خرج المخرج والممثل الأميركي برادلي كوبر من سباق الأوسكار خالي الوفاض تماماً، على الرغم من ترشُّح فيلمه الجديد مايسترو لنيل سبع جوائز، كانت التوقّعات تُشير إلى إمكانية فوزه ببعضٍ منها، كالموسيقى مثلاً أو الماكياج، وهي من المكوّنات الأكثر نجاحاً في الفيلم الذي يشكّل نقلةً نوعيّة في تاريخ مُخرجه.

يبحث كوبر في مايسترو عن تلك الأداة السينمائية التي يمكنه من خلالها أن يهرب من فخ السيرة الشخصية الكلاسيكيّة، والتي غالباً ما تكون الحاجز بين الفيلم والجمهور، وبين الفيلم والجوائز أيضاً. في سينما السيرة الشخصية الهوليوديّة، خلال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل، كي ينجح فيلم السيرة الشخصية يجب أن يتمتّع بقدرٍ من الذكاء، يُمكّنه من ألا يتناول السيرة بسرديتها التاريخية المباشرة المعروفة، المولد والنشأة والتطور وصولاً إلى الموت. يجب أن يغامر بقضية مركزيّة يعالج من خلالها الشخصيّة ويواكب تطوّرها، قضيّة منشؤها التاريخ كما في عازف البيانو 2002، أو منشؤها الشخصيّة نفسها كما في عقل جميل 2001، أو قد تنشأ من الرواية الخيالية التي تُغيّر من مفهوم فيلم السيرة الشخصية بالكامل كما في أماديوس 1984.

كوبر في مايسترو أمسكَ شخصية قائد الأوركسترا والمؤلف الموسيقي العالمي الشهير  ليونارد بيرنستاين من زاوية واحدة هي «الاضطراب والتناقض». هي زاوية نفسية غير نمطيّة، وغير سهلة كأداة في رسم ملامح الشخصية وإبداعها، كما يمكن لها أن تضرب البنية الفنيّة بمقتلٍ في حال المبالغة بها. وقد قارب الفيلم المبالغة في كثير من مشاهده، لكنه أيضاً قدم تلك المبالغات كنتاج طبيعي للاضطراب الذي يمثّل السمة الأهم والأوضح في شخصية بيرنستاين، التي وُسِمَت بسمات ومستويات متعددة من الاضطرابات، كاضطراب الشخصية الهستيرية المسرحية، واضطراب فرط التوتر، واضطرابات أخرى قاربها الفيلم حتى وإن كان بعضها غير مُشخَّص بشكل دقيق طبياً لدى بيرنستاين.

أول متقابِلَين تتنقّل بينهما الشخصية هما الذكر والأنثى، فالمشهد الافتتاحي هو مدى عشقه لزوجته الراحلة فيليشيا، والتي لعبت دورها كاري موليغان. الزوجة والفنانة التي واكبت أهم مراحل حياته. فيما الانتقال كليٌّ وسريع في المشهد الثاني إلى ما هو في صلب علاقته العاطفية بعازف الكلارينيت ديفيد أوبنهايم الذي لعبه مات بومر، فمن قُبلة على شفاه أنثى إلى صفعة على ردف ذكر. من هنا تبدأ الشخصية بخوض تجربتها الفنيّة والعاطفية بناء على مُتقابِلات أو مُتناقِضات شتّى، التفاؤل والتشاؤم، التواضع والغرور، الماديّة والروحانيّة، الاستقرار والفوضى، الحزن والسعادة، الأوركسترا الكلاسيكيّة والجاز، العزلة والمجتمع، السطحيّة والعمق. تتيح تلك التناقضات لمُخرجٍ يَنشدُ الاحتراف التنقّلَ المرن، وفرض التغيير كضرورة لوضوح الشخصيّة، فتنجح هنا، وتمرُّ دون أثر واضح هناك.

المميّز في الفيلم هو الطرح غير المباشر للمقاربات الجدليّة والأخلاقية، كالمكاشفة في قضيّة ازدواجية الميل الجنسي، فعلاقته بالذكور ترتبط بأكثر من مستوى من حياته، منها مستوى حرصه على سمعته في مرحلة كانت تلك المكاشفة فيها مؤثرة جداً على سمعة المشاهير وحيواتهم، وهنا يفضّل الفنان الشهير تكذيبَ أخباره الجنسيّة أمام ابنته، حرصاً على تماسُك العائلة من جهة وعلى سمعته من جهة أخرى. فيما يبدو مُكاشِفاً لتلك القضيّة بطريقة سلسة وبأريحية واضحة حين يعبر لطفلة عشيقه السابق بأنه نام مع أمها ومع والدها. المستوى الآخر المتأثر بتلك الازدواجية هو علاقة الحب الغامر التي عاشها مع زوجته، والتي تخضعُ للاضطراب بطريقة واضحة، فتبدو يوماً في قمة الاستقرار، وآخر ركاماً من الفوضى. خلف تلك السعادة التي تعيشها الشخصيتان بصدق واضح، هناك تعاسة ستهاجم العلاقة في لحظة تعبير الزوجة عن عدم القدرة على استيعاب الاضطراب والازدواجيّة، وعدم قدرة الزوج على ضبط سلوكه أيضاً. هو مضطرب، وأكثر ما هو مستقر في شخصيته هو استمرار اضطرابها.

