ببقائه أصبح مهدداً بأسبابه الأساسية، بنقصان الغذاء وفرص السكن وضياع الحياة في عمل غير مجدي بسبب وجوده، ولكن هل يكفي هذا لخلق حراك معارض للنظام في مناطق أخرى؟ 

وفي  دمشق؟ ماذا عن دمشق؟ 

***** 

لا بدَّ أننا وكثيرون استعدنا صوتاً كنا قد فقدناه عبر السنوات هنا، «في مناطق سيطرة النظام»، مع بدء الحراك في السويداء. بدأنا البوحَ علناً على منصات التواصل وفي اللقاءات العابرة مع من لا نعرفهم، وفي راحة الأماكن الخاصة، ولكن يبدو أن الفعل الحقيقي لا يزال بعيداً، لا تُفرِجُ عنه استعدادات قليلة من قبيل «مساعدة» المتظاهرين في السويداء. ونبدو نحن أيضاً بعيدين بفعل تقدم الزمن، تحولنا إلى عائلات أو أفراد في الأربعينيات، متابعين أكثر من فاعلين. نبدو أكثر تأثراً وأقل تأثيراً دون صلات أو أصدقاء فاعلين أو «قوة على الأرض». 

لا بدّ أننا وحيدون بانتقال معظم رفاقنا خارج البلاد، وجبناء بمعرفتنا لما يمكن أن يحلَّ بنا، مَوصومين بسجلات أمنية، تُسهِّلُ استهدافنا. ولا بدّ أن الخطاب الذي يتّهمُنا وغيرنا ممن كنا فاعلين يوماً بمسؤوليتنا عما تسببنا به لغيرنا ينخر في الرأس ليرمينا في أحضان اليومي والنجاة الشخصية. ولا بدّ أن التضحيات والهزّات النفسية تبدو أصعب بكثير من ذي قبل، لكنا متورِّطون شئنا أم أبينا، وربما يكون لبقائنا هنا جدوى أكثر من المشاهدة والدوران في دوائر ضيقة.

هنا في دمشق نحن مجموعة من النساء، ولهذا حسناته وتحدياته. فلسنا نواجه نفس التدقيق الأمني، ولا إشكاليات التجنيد التي تشلّ الذكور بيننا، ولدينا في معظم الحالات فكر نسوي يستطيع حمل أفكار تحررية بعباءة غير مُهددة. لكننا أيضاً أبعد عن الشارع، وعن القوى الاقتصادية المؤثرة، وعن التخطيط الميداني، الذي ربما تساعد معرفته في صوغ تظاهرات لا عنفية مؤمّنة أو ذات جدوى أكبر. ولهذا كله ربما لسنا في وارد نسخ الحراك في السويداء، ولكن من الممكن أن نفكر بالاستفادة منه ومن تجربة معاشة في 2011، في تجريب حلول جديدة والتقدم إلى الأمام في شكل هذه الحلول.  

***** 

إن كنا نطلب التغيير، فممن نطلب؟ أمن أنفسنا أم من العالم؟ نحن بطبيعة الحال ننفي احتمال استجابة النظام لمطالبنا. إذا كان إعلان الاعتراض عبر التظاهر، والتعويل على انضمام أطياف أخرى لم تشارك في فعلٍ معارض سابقاً هي الاستراتيجية، فالفرصة قليلة، لأن الخوف من التبعات الأمنية كان وما زال بيضة القبان التي ترجِّح كفّة الحرص على النفس. وقد جرّبنا مطالبة العالم سابقاً، فكيف نتوقع تغيُّر الاستجابة هذه المرة، وتِبعاً لأي معطيات؟ القرار الدولي، الذي يختلف على تأويله ويسهل ترك الفقرة التي تتعلق فيه بهيئة حكم انتقالي، لا زال منذ 2015 في انتظار لحظة سياسية مناسبة، لا تبدو اليوم أقرب، لا بل إن الأطراف المتصارعة عالمياً لا تبدو أكثر شقاقاً منها اليوم. فإلى أين نريد المضي بالضبط ومع من؟ 

