منذُ أن كتبَ بوثيوس عملَهُ الفلسفيّ الضخم عزاء الفلسفة قبل ألف وخمسمائة عام، الذي اعتبرهُ بعضُ المؤرخين العملَ الأولَ في «أدب السجون»، وكان بوثيوس قد كتبه في السجن خلال انتظارهِ للمحاكمة بتهمة خيانة الملك، لم تتوقّف الكتابة عن السُّجون والأعمال الفنيّة التي تعالجها والشهاداتُ الحيّة للناجين منها، لكن التكرار لم يُفقِدها طزاجتها، فالسجناءُ ليسوا واحدًا، حتى لو كانت وسائلُ تعذيبهم ومحابسُهم واحدة، أو متشابهة.

في تشرين الأول (أكتوبر) من العام الفائت عرضَ موقعُ السويداء 24 الإعلامي، المُختصّ بأخبار محافظة السويداء الجنوبية، مجموعةً من المُقابلات أجراها مع سجناء سابقين من السويداء، مستفيدًا من الحراك الشعبيّ الذي بدأ في المحافظة في آب (أغسطس) الماضي. ولأنّ السجناء هم أفراد، ولكلّ فردٍ سياقُ حياةٍ مختلف، فإنّ حكاية السيد بيان الحناوي، الضابط الذي قضى سبعة عشر عامًا في السجون السوريّة بتهمة الانتماء إلى بعث العراق، حملتْ تفاصيلَ إنسانيّة إضافيّة بكى الرجلُ ذو الخمسة وسبعين عامًا عدّة مراتٍ وهو يتذكرها. روى حكاية عودتِهِ إلى السويداء بعد خروجه، لحظةَ وصلَ إلى قريتِهِ ليلًا، وخلال مشيهِ لاحظَ وجود سراج مشتعلٍ فوق بوّابةِ أحد بيوتِ القرية، ما يدلُّ على وجودِ حياةٍ في المكان المُعتمِ الذي لم يستطعْ تمييزَ ملامحهِ بعد كلّ تلك السنوات. قال إنّهُ قرَّرَ طرق الباب للسؤال عن بيتِ أهله، وما كانَ ذلك البابُ سوى باب بيته، وما كانت العجوزُ التي فتحته سوى أمّه. قال إنّها عرفتْهُ لحظةَ سمعت صوته، وإنها على مدارِ سنواتِ غيابِهِ كانت توصي شقيقاتِهِ بإشعالِ السِّراجِ وتعليقهِ فوق بوابة الدار، لأنها متيقّنة من عودتِهِ ومن أنّهُ سيعرفُ البيتَ من السِّراج!

خرجَ بيان الحنّاوي من السّجن أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1991 رفقة اثني عشرَ شخصًا آخرين من السّويداء، كانَ منهم «كمالان» تربطهما بعائلتي علاقة صداقة قديمة: كمال المغوّش، الضابط الآخر الذي قضى مدةً تقاربُ المدّة التي قضاها الحنّاوي أو أكثر، وكانَ صديقَ أبي منذُ شبابهما إلى أن رحلَ قبل خروجي من سوريا في العام 2012، وكمال الشوفي، وهذا الأخير كانَ الشخصَ الذي بسببهِ عرفتُ للمرةِ الأولى شيئًا اسمُهُ سجن تدمر، فقد كانَ وعائلتهُ من الدائرةِ المقرّبةِ من عائلتي، إذ أن هناكَ قصّةً تقولُ إنّ والدَهُ الشّيخ إبراهيم الشّوفي يتقمّصُ إسماعيل هنيدي، جدّ جدّي الذي توفّي بينَ عامَي 1922 و1923، وسبقَ لي ذِكرهُ في مقال في موقع الجمهوريّة قبل عامين.

أتذكّرُ جيّدًا أننا كُنّا في العائلةِ على مختلفِ أعمارِنا نُنادي الشيخ إبراهيم: جدّنا الشّوفي!

سمعتُ قصصًا عن تدمر حينما لم أكن قد بلغتُ الثامنةَ من عمري، وظلّتْ سيرةُ المكانِ المُخيف ترافقُني حتّى وصلتُ إليهِ بنفسي شتاءَ العام 2009.

التاريخُ الشخصيّ للإنسانِ لا يصنعهُ لوحده، قوىً وظروفٌ كثيرة تساهمُ في صياغة المسيرةِ وأناسٌ كثيرون. المسيرة التي قد تصبحُ في يومٍ من الأيامِ حكايةً تُروى. وإذا كان زمن التاريخ يمضي بلا توقّفٍ إلى الأمام، فإنّ اتخاذَ قرار الحديثِ عنه أو كتابته، أي رواية تلك الحكاية، يصبحُ تأريخًا، واتجاهُ زمنِ التأريخِ يُعاكسُ اتجاه زمن التاريخ، إذ هو يمضي إلى الخلفِ بغرضِ الاستعادة.

هنا حكايتي الشخصيّة مع سجن تدمر بعدَ مرورِ عشراتِ السنين على الدمِ الذي أريق فيه، وبعدَ أن شُذِّبَ ليصيرَ في أفضلِ حالاته.

