تُشكّل الطائرات المسيّرة والانتحارية خطراً داهماً على المدنيين والعسكريين على حدٍّ سواء، فهي قادرةٌ على شنّ «هجمات انتحارية» ذات تأثير نفسي كبير، إلى جانب تأثيرها العسكري الذي لا يستهان به.
التكتيك الجديد الذي تستخدمه قوات النظام والمسلحون الموالون لها، هو دبُّ الرعب في نفوس المدنيين وتعطيل أعمالهم في منطقةٍ يحاول فيها الأهالي التمسك بأراضيهم، والعمل لسد احتياجاتهم، بعيداً عن المخيمات وانتظار السلة الغذائية وما تقدمه المنظمات الإنسانية، رغم المخاطر التي تهدد حياتهم لقرب هذه الأراضي الزراعية من المناطق العسكرية وخطوط المواجهة بين فصائل المعارضة والنظام السوري في شمال غربي سوريا.
وتستخدم قوات النظام مسيّرات مروحية رباعية من طراز FPV، يتم تعديلها لتستطيع الطيران مسافات أبعد، وإلصاق قذيفة «آر بي جي» بجسم المسيرة لتصبح مسيرةً انتحارية أو مفخخة كما جرى تسميتها محلياً، وصارت تلك المسيرات ذات أثرٍ كبير على المنطقة منذ بدء استخدامها.
أبو عبد الرحمن مقاتل في «الجبهة الوطنية للتحرير» التابعة للجيش الوطني المدعوم تركياً، ويتمركز في جبل الزاوية، تحدث للجمهورية.نت مؤكداً أن الهجمات بالمسيّرات المفخخة تزايدت منذ أواخر كانون الثاني الفائت (يناير)، وهذا النوع من الطائرات يصعب الكشف عنه بالطرق المتاحة حالياً لدى قوات المعارضة، كما أنها لا تصدر صوتاً أثناء التحليق والانقضاض، ويتمُّ تذخيرها بقذيفة صاروخية «آر بي جي» تُفقِد الضحية فرصة النجاة منها.
ووفقاً لأبو عبد الرحمن، فإن فصائل المعارضة في جبل الزاوية باتت تتخذ تدابيرَ للوقاية من مخاطرها وتقليل الخسائر، من خلال تمويه الخنادق والدشم وتقليل التنقلات، والتواصل مع بقية النقاط عبر أجهزة اللاسلكي للتأكد من خلو الأجواء من هذه الطائرات.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد هاجمت المسيرات الانتحارية 44 مرة منذ مطلع العام الجديد، وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل وإصابة 34 شخصاً من العسكريين والمدنيين، حيث قتل مدني واحد و16 عنصر من هيئة تحرير الشام والفصائل، وأصيب 17 على الأقل بينهم طفلان.
الهجمات تهدد الاستقرار
تستهدف المسيرات الانتحارية العسكريين والمدنيين على حدٍّ سواء، وتهدد استقرارهم بعد أن وجدوا في المناطق القريبة من خطوط التماس مع قوات النظام ملجأً للهرب من أماكن النزوح المكتظة. محمود يوسف يمتهن صيد السمك ويقول للجمهورية.نت إنه توقف عن عمله في سد القرقور بسهل الغاب في ريف حماة الذي اعتاد الصيد فيه لما يقارب الخمس سنوات، والذي كان مصدر دخلٍ له وللمئات من زملاء مهنة الصيد.
ويخبرنا اليوسف أنه يحصل مقابل عمله في الصيد على ما يقارب 350 دولار أميركي شهرياً، وكان يأمل بإنتاج وفير، إذ ستتنوّع أصناف الأسماك خلال الأسابيع القادمة بسبب فتح السدود على مجرى نهر العاصي. ويوضح اليوسف أنه صرف مدّخراته على شراء معدات الصيد، أملاً بموسم الصيد القادم، إذ أن شهر نيسان (أبريل) من كل عام تُعدّ بداية موسم صيدٍ جديد.
يضيف اليوسف أن طائرات الدرونز المفخخة استهدفت موقعاً لبيع الأسماك وسياراتٍ مدنية ودراجات نارية في منطقة الصيد، ما أجبر الصيادين على مغادرة المنطقة، في حين أن عدداً قليلاً منهم لا يزال يخاطر بحياته كون العمل في هذه المنطقة فرصة لجمع كميات كبيرة من الأسماك المرغوبة في الأسواق المحلية.