طَرحُ هذه الأسئلة والإجابة عنها هو واجبنا اليوم، والبديل هو تركها لمؤيدي النظام والمحايدين لتقريعنا بها وكأنها نهاية النقاش حول مستقبل البلاد، لا بدايته، وهي تحتاج بالضبط ما هُيِّئ لإخوتنا في السويداء اليوم، أو القدرة على التنظيم بوجود قيادة روحية تضع ثقلها الإقليمي في خدمة الحراك، وبفعل عصبة تزيد إيمان الناس ببعضهم. إنها فرصة ذهبية ليُلهِم الدروز غيرهم ويستقطبوهم، وهو الأمر الحاصل أساساً على مستويات فردية، ربما آن لها أن تؤسس لفعل جماعي. سيفرض الملل والرغبة باستمرار الحياة نفسهما عاجلاً أم آجلاً، إن لم ينمو هذا الحراك قد تخبو جذوته حيناً ليعود أقوى لاحقاً، كما حصل عبر السنوات، إلا أن الوقت ليس في مصلحة السوريين. 

من مميزات الموجة الجديدة الاجتماع على شعار واحد وهو الحل السياسي عبر القرار 2254، ومن المفيد تكريس مطلب لعموم السوريين وتطبيعه أمام جمهور الخائفين، ومن أهم ما يقدمه لنا الحراك الجديد هو الإصرار على وحدة السوريين باختلاف انتماءاتهم السياسية، ما يمكن أن يُستَثمر فيه أكثر عبر نسج مطالب معاشية تمسُّ العموم الأوسع. محاولات فرض القيادة في السويداء سرعان ما تواجَهُ برفض احتكار الميكرفون ورفض البيانات السياسية والهيئات التي تقدمها، لكن وإن كان فرض القيادة مرفوضاً فترك القيادة الروحية تتولى زمام الأمور، وإن عبرت عن رغبات الشارع، لا يجب أن يحرمنا من تطوير قيادات سياسية علمانية شابة، يمكن بدء الاستثمار فيها عبر طرح الأفكار والتنظير، ويمكن للمنصات السورية مثل الجمهورية أن تتبنى هذا النهج.

لا بد لنا من رسم خطة أو شبه خطة، تُظهر مطالبنا بشكل عملي، وتشمل كل السوريين، وتنتهي بأقصى أمنياتهم. يمضي الكثيرون من بيروقراطيي المنظمات والشركات أوقاتهم في وضع الرؤى الرومانسية والمهام طويلة وقصيرة المدى، فلم لا نستفيد من هذه المهارات التخطيطية برسم المستقبل وخط الطريق إليه؟ حتى وإن كانت أولى خطواتنا فيه تبدو قصيّة عن مغزى نهايته، كالعمل على إعادة هيكلة البيت الداخلي للمعارضين السوريين، وإقامة أطر تواصل وانتخاب بينهم من أسفل إلى أعلى، أو وضع نظريات لحلول تشمل المشكلات الخدمية والاقتصادية في السويداء، فتُلهم أمل التغيير في كل المحافظات، كما كانت الفكرة يوماً من المناطق المحررة، إظهار مثال يحتذى لم ينل فرصة للوجود بفعل الأعمال العسكرية والحصار، فلم لا تكون السويداء اليوم هذه البذرة؟ يمكن الاستفادة من إرث موجود، صناعيو حلب، تجار دمشق وغيرهم من التكنوقراطيين الوطنيين لديهم طروحات مجدية حول خطط التنمية الوطنية، يمكن لها أن تجعل حلم السوريين في رحيل النظام ذي معنى ملموس، فينشدون إزالته كعائق بزخم أكبر.

***** 

التفكير بما نفعل محفوفٌ بالتقريع، لكن إرغام النفس على أخذ المبادرة ضروري، وإلا فلا فائدة من كل ما مررنا به، فحين نفشل، علينا على الأقل أن نتعلم. 