هذه أفضلُ حالاتِ تدمر…

شباط (فبراير) 2009

كان مستحيلًا أن يذهبَ بي الخيالُ إلى حيث أنا الآن في ذلك اليوم، التاسع عشر من شباط 2009، وأنا أتحرّكُ مدفوعًا بأوامرِ «تسيير القيد» ومُحمَّلاً بشتائمَ لا تخطرُ في بالٍ، وبوعودٍ بنيلِ العقاب اللازمِ لتقويمِ السلوك والتأديب. كانت المُحاكمةُ المنطقيةُ معدومةً، والتفكيرُ محصورًا في كيفيّة «تسيير القيد»، العمليّة التي تعني تحريكَ اليدِ المصفودة على نحو رتيب إلى الأمام والخلف لِئلا تعلقَ الحلقات المحيطة بالجنزير المعدني الطويل، فتُعيقَ سلاسةَ مرورنا بينما نصطفّ خلف بعضنا بعضاً مانحينَ معاصمنا اليُمنى لتلكَ الحلقاتِ الضيّقة التي يمرّ منها ذلك الجنزير، كأننا خرافٌ أو عبيدٌ يُساقونَ مُقيَّدين إلى سوقِ النخاسة. وقد كُنّا في حقيقةِ الأمرِ، إذا أردنا وصفًا دقيقًا، أقربَ إلى الماشية، فيزيائيًا واصطلاحاً.

كنتُ قد عرفتُ من خلالِ الوجبةِ التي أدخلها لنا السجّان، وكانت تحتوي رغيفَ خبزٍ تُدلَقُ في وسطه ملعقةُ مربّى المشمش، وتُرمى فوقها على نحوٍ مثيرٍ للدهشة بصلةٌ يابسة، أنّها وجبة الإفطار، أي أنّ الليلةَ الغرائبيةَ التي قضيتُها في أحد أشهر السجونِ العسكرية السورية؛ «البولوني» في حمص، قد انتهت أخيرًا دونَ أن أُدركَ كيف سيكونُ شكلُ بقيّة اليوم. لم أستطِع أن أعي مدّة مكوثي في ذاك المكان المكسوّ بالرطوبة والقذارة، لكنني كنتُ أتمنى أن يطول بي المُقام في «البالوني» (حسب اللفظ الشائع لاسم ذلك السجن)، فهو سيكون أكثر رأفةً من الوصول إلى المكان الموعود بعده. لم تمضِ أكثر من ثلاث ساعاتٍ وفق تقديري حتى نودي باسمي من بينِ أسماء كثيرة للاستعداد، فقد جاءت السيارة التي ستمضي بنا في صحراءِ حمص باتجاه تدمر.

سَرّي القيد… فعلُ الأمر هذا لم يتوقّف حتّى صعدَ آخِرُ واحدٍ فينا السيّارة التي ستمضي خلالَ دقائقَ قليلة، أمامَ أنظارِ المارّة وسُكّان البناياتِ المجاورة، إلى مثلّث برمودا الخاص ببلادنا، أو أحد مثلثاتها!

الطريق

لم يكن صعبًا التمييزُ بين ركّاب السيارة (الصندوق) التي أقلّتنا في ذلك اليوم الشتويّ البارد إلى تدمر. كنتُ محشورًا مع نوعين من الناس في صندوقٍ معدنيّ بنافذتَين صغيرتين مشبّكتين: عساكرُ سجّانون، وعساكرُ مسجونون، والنوعُ الثاني ينقسمُ بدورهِ إلى فئتين: واحدة تحتوي أناسًا لم يسبق لهم أن زاروا السجنَ، وتقتصر معرفتهم بتدمر على الجانب النظريّ، وهي معرفةٌ مستمدّة إما من قراءات الكتبِ والمقالات التي كان سجن تدمر محورَها الأساسيّ، أو من خلال المُتداول الشفاهي خلال فترة الخدمة الإلزاميّة. والمعرفةُ في تلك الحالةِ بدتْ نقمةً أكثر منها نعمة، فقد كانت سببًا أساسيًا في القدرة على رسمِ صورةٍ مروّعة للمكان.

وأما الفئة الثانية، فقد كانت تضمّ عساكرَ يعرفون السجنَ وحياتَهُ حقّ المعرفة، إذ هم سجناء يتمّ إرسالُهم من تدمر إلى حمص إما بغرض العلاج في المستشفى العسكريّ، أو للمثول أمام المحكمة، وفي نهاية اليوم يُساقون مجددًا إلى سجن تدمر بعد انتهاء ما جاؤوا إلى حمص من أجله. وهؤلاء هم الأَدلِّاء، وُشاة التعليماتِ التي تَحفظُ  أجسادُهم آثارَ مُخالفتِها عن ظهرِ قلب.

يستغرق الطريق عادةً من حمص إلى تدمر بين ساعتين ونصف إلى ثلاث ساعات، تمدّدَتْ فيها الثواني وتقلّصَ الزمن، فبالتوازي مع الشعورِ بأنّ كلّ ثانيةٍ تمرّ تحملُ في داخلها رعبًا يَصعبُ أن يُصدّق الإنسانُ أنّ ثانيةً واحدةً يُمكنُ أن تكفي للشعورِ به، يتسرّبُ شعورٌ آخر من تفضيل الإحساسِ المُتخيّلَ بالرعبِ على الوصول إليه لمعايشته، ما يُحيلُ الزمنَ إلى نُثارٍ يتبدّدَ بسرعةٍ مذهلة، كأنّ المسافةَ وهمٌ محض.

أخبرَنا زملاؤنا الخبراءُ (جماعة الفئة الثانية) أنّنا لحظةَ نلمحُ آثارَ مملكة تدمر نكون على بعد دقائق من وصولنا إلى السجن. قالوا إنّ جماعة «السريّة» لن يطالهم الأذى، لكنّ علينا أن نُبقي رؤوسنا خفيضةً وعيوننا مصوبةً نحو الأرض، وأن نتجنّبَ النظر من النافذتين الصغيرتين المشبّكتين إلى الخارج منذُ لحظةِ اقترابِنا من «سورِ السجن العظيم».