تتنقّل القصص المتسارعة زمنيّاً نحو الأمام، يمرُّ الحدث هامشيّاً، فيغيبُ التوثيق أحياناً لصالح نمو الشخصيّة في اضطرابها. مع هذا النمو تنمو السعادة وكذا التعاسة، وجميعُ المتناقضات الأخرى تذهب باتجاهات أكثر حدّة وبطريقة غير مباشرة. يواكب هذه التقلّبات كل من الصورة والصوت. من الأبيض والأسود يتدرّج وضوح الألوان زمنيّاً، فيكون باهتاً هنا، وواضحاً هناك. وكذا الموسيقى تنتقّل من الكلاسيكيات الكبرى التي قاد أداءها بيرنستاين كالسيمفونية الثامنة لبيتهوفن، إلى مقطوعات صولو البيانو الرقيقة التي ألّفها وقدّمها هو نفسه. المهنة أيضاً تتضمّن مستوىً آخر من الاضطراب، إنما بتجليات إبداعيّة، حيث تتنقّلُ الشخصيّة بين التأليف القائم على الإبداع الفردي البحت، وقيادة الأوركسترا بشكلها الجماعي وسياقها البعيد كلياً عن الفردانيّة.

في الظل تمرّ سمات الشخصيّة التي تتوارى خلف الشكل المعلن للموسيقيّ الشهير. فيبدو واضحاً مدى قدرته على قيادة علاقته بزوجته وبمن حوله بشكل فردي مطلق. فالحبيبة التي عشقته وعشقها، هي بشكل من الأشكال تابعة لخياراته ومزاجه، هو مسيطرٌ عليها حتى في لحظات ثورتها وانتفاضتها، تلك اللحظات التي لا تقدّم أكثر من الكشف عن عمق المشكلة في العلاقة التي يكسوها الحب والاستقرار في الظاهر. يقدّم الفيلم محاكمة جذريّة للعلاقة تظهرُ من خلال حديث الزوجة بعد سنوات طويلة من زواجها من بيرنستاين عن مدى عمق المشكلة بينهما، ومدى تبعيّتها لمزاجه. هو قادر على تحريك ما حوله بعصاه الصغيرة التي يضبط بها أداء العازفين، إنما بشكل غير مباشر، حتى بتلك العفويّة والبساطة والتواضع هو يغيّر أدواته حسب ما يتطلب مزاجه والموقف. قائد يجعل الاضطراب النابع من شخصيته ناظماً للحياة حوله، متنقّلاً كما تتنقّل الموسيقى الكلاسيكية بين قرار وجواب وصخب وهدوء.

بدت بعض ترشيحات الفيلم السبعة في الأوسكار متوافقة بالفعل مع أنجح ما في الفيلم، خاصة من خلال أداء الشخصيتين الأساسيتين، والتصوير، والموسيقى، والمكياج. ولعلّ برادلي كوبر، وإن لم يحالفه الحظ، كان قريباً من جائزة أفضل ممثّل هذه المرّة أكثر مما كان عليه في المرة السابقة من خلال ولادة نجم سنة 2019، فأداؤه في مايسترو يذكّر بأداء ماريون كوتيار لشخصية إديث بياف في الحياة الوردية 2007، وأداء جيمي فوكس لشخصية راي تشارلز في راي 2004 أو رامي مالك في أداء شخصية فريدي ميركوري في الملحمة البوهيميّة 2018. وهي بالمجمل أدوار نالت أوسكارات، وسُجِّلت كأداءات متميّزة في تاريخ سينما السيرة الشخصيّة، وقد تأتّى هذا النجاح من الدرجة الكبيرة في تشابُهها مع الشخصيات الأصلية بالشكل والسلوك والانفعالات. برادلي كوبر في مايسترو أعطى كمخرج وكممثل هذا التشابه القيمة الأعلى في الفيلم، بل وعلى حساب بقيّة المكوّنات. بالإمكان ببساطة مقارنة أشهر وقفات برنستاين الأوركسترالية في قيادة أوركسترا لندن السيمفونية وهي تؤدي أوركسترا القيامة لغوستاف مالر 1973، مع ما قدّمه الفيلم عن تلك الوقفة بواقع ستة دقائق أراد فيها كوبر الوصول إلى أعلى مستويات التشابه مع بيرنستاين. وأراد فيها أيضاً الأوسكار بلا شك.

ما حدث مع كوبر يتكرر للمرة الثانية، فقبل خمس سنوات تماماً من اليوم، قدّمَ برادلي كوبر نفسه كمخرج وكاتب وممثل في ولادة نجم، ونال الفيلم حينها ثمانية ترشيحات في أوسكار 2019، حصد من بينها جائزة أفضل أغنية أصليّة فقط. لم يكن الفيلم حينها أكثر من مادة تجاريّة تُحاول تقديم نسخة أكثر ذكاءً من قصص ولادة نجوم الموسيقى، حيث العاشقان نجمان يَسطعُ أحدهما على حساب الآخر. تلك القصص المستهلكة سيطرت على قصص ولادات النجوم في السينما الأميركية منذ منتصف القرن الماضي. في مايسترو الأمر مختلف، هو ليس فيلماً سريع الاستهلاك تجاري الملامح، ولا هو فيلم سيرة شخصية كلاسيكي عابر، وعلى الرغم من أن نصيبه كان صفراً في الأوسكار، إلا أن كوبر مشى بين ولادة نجم ومايسترو طريقاً بين مرحلتين في تجربته السينمائية، المُراهَقة والاحتراف.