نحن لا نريد قادة يُنصِّبون أنفسهم، ولا يُهيأ لنا إجراء انتخابات لاختيارهم، وفي الوقت نفسه نحتاج توجيهاً كُفُؤاً. ما من حل لهذه المسألة إلا أن نجد لأنفسنا ممثلين، ممن يجيدون الاستماع لمن حولهم ويبادرون دون تردد كبير. فلنتبعهم وننصحهم ونجد لهم آليات حوكمة ترضينا، ولنغيرهم. القيادة لا تفرض من أعلى ولكن يجب تشجيع الإتيان بها من أسفل. فلنسلّم لبعضنا ونجرب أنفسنا لمراحل محددة، ولنثق بحسم تتالي القيادات، ولنعيد تعريف هذا المفهوم كما يجب: مسؤولية ثقيلة وعمل مضني، لا امتياز. 

لنتحاشى القيام بفعلٍ من أجل النشر العلني، إن لم يكن له جدوى في مكانه ولحظته. انكفأنا لمظاهرات قصيرة (طيارة)، نفرّ بعدها هرباً قبل الاشتباك مع الأمن، ما زرع فوضى حبذناها لدى النظام، لكنها ضُخِّمت عند ظهورها للإعلام بأكثر مما تستحق، فبدت غير حقيقية لسكان المناطق التي حلّت بها، وكأنها دعاية لفعل التظاهر، أكثر من ملامستها جوهره. لنا أن نستخدم الإعلام للحشد ما شئنا، ندعو بدل أن نعلن، ونُعلِم بدقة وحرص شديدين، فالكل متربص بزلاتنا، التي وإن كانت مغفورة ومفهومة إلا أنها تصعّب مهمة شاقة بما يكفي.

فلنقبل هامش التضحية ونحدَّ منه ونستخدمه. حين خرجَت مظاهرة معلنة للمثقفين تحوَّلَ الهاربون منا إلى مواجهين بقوة الشخصيات الحاضرة والصراحة التي رافقت تجمعها. كان المعتقلون مكرّمين وخرجوا سريعاً وشاركوا قصصهم في العلن. بدراسة للمطالب، للمشاركين، للمكان والزمان، وتقبُّل التبعات والتنظيم ما يعطي دفعة ثقة لآلاف الخائفات والخائفين، مما ينمي الحراك ويزيده دفعاً. 

التحرك السلمي هو كل ما نقوم به لأخذ ما نريد باستقطاب أو استسلام الخصوم، وليس التظاهر إلا تكتيك حشد وإعلام بما تريده فئة بادئة، تنشر أفكارها بقوة صوتها وشعاراتها المكتوبة والمرسومة. اعتصمت نساء دوما أمام السجن لإخراج معتقليهم ونجحنَ، واعتصمت نساء الميدان حول شبّانها لمنع اعتقالهم ونجحن، فكان تحركهن لمطلب محدد وواضح ويمكن تنفيذه مباشرة في مكان الاعتراض عليه، فماذا لدينا هنا لنعترض عليه، وكيف نعترض دون هامش مخاطرة كبير؟  

لا يهمنّنا سقف المطالب في السويداء، فلكل مقام مقال. بإمكاننا استعمال الجور حيثما نلقاه، مادة للعمل والتحرك. أهي موجات الطلب للتجنيد الإجباري؟ أهي دوريات الجمارك؟ لدينا طوابير على المخابز، وإشكاليات يومية مع السلطات في المحال التجارية، ولدينا ولدينا… فماذا يفعل الناس لنيل حقوقهم بأخلاقية ودون (تشبيح)؟ وكيف يمكن نقل الفردي للجمعي؟ 

في كل يوم نشاهد أفعال اعتراضٍ من الناس في هذه المدينة، في كل يوم يجد بعضنا ناصية للحق وشجاعة لنيله، وحين نجتمع يمكننا معاً تحويل صمتنا صراخاً مفهوماً لبعضنا ومقدمة لتصاعد استراتيجي آمل. صفّق الناس في جنازة حاتم علي احتراماً لأعماله، لكنهم صفقوا في جنازة خالد خليفة احتراماً لشجاعة الكاتب في معارضة علنية في المواقف وفي العمل رغم انتشار الأمن حولهم. رغبوا في نقل ذكراه إلى الآن، كفعل مناهض لسلطة حرمت نشر أعماله، وفي هذا وإن لم يظهر للعلن جذوة علينا، نحن الباقون في دمشق إيقادها ما استطعنا.