والسريّةُ التي لن يطالَ «جماعتها» الأذى كانت سريّة التأديب العسكريّة، وهي عبارةٌ تُحيلُ في سوريا إلى مكانٍ مُحدّدٍ لا إلى تشكيلٍ عسكريّ. تقعُ السريّةُ في تدمر، على بعد أقل من كيلومترين من سجنِ تدمرَ العسكريّ شرقيّ المدينة.

لعلّ الفارقَ الأبرزَ بين سجنِ تدمر العسكريّ وسريّة التأديب، أنّ المدّة التي يقضيها العسكريونَ في السريّة يتمّ احتسابُها من مدّةِ خدمتهم الإلزاميّة، بينما يتّسمُ السجنُ العسكريّ بأنّ زمنهُ مهدورٌ تمامًا. حينَ يخرجُ العسكريّ من سجنِ تدمر بعد قضاء محكوميّته يعود لأداء خدمتهِ الإلزاميّة من حيثُ توقّفت لحظة حبسِهِ في الصحراء. فارقٌ جوهريٌّ وإن كانَ ليسَ وحيدًا، فالفروقات بينَ المكانين تمتدّ لتطال بعض القوانين. نزلاءُ السريّة مثلًا يُسمَح لهم بالتنفّس طوال النهار تقريبًا ضمنَ أسوارِ باحتِهم، بينما الحياةُ في سجنِ تدمر تقتصرُ على ما هو داخلَ جدران المهاجع، تقطعها فتراتُ تنفّسٍ قصيرة يقضيها السجناءُ في واحدة من باحات السجن، يأخذونَ شكلَ اصطفافٍ معيّنٍ ولا يتحدّثون كثيرًا خلالها، بل يكتفونَ بالفعل: التنفُّس!

بنزوات الصوديوم

لم أَتبيّن من المكانِ شيئًا، سوى أنهُ كان باحة صغيرة تتوسّطُ مجموعةَ غرفٍ يبدو أنّها لم تكن من بين مهاجع السجن، إنما مكاتب للمشرفين والعاملين فيه. أَنزلونا من السيّارة ثمّ أخذوا حصّتهم منّا، أي من أُحيلوا إلى سجنِ تدمر العسكريّ، ويحمل هؤلاء اسم «سُجناء»، أدينوا أو اتُّهموا بقضايا متنوّعة ابتداءً من الفرار من الخدمة الإلزاميّة وانتهاءً بتُهمٍ ذات طبيعةٍ جُرميّة، يتمّ إرسالهم إلى تدمر قبل أن يصدرَ قرار القاضي العسكريّ بحقّهم، في دائرة القضاء العسكريّ الملاصقة للسجن والمشتركة معه في المبنى.

بعد ذلك أَرجعوا حصّةَ سريّةِ التأديبِ إلى السيّارة الصندوق، لتُفرغ حمولتها هناك إلى الغرب من السجن العسكريّ. يُسمَّى نزلاءُ سريّة التأديب «عسكرًا مُعاقَبين»، وبهذا اللقب تُعرِّفُ بنفسِكَ في أيّ مقابلةٍ مع أي شرطيّ أو ضابطٍ داخلَ السريّة: العسكري المُعاقب فلان. وقد كنتُ من بينِ هؤلاء الذين لا يحملون أجرامًا، وليسوا «فرارية» وفق التعبير الشائع، إنما يتمّ إرسالُهم وفق قرار من قادةِ تشكيلاتهم العسكريّة، نتيجةً لسوء السلوك أو قلة الانضباط، أو لغايةٍ في نفسِ أولئكَ القادة!

وصلنا أخيرًا، وما كانت ضرباتُ القلبِ تتسارعُ بسببِ اقترابِ حدوثِهِ صارَ حقيقةً الآن. أَنزلونا في مكانٍ ذي أبنيةٍ أفقيّةٍ تُشبهُ المداجن (يا لدقّةِ الاسم!) مُوزَّعة بشكلٍ بدا عشوائيًا على مساحتهِ الكبيرة. عرفتُ من الأشجارِ القليلة الضخمةِ المبعثرة في أرجائهِ شجرَ الكينا، ولم أعرف أنواع البقية. استقبالُنا تمّ على مراحل، صَفّونا في طابورٍ طويلٍ وطلبوا منا أن نخلع ملابسِنا ونشبكَ أيادينا خلفَ رؤوسنا، وأمامَ الطابورِ يقفُ شاب طويل أسمر يحملُ موسَ حلاقةٍ قديم، تبيّنَ أنّهُ يستعدّ لحلاقةِ شعرِ أجسادِنا بالتتالي باستخدامِ شفرةٍ واحدة. ثمّةَ مفاجآت صغرى لا يتخيّلها العقلُ البشريّ السوريّ حينَ يُقالُ لهُ إنهُ ذاهبٌ إلى مكانٍ مثل سجن تدمر ومُلحقاته، كأن يُفرَضَ عليكَ العريّ التامّ أمام أعينِ عشرات الناسِ الذين لا تعرفهم. انتهاك صارخ لما يَعتقدُ المرء أنها أسرارُ جسده. إفشاءٌ علنيٌّ قسريٌّ لما عاشَ الإنسانُ عشرات آلاف السنين وهو يسترُه، منذُ أوراقِ الأشجار حتى بدايات القرن الواحد والعشرين.