بدوره، يعتبر أحمد عليوي المزارع ومربي النحل في قرية الزيارة بريف حماة، أن منطقة سهل الغاب القريبة من خطوط المواجهة تُشكّل بيئة طبيعية مناسبة لتربية النحل؛ لقلة استخدام المبيدات الحشرية التي تشكل الخطر الأكبر على طوائف النحل، لكنّه اضطر إلى نقل مناحله من المنطقة بعد تزايد الهجمات بالطائرات الانتحارية، موضحاً أن العناية بمناحله تتطلب العمل بشكلٍ يومي في فصل الربيع، وهو ما قد يعرّضه للخطر، ولا يخفي خوفه من استمرار الهجمات حتى موسم الحصاد أواخر أيار (مايو)، واحتمالات الحرائق التي قد تندلع في محاصيل القمح والشعير نتيجة القصف.
الحاج أحمد رافع (70 عاماً) مزارعٌ يمتهن استئجار الأراضي وزراعتها ليؤمن احتياجات عائلته المؤلفة من 4 فتيات و3 شبان مع أفراد عائلاتهم الذين يعملون معه. امتلك الحاج رافع خلال عمله الطويل بمجال الزراعة مختلف المعدات الزراعية (جرار ومعدات فلاحة ومحركات ضخ مياه للسقاية وحصّادة وشاحنة). يقول الحاج رافع إنه يعيش وأولاده بوضع جيد بعد أن عاد من مخيمات دير حسان وباشر عمله الذي توقف عنه سنتين.
وكان رافع قد استأجر هذا العام 240 دونماً قريبةً من تمركزات الفصائل في قرية القرقور والزيارة وتل واسط بسهل الغاب، زرعها بالقمح والشعير والعصفر والفول، وتكلّف على استئجار الأرض 6 آلاف دولار أميريكي، وما يقارب 5 آلاف دولار على البذار وتكاليف الزراعة الأخرى.
يتخوف الحاج رافع من عدم تمكنه من رعاية مزروعاته وحصادها، كما أنه يتخوف من لحاق الضرر به وبعائلته وما يملكه من آليات ومعدات زراعية التي يعتمد عليها في استمرار عمله.
يوافق عامر عبد المجيد، وهو مربي أغنام نازح من ريف حلب الجنوبي يرعى قطيعه المؤلف من 75 رأساً في محيط قرية العمقية في سهل الغاب، على ما ذكره الحاج رافع، وبدوره اتخذ خطواتٍ احترازيةً للوقاية من خطر المسيّرات الانتحارية، وعَمِل على إبعاد قطيعه عن الخطوط العسكرية حيث العشب الوفير والبحث عن العشب قرب مجرى نهر العاصي والمناطق الرعوية.
يقول عامر إنه يوفّر يومياً ما يقارب 50 كيلوغرام من الأعلاف بثمنٍ قدره 18 دولاراً أميركياً، مضيفاً أن فترة الربيع هي موسم ربحٍ لمربي الماشية، لأنهم لا يضطرون لشراء الأعلاف، وإنما يعتمدون في إطعامها على الرعي بشكلٍ كلي.
ويضيف عامر أن عشرات الهكتارات القريبة من خطوط التماس في سهل الغاب يهملُها أصحابها بسبب خطورة البقاء والعمل فيها، وأصبحت هذه الأراضي مناطق رعوية وبيئة مناسبة لنمو النباتات التي يستفيد النحلُ من أزهارها، مثل نباتي الخلة والعاكول. كما يقصد المناطقَ القريبة من خطوط التماس المئاتُ من رعاة الأغنام ومربّي النحل في كل عام.
واعتبرت منظمة الدفاع المدني السوري هذا التصعيد الخطير في التكتيكات من قبل نظام الأسد والقوات الداعمة له تهديداً لحياة السكان الأبرياء، ويتسبب بتدمر وسائل بقائهم على قيد الحياة وسبل عيشهم، وذلك بسبب الطبيعة المُمنهجة لهذه الهجمات وتعمّد استهداف المدنيين من خلالها، في ظل ظروف إنسانية صعبة وتراجعٍ كبير في الاستجابة الإنسانية.