بالإضافةِ للمُعاقَبين، كان هناك بضعة عساكر يرتدون البدلاتِ ذاتِ الشاراتِ الحمراء الخاصّة بعناصر الشرطة العسكريّة، يُرافقُهم شبّانٌ آخرون قُساة الملامحِ وذوو هيئة رثّة يرتدونَ لباساً موحّداً عُرفَ لدى السوريّين بـ «بدلة العمل»، وهي بدلات ذات لونٍ بتروليّ أبرش، لا خاكيّ أقربَ إلى اللمعان كسائرِ البدلاتِ العسكريّة السورية؛ كانَ واضحًا أنّ عناصرَ الشرطةِ العسكريّةِ أصحاب اليد العليا في المكان.

كنتُ تقريبًا في مؤخرةِ الطابور، اقتربَ منّي رجلٌ كبيرُ السنّ نحيلُ القوام أشيبُ بشاربينِ مفتولين، تُميّزه عن البقية هيئتُهُ إضافةً لبدلته الكوريّة (لا غنى عن استخدامِ غوغل لمعرفةِ هذا النوع من البدلات العسكرية) التي لم يكن يرتدي مثلها أحدٌ سواه؛ سألني عن اسمي فأجبته، وحينَ عرفَ أنني من السويداء نادى أحدَهم «تعوا احلقولو هون … هذا من عنا من السويدا، بيستحي». شعرتُ برغبةٍ بالتقيؤ، كرهتُ الرجلَ الأشيبَ ابنَ مدينتي العزيز، ولعلّي أردتُ أن أُثبتَ لسببٍ مجهولٍ عكسَ ما قاله، فأنا لم أستحِ لأنني من السويداء، بل لأنّ هذا ما يجبُ على أيّ بشريّ يعرفُ ما يجري في مكانٍ مثل تدمر أن يشعرَ به، فماذا والحال أنّهُ يعيشهُ بنفسه؟! كنتُ خِجلًا بإنسانيّتي ومنها، علاوةً على ذلك الشعورِ بأنّ ما جئتُ بسببه إلى سريّةِ التأديب لم يكن في الأعرافِ الاجتماعيّة السوريّة يدعو إلى الفخر آنذاك: سوءُ انضباطٍ خلال الخدمةِ الإلزاميّة وهروبٌ متكررٌ وبلادةٌ واستعدادٌ للجدلِ مع ضبّاطٍ لم يكن ذلك سلوكًا سائدًا في أعرافِهم. فما كانَ من أحدِهم بعدَ أن سئمَ وجودي في دائرةِ مرؤوسيه إلا أن قرَّرَ إرسالي لقضاء ستة أشهر في ذلك المكان الصحراويّ ذائع الصيت.

المرحلةُ الثانية من الاستقبال بدأت مع أخذنا إلى الاستحمام، ثمّ دهنِ أجسادِنا بـ «بنزوات الصوديوم»، العقار الذي قيلَ لنا إنه يَقي من الجرب والأمراض الجلدية، ولم نكن في وضعٍ يَسمحُ لنا بالتأكد من صحّة المعلومة طبعًا: بنزوات بنزوات… ادهنوا!

تمَّ إرسالي إلى الباحةِ السادسة، وهي تقعُ في الجهة اليسرى بعد تَجاوُزِ مدخل السريّة الرئيسيّ بنحو ثلاثمائة متر، ولدخولها كان عليَّ أن أدخلَ باباً ضخمًا يفتحُ على مربّعٍ كتيمٍ ذي جدران مرتفعة، في صدرهِ بابٌ آخر عليَّ أن أتجاوزه. المساحة المربّعُ هذه كانت تسمّى «بين البابين»، وبينهما تُعادُ عمليّة التفتيش مجددًا، تُؤخَذُ متعلّقاتُ العسكريّ وثيابه التي يرتديها، ويُعطى مكانها واحدةً من البدلات البتروليّة التي شاهدتُ أناسًا يلبسونها خلال تشريفة الحلاقة المذلّة!

أنا الآنَ في تدمر…

يقضي العسكريّ خدمتَهُ الإلزاميّةَ كلّها تحتَ تهديدٍ دائمٍ بالذهابِ إليه، ويقضي أهلُ تدمرَ زمناً أطول (من المرجَّح أنّهُ لن يتوقّف قريبًا) في إقناعِ بقيّة خلقِ الله بفصلِهم كبشرٍ عن سيرةِ السجنِ الذي مُنيوا بهِ على أرضِهم!

سريّةُ التأديبِ لا تُشبهُ السجنَ العسكريّ كثيرًا، يُمكنُ أن نستعيرَ للتمييز بينهما تعبيرَ الراحل رياض الترك عن الفارق بين السجن في زمن آل الأسد والسجن أيام الوحدة بأنّ الأولَ يُعتَبرُ «سَلَطة» قياسًا بالثاني. والسريّةُ «سَلَطة» قياسًا بالسجن، لا عقوبات ممنهجة يوميًا، ولا اعتيادَ على سماعِ صراخِ الذين يتعرّضونَ للتعذيب. قد يدخلُ الإنسانُ سريّةَ التأديب ويخرج منها دونَ أن يتعرّضَ لأذىً جسديّ مباشر، وقد يخرجُ البعضُ دونَ أذىً لفظيّ أيضًا. كانَ هذا الوضع- على الرغمِ من الرّعبِ والثِّقل النفسيّ الذي يخلّفهُ التواجدُ في جغرافيا واحدة- هو الكُحل بالنسبةِ لي، قياسًا بالعمى الذي يُعاشُ يوميًا فيما يُعرفُ بالـ «الشرقي».

«الشرقيّ» هو الاسم المتعارف عليه لسجنِ تدمر العسكريّ الواقع شرقيّ المدينة، والذي يحوي أيضًا دائرة القضاء العسكريّ. وبما أنّ لكلّ شرقٍ غرباً، كان لا بدّ لي منذ وطئتُ أرضَ الباحةِ السادسة أن أعرفَ أنّ هنالكَ غربيًا ما لذلك الشرقيّ. قالَ لي شابٌ ذو ملامحَ قاسية كان يُسجّلُ بياناتي ويأخذُ مني ملابسي والمُتعلِّقات الشخصية ويُشرِفُ على حصولي على الملابس الخاصة بالمكان، أنّ أصعبَ ما في سريّة التأديب هي احتماليّة «التغريب»، ومنهُ أيضاً عرفتُ أنّ الغربيّ هو المكان الذي يحتوي أماكنَ استحمامِنا، ولكنّهُ يحتوي أيضًا سجنًا يُرسَلُ إليهِ المغضوبُ عليهم في «الشرقيّ»، بالإضافةِ إلى من يُرسَلُ إلى سريّة التأديب لأكثر من مرّة، عندئذٍ لا بدّ من «تغريبه» بما أنّ السريّةَ لم تُفلح في تأديبِهِ في المرّةِ الأولى. قال لي إنّ الغربيّ يحوي «سواليل» تحت الأرض، وحفلاتُ العقوبات فيه ليليّةٌ، والتنفّسُ أيضًا، ولا يحقّ لسُجنائه الخروج من الأقبية خلال ساعات النهار، ما يعني أنّ أجسادهم لا تلمسها شمسٌ طيلة مَحبسهم.

سوفَ أختبرُ ذلك بنفسي فيما بعد، إذ كنتُ شاهدًا على دخولِ عسكريّ مُعاقب نحيل إلى سريّة التأديب لقضاء عقوبةِ شهرين فيها، وكانت تلكَ زيارتهُ الثانية إليها، ما يعني «تغريبه». لم أصدّق عينيّ عند خروجِ الشاب بجسدٍ متهالكٍ سَحَبَ غيابُ الشمس منهُ اللونَ، فصارَ أبيضَ تمامًا على نحو لم أشاهدهُ حتّى على الموتى.

سيمضي عقد ونصف تقريبًا لأعرفَ أنّ هذه المعلومة ليست الأقسى نفسيًا، أي أننا كنّا نستحمّ فوقَ الأرضَ التي يختفي تحتها أناسٌ آخرون، يموتُ بعضهم في الأسفل، والأكثريّةُ التي يُقدَّرُ لها أن تنجو تخرجُ بلا ألوان ولا ملامح!

قضيتُ ستّةَ أشهرٍ كاملة في باحةٍ يفصلُها عن «الغربي» جدارٌ شاهقٌ، وعن بيتِنا حوالي ستّمائة كيلومتر، كان والداي وأخي يقطعون ضِعفَها كلّ شهرٍ لزيارتي.

الزيارةُ في السريّة كانت مختلفةً هي الأخرى عن تلك التي في «الشرقي»، ففي السريّة يَعرفُ المرءُ قيمةَ «فضيلة اللمس»، إذ يمكنُ «للمُعاقَبِ» مُجالسة زائريه، لمس أيديهم وحضنهم. كان ذلك نعمةً على أي حال، رغم أنّ شعورًا مريرًا بالعارْ كان يمشي معي كلّ مرّةٍ طوالَ الثلاثمائة متر التي تفصلُ الباحةَ عن مدخل السريّة ومكان الزيارة.

حينَ نوديتُ كاتبًا للمرّةِ الأولى

في اليوم الذي يتلو وصول المُعاقَبين إلى سريّة التأديب، يُساقونَ إلى مكتبِ المقدّمِ قائدِ السريّة، وهو أعلى رتبة ومنصب في المكان، ويُمكنُ تَخيّلُ معنى مقابلة مُقدّم في مكانٍ يقالُ فيهِ للرقيب المجنّد سيّدي، وأي جملة يُخاطبُ فيها عسكريٌّ مجنّدٌ يجبُ أن تُفتتح بـ«حضرة»…

بعدَ أن وَبَّخني المُقدَّمُ بسبب قلّة انضباطي التي أدّت إلى إرسالي لمدّة ستّة أشهر إلى سريّة التأديب، على الرغم من أنني جامعيّ «يعني مُسقّف» حسبَ زعمهِ، وبعدَ أن ادّعى أنّهُ سمِعَني حينَ شرحتُ لهُ ما كان يجري خلال خدمتي العسكريّة، أنهى بوعود جديدة بالويل والثبور إذا ارتكبتُ أيّ مخالفات، ثمّ أبلغني أنّ ثمّة من اتّصلَ يوصي بي، وبما أنني «مُسقّف» فلا بدّ أنني أجيدُ اللغة الإنكليزية، وتَجبُ الاستفادة من إمكانيّاتي، قال لي: رح نحطّك بغرفة الكُتّاب، ثمّ أنهى كلامه بتكرار الوعيد إذا خرجتُ عن النصّ.

لم يَطُل تساؤلي عن سبب الحاجةِ إلى اللغة الإنكليزية في سريّة التأديب. فورَ عودتي من المُقابلة شرح لي الشابُ نفسُهُ ذو الملامحِ القاسيةِ، الذي استقبَلني عند دخولي الباحة السادسة، أنّ من مهامِ الكُتّاب، كما هو واضحٌ من اسمِهمْ، أن يكتُبوا!