وأردفت المنظمة أن هجمات بطائرات مسيرة انتحارية التي انطلقت من مناطق سيطرة قوات النظام، قد استهدفت عدة مناطق في ريف حماة يوم الأحد 10 آذار (مارس)، وتوزعت على هجومين بطائرتين مسيرتين انتحاريتين استهدفتا سيارةً مدنيةً في قرية الزقوم، وهجومٍ بمسيرةٍ انتحارية استهدفت سيارةً مدنية في قرية الحميدية، فيما استهدف هجومان بطائرتين مسيرتين انتحاريتين أراضٍ زراعية بالقرب من منازل المدنيين في بلدة قسطون بسهل الغاب شمال غربي حماة، دون وقوع إصابات بين المدنيين.
ويُعتبر سهل الغاب والمناطق القريبة من خطوط التماس في إدلب وحلب ملجأ للذين ضاقت بهم المدن والقرى بسبب ارتفاع تكاليف العيش فيها، عدا أنّ العمل في تلك المناطق يعود عليهم بأجور تزيد عن مثيلاتها في باقي المناطق نظراً لخطورتها والتهديدات المباشرة من قبل قوات النظام.
واضطر الكثير من أهالي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في شمال غربي سوريا للعيش بالقرب من خطوط التماس، لأن السكن فيها يخفف عليهم تكاليف دفع الإيجار سواءً من خلال البقاء في بيوتهم أو في بيوت مُستأجرة بأسعار أرخص بكثير من المناطق الحدودية شمال إدلب.
وتشهد مناطق شمال غربي سوريا التي تعتبر آمنةً نوعاً ما ارتفاعاً في أسعار الإيجارات، إذ يتراوح إيجار الشقة شهرياً ما بين 75 إلى 150 دولار أميركي وسطياً، الأمر الذي جعل الكثير من السكان لا يحصلون على منزلٍ يتناسب مع دخلهم المحدود، ويضطرون للبحث عن منزلٍ بتكلفة أقل والعمل بأجور أفضل، فتكون مناطق التماس الخطرة وجهتهم.
وبحسب السيد أحمد الصالح (46 عاماً) وهو نازح من ريف حلب الجنوبي إلى شمال غربي سوريا ويعيل 6 أفراد، فإنه تمكن من الحصول على منزلٍ مُخدّمٍ بالماء والكهرباء دون دفع إيجار في منطقة معارة النعسان بريف إدلب، ويعمل مع أبنائه في ورشٍ بمشاريع زراعية قريبة من خطوط التماس، ويتقاضى كل فردٍ من عائلته أجرة يومية مقدارها 100 ليرة تركية خلال عملهم 5 ساعات يومياً.
ويقول الصالح إن التجول في المنطقة محفوف بالمخاطر، ولكن ضيق الحال أجبره على السكن بالقرب من فوهات البنادق والمدفعية، إذ أنّه لا يستطيع العمل إلا بالزراعة التي اعتاد على ممارستها منذ كان طفلاً في قريته أباد بريف حلب الجنوبي. ومقابل العيش بالطريقة التي تناسب الصالح، فإنه يُعرّض نفسه وعائلته للخطر، ولكن بعيداً عن المخيمات التي تغص بالعاطلين عن العمل.
ليست المسيرات الانتحارية الخطر الوحيد الذي يهدد حياة وأرزاق السوريين في إدلب، إلّا أنّ تزايد تلك المخاطر واستهداف المدنيين بشكل مباشر، يؤدي إلى تقليص المساحات التي يمكن العيش فيها، ويدفع المزيد من السكّان نحو مناطق المخيمات بالقرب من الشريط الحدودي، وهي منطقة مكتظة أصلاً، مما يزيد من فرص انتشار الأوبئة مثل الكوليرا، ويقلص فرص الحصول على عمل، خاصةً مع تراجع حجم الدعم الإنساني المقدم للمنطقة. يبدو اليوم أنّ العمليات العسكرية ليست المُسبب الوحيد للنزوح في المنطقة، إذ أصبحت المسيرات الانتحارية سبباً جديداً في تلك المأساة، وهو ما يهدد حياة مئات الآلاف الذين يعيشون فيها، بلا أي أفق واضح لانتهاء القتال.