يتضمّنُ ذلك كتابة بياناتِ المُعاقَبين في مصنّفاتِ الباحةِ السادسة، بياناتهم الشخصيّة كاملةً، بالإضافةِ إلى تسجيلِ كلّ ما يحملون من ملابسَ ومتعلّقاتٍ شخصيّة. أمّا الحاجةُ للّغةِ الإنكليزية، فلتسجيلِ ما يُسمَحُ بدخوله للمعاقبينَ في سجلٍّ خاص؛ يحدثُ ذلكَ في منطقةِ بينَ البابين، قُبيل ولوجِ الباحة، خلال مرحلة التّفتيش التي يخضعُ لها المُعاقَبونَ عند عودتهم من الزيارةِ القصيرةِ التي يلتقونَ خلالها بذويهم: الأطعمةُ الجاهزةُ كان مسموحاً إدخالُها، بينما المطهوّةُ فلا، الزيوتُ مسموحة، الخضار والفاكهة، البهارات ومُغلّفات الشامبو الصغيرة (شاعت في سوريا بعد وفاة حافظ الأسد كشكلٍ من أشكالِ التحديث) ومغلّفات العصير الصناعيّ، كلّها أشياء لم يَطُلها الحظر، وقد يحتاجُ بعضُها كالشامبو والعصائر إلى كاتبٍ يعرفُ اللغةَ الإنكليزية ليكتبَ أسماءَها في السجلّ كما هي مكتوبة تمامًا. ولحسنِ الحظّ أو لسوئهِ فقد كنتُ أمتلكُ المؤهلات والواسطة اللازمة لشغل المنصب: كاتب زيارات!

مَكّنتني وظيفتي تلك من الاحتكاكِ مع كلّ مُعاقَبي الباحة السادسة، وهو ما لم يكن مُتاحًا لغيري، ففي سريّةِ التأديب نوعانِ من المُعاقَبين، وفي الباحةِ السادسة لم يكن مسموحًا التواصل أو الاحتكاك بينهما: الأولُ يُسمّى بالـ «مُفرَزينْ»، وهؤلاء عقوبتُهُمْ محدّدةُ المدّة، يقضونها في السريّة ثمّ يعودون إلى قطعاتِهم العسكريّة لإتمامِ خدمتهم الإلزاميّة، والثاني يحملُ صفة «مَلَاكْ السريّة»، والمُعاقبونَ من هذا النوع إما أنهم أُحيلوا من السجن العسكريّ إلى السريّة بعد انقضاء محكومياتهم، أو ضاقَ قادةُ قطعاتِهم بهم ذرعًا فأرسلوهم بتذكرةِ ذهابٍ دونَ عودة إلى سريّة التأديب، يُتمّونَ بين جدرانِها المرتفعة وتحت سمائها المحجوبة بالأسلاكِ الشائكة كلَّ شهورِ خدمتهم الإلزامية. كأنّما تمّ نقلُهم من قطعةٍ عسكريّةٍ إلى أخرى، لكنّ هذه الأخرى سجن، لا يخرجونَ منهُ إلّا إلى بيوتِهم بعد نهاية الخدمة الإلزامية، ما يجعل حظوتُهم أكبر لدى الشرطة والمشرفين والمسؤولين، إذ إن وجودَهم قد يطول، ما يفتحُ باباً لصيغة تعايشٍ بينهم وبين السجّانين، ويُغلِقُ بابَ احتماليّة «التغريب» المروّعة، إذ ليس هنالك فرصة لتكرار مجيئهم إلى السريّة. بينما يظلُّ المُفرَزون مهجوسين بالعلاقةِ التي ستكونُ مع قادةِ قطعاتِهم بعد انتهاء فترة عقوبتهم، وبأنّ مصيرَ عودتِهم إلى السريّة مرةً أخرى ليس في يدِهم.

الغربيُّ كانَ رعبَ السجينِ في تدمر… ولسوء الحظّ، فقد كان البابُ الصغيرُ الذي يُفضي إليه موجوداً وسط أحد الجدران الضخمة، في المكانِ نفسه الذي يجلسُ فيهِ كاتبُ الزيارات بينَ البابينْ.

عرفتُ ذلكَ في أول يوم عمل لي ككاتب زيارات، حينَ نُوديتُ:

حَرّيـــــــــــــك كاتب تمّااااام لبين البابين!

كانت تلك المرّة الأولى في حياتي التي أُنادى فيها كاتبًا. في سريّة التأديبِ العسكريّة في تدمر!

اللغة في تدمر

تتغيرُ الحياةُ كلُّها مرّةً واحدةً في تدمر.

السيّاحُ، أصحابُ السراويلِ القصيرة وزيوتِ الوقايةِ من الشّمس والكاميرات ذات العدساتِ التي تلتقطُ أدقّ التفاصيل، والأركيلوجيون الذين يقودُ فضولُهم خطاهم إلى تلك الصحراء لتفحُّص الآثارِ واستعادة ماضٍ سحيق لا تُفلحُ محاولات الحاضر في تركِهِ يمضي، لا يستطيعونَ معرفة ما هو داخل تلك الأسوارِ العالية إذا صودفَ ومرّوا على مقربةٍ منها خلال زيارتهم إلى تدمر.

ثمّة حياةٌ مُوازيةُ تُعاشُ هناك، حياةٌ متقشّفة قاسية، والمئات، أو الآلاف من الذُّكورِ يتمّ سحقُ شخصيّاتهم في الداخل. وهم لا يُحاولون خلقَ أسباب للحياة، إنما يخلقونَ حياةً كاملة، بلُغتِها وطُرقِ عيشِها وتفاصيلِها، ذلك أنّ سبب الحياةِ واحدٌ بالنسبةِ لهم جميعًا: الخروج.

يبثُّ المعاقبون في أنفسِهم ذلك الأملَ من العدم، كان المُتداولُ الأكثر شيوعًا بينهم عبارة: بالأخير بدنا نطلع… حتى لو توابيت!

لا يجرؤ أحدٌ أن يُنهي طعامَهُ في تدمر بالمفردة السوريّة الشائعة: دايمة. فقد يتلقّى توبيخًا من أحد الجالسين: دايمة ببيت أهلك! قبل أن يصحّحَها لهُ مُستخدمًا تلك العبارة التي صارت عنوانًا لكتاب ياسين الحاج صالح عن تجربته في السجن: بالخَلاص يا شباب.

الخَلاص هو السبب الوحيدُ الذي يعيشُ الإنسانُ من أجله. حتى لو كان على حسابِ كلّ التراث الاجتماعيّ الأصيل، الشفاهيّ منه والمكتوب.

للسجن لغتهُ وتعابيره وتراكيبه الخاصّة، وقد تناولَتْ كتابات السجون وشهادات السجناء مُعظمَها. بِدءًا من «الشحّاطة» التي يَتحوّلُ اسمُها هناكَ إلى «البحريّة»، مرورًا بتغييراتٍ أخرى كالتي تَطالُ الأفعالَ البيولوجيّة، فالتبوّلُ هناك «جنحة» والحابسُ إذا أرادَ التبوّل يقول إنّه ذاهب ليُجنِّح! بينما يُعتبرُ التغوّط جناية!

لكنّ أكثرَ ما أثار اهتمامي كان استخدامَ كلمة «بطاطا» كصفة، بالإضافة إلى استخدامِها الطبيعيّ. بل إنّها تُستَخدمُ كصفةٍ بسبب كثرةِ استخدامِها الطبيعيّ.

تُطلَقُ صفةُ «البطاطا» في تدمر على الشخص الذي يَسمحُ للآخرين أن يشتموه في «عِرضِه وشرفه»، أو لا يُلقي بالًا لشتيمتِهِ بأمّهِ وأختِه وزوجهِ. وفي مجتمعٍ كاملٍ من الذكور المُنتهَكين ومَنزوعي الكرامة الإنسانيّة، لا شرفَ يُخشى عليهِ إلا في سيرة النساء. غيابهنّ، وانعدام احتماليّة تواجدهنّ في مكانٍ مثل ذاك، كان يصونهنّ ويجعلهنّ الأكثر شرفًا. أما الشخصُ «البطاطا» فلا يرغبُ باختلاقِ أوهامٍ تتعلقُ بالحفاظِ على الشرفِ والعرض… إلخ.

إنهُ يُدركُ تمامًا أنّهُ مُنتهَكٌ حتّى نقيّ عظامه.

ولا يقلُّ سببُ استخدامِ البطاطا كصفةٍ مأساويّةً عن استخدامِها نفسه، فعشاءُ السجناء اليوميّ هو البطاطا، وبما أنّ السجناء يُدرِكون أنّهم في واحدٍ من أشدّ الظروف البشريّة ضِعةً وانحطاطاً، بالإضافةِ إلى كونِهم زائدينَ عن الحاجةِ الإنسانيّة، فهم يُدركونَ أنّ البطاطا ما كانت لتكونَ عشاءهم اليوميّ لو أنّها باهظة الثمن، أو على نحوٍ أدقّ: لو لم تكن الأرخصَ على الإطلاق.

كانَ على المُعاقبين الذين ليسوا «بطاطا» أن يُثبتوا ذلكَ كلّما استدعت الحاجة، حتى لو اضطُرّهم الأمر إلى تحدّي الشاتمِ الذي قد يكونُ أحدَ السجانين، مما يعني وجودَ احتماليّةِ لعقابٍ جسديّ عنيف.

قد يتحوّلُ المرءُ إلى بطاطا لمجرّدِ أن يسمعَ أحدًا يقولُ لهُ «عرصا» دونَ أن يردّ ليُثبتَ العكس!

البكاء الذي لا يُفارقُ السيرة

لطالما قلتُ إنّ سيرةَ تدمر بالنسبةِ لي لم تكن سيرةَ العنفِ الجسديّ التي رُويَتْ دائمًا في كتاباتِ السجون. لم أتعرّضْ للضربِ خلالَ ستّة أشهرٍ في تدمر إلا مرة واحدة، قُبيلَ خروجي بحوالي أسبوعين، على يدِ مُلازم مجنّدٍ طبيب من السويداء. وكانت لأنني احتججتُ على مناداتي بـ «عرصا».

حاولتُ بعدها الثأرَ لنفسي يومَ خرجتُ وقادتهُ مصادفةٌ لا أظنها كانت سعيدة بالنسبة له إلى أن نستقلَّ الحافلة نفسها من تدمرَ إلى دمشق، ظُهرَ يومٍ قائظٍ من آب 2009. فقد اخترتُ لنفسي مقعدًا خلفهُ بعد أن أوحت لي عيناهُ أنهُ تذكَّرَ شكلي، فقد أوضحتُ لهُ يومَ صفعني أننا من مدينةٍ واحدة، وكنتُ أقصدُ أننا قد نلتقي في السويداء. أردتُ بثّ الرعبِ في نفسهِ فحسب، أردتُهُ أن يعيشَ قلقًا من احتماليّة أن أكون من أولئكَ الذين يثأرون.

كنتُ قد وضّبتُ نفسي للخروج صباحًا، استلمتُ ملابسي ومُتعلِّقاتي الشخصية. كان ارتداءُ البدلة العسكريّة يعني بالنسبةِ لي في تلكَ اللحظة أنني صرتُ حرًا. يا للتعاسة!

ودّعتُ الزملاء. السيئون منهم والطيبون، المجرمون والمظلومون، بكيتُ حينَ سلّمتُ على أبي علاء، أمين مستودع السجائر في أحد المهاجع، الرجل الذي كان يَكبُرُني بحوالي عشرين عامًا، والذي لم تجفّ دمعتُهُ حين ماتَ العصفورُ الذي كان يربّيهِ في قفصٍ صغير داخل المهجع. وبكيتُ ثانيةً حين وقف قبالتي قبل خروجي من الباب مُعاقبٌ من ريف دمشق كان يحملُ أجرامًا شائنةً، وقالَ لي بعينين دامعتين: الله يخليلك عيون الحَجّة على قدّ مانك ابن حلال!

وبكيتُ ثالثةً حين صرتُ خارج الأسوار، لحظةَ تجاوزتُ الحاجزَ المعدنيّ، فسمعتُ صوتًا ينادي: الحمد لله ع السلامة يا معلّم. التَفَتُّ لأجدَ شابًا ذا لحيةٍ وبلا شاربين، بملامحَ طيبة وعيون لامعة، وقد منعني شكلُهُ هذا من معرفة أنهُ لم يكن سوى أحمد، الشاب الحمويّ المُتديّن، والذي كان ذا ملامحَ قاسية حينَ استقبلني لحظة دخلتُ الباحة السادسة قبل ذلك بستة أشهرٍ كاملة.

لم تكن علاقتي بأحمد، رئيس غرفة الكتّاب في الباحةِ السادسة، علاقةً عاديّة، فبعد أن أعطاني الحظُّ وَجهه وفعلَتْ «الواسطة» فعلها وساهمَتْ بأن أتبوّأَ منصب كاتب الزيارات، صرنا ننامُ في غرفةٍ واحدة، يتراوحُ عددنا فيها بين الخمسة والستّة، مما ساهمَ في قضاء وقتٍ طويلٍ معًا. كان يُحبُّ الشعرَ، وذا صوتٍ رخيمٍ إذا أنشدَ «هاتِ يا حويدَ الركبِ»، أو حين يكادُ يبكي وهو يصرخ: على أيِّ دربٍ يا أميمُ يروحُ … مُحِبٌّ لهُ بين الجمائدِ روحُ.

كان أحمد قد خرجَ قبلي بقرابة ثلاثة أشهر، في الأول من حزيران (يونيو) 2009، ولكنّ تاريخَ خروجي ظلَّ على نحوٍ غير مفهومٍ بالنسبةِ لي مُخزَّناً في ذاكرته، وقد قطعَ ساعاتٍ يومَها من قريتِهِ في سهل الغاب إلى صحراء تدمرَ لاستقبالي لحظة خروجي.

يعيشُ أحمد اليومَ في مخيّمٍ للّاجئين شمال سوريا، عرفتُ ذلكَ قبل سنتين، حينَ استطعتُ الوصولَ إليهِ عن طريقِ صديقٍ مهتمّ بسيرةِ سجنِ تدمر، منذُ أن كانَ سجنًا للسياسيين في الثمانينيات، حتّى تحوّلَ إلى سريّةِ تأديبٍ عسكريّة ولم يعد يستقبل السياسيين في مطلع الألفيّة الحالية.

وإذا كنتُ في بدايةِ هذا النص قد قلتُ إنّ معلومة «أننا كنّا نستحمّ فوقَ الأرضَ التي يختفي تحتها أناسٌ آخرون» لم تكن الأقسى نفسيًا بالنسبةِ لي، فلأنّ صديقي، المُهتمَّ بسيرةِ السجن، أرسلَ لي قبل نحوِ عامين خريطةً لسجنِ تدمرَ السياسيّ خلال حقبة الثمانينيات، حاولَ أحدُ الناجينَ منهُ أن يرسمها بناء على ما تُسعفُهٌ ذاكرته، وأرادَ صديقي المقاطعة بين الصورة التي رسمتها ذاكرة السجين الناجي وبين السيرةِ التي رويتُها لهُ عن سريّة التأديب.

بعدَ دقائق من محاولتي تَذكُّرَ شكلِ المكان، عرفتهُ بالفعل. قادني إلى تَذكُّرهِ الطريقُ الذي يصلُ مدخل السريّة بالباحة السادسة التي كنتُ فيها، ومنطقةُ بين البابين تحديدًا.

عرفتُ المكانَ تمامًا. باحةُ المَلاكِ وباحةُ المُفرَزين. مكتبُ المساعد. مهاجع المستودعات. وباحة الطعام.

باحة الطعامِ تلك، حيثُ كنّا نتناولُ ما يُبقينا على قيدِ الحياة، كانَ مكتوباً في أسفلها في الصورةِ التي رَسمَتْها ذاكرة السجين: مكانُ تنفيذ الإعدام!

إذًا، فقد كانت سريّة التأديب العسكريّة هي لا سواها السجن السياسيّ الذي ابتلع أرواحَ كثير من السوريين لأسباب سياسية، وقد كنّا نأكلُ طعامنا في المكانِ ذاتِهِ الذي شهدَ إعدامَ آخرينَ قبل حوالي ثلاثة عقود.

هل كانت سوريا منذُ أكثر من خمسينَ عامًا إلا شيئًا يُشبهُ الباحة السادسة؟