عادةً ما يتم اختزال فترة الطفولة في نعوتٍ جمالية هشّة، ألفاظٌ على شاكلة البراءة والنقاء والسذاجة؛ تُغذّي صورة اجتماعيّة وجمالية بِعينها، فتخلق تصوّراً نمطيّاً لطور الطفولة في جميع مراحله المُبكرة والمتأخرة. وعلى الرغم من الإشكال الذي تُثيره المفردات المُجرّدة عند محاولة تناول الطفولة بطريقة مُحايدة؛ لأن تأثيرها مُمتد وطبيعتها سائلة تأخذ أنماطاً ربما تبدو مُختلفة بعض الشيء داخل كُل مُجتمع حسب خصوصيته الاجتماعيّة، ولكنها بالطبع تتعاطى مع الطفل من منظور واحد يَنزعُ للخير والجمال والسذاجة، أي ما لا يقع في حيّز الصواب أو الخطأ القطعي. بل ربما تكون هذه الألفاظ هي الأقرب لتوصيف أطفالٍ في طور التكوين، ولكن على الناحيّة الأخرى؛ يجب علينا بالضرورة دراسة المرحلة خارج النمط الاجتماعي السائد، ودفعها داخل حيّز ظواهر أخرى أكثر تطرّفاً، لا يجوز تعميمها، ولا يُمكن إقصائها أو إغفال تواجدها على الساحة بشكل مُثير للاهتمام، فهي حاضرة ومرصودة داخل الأرشيف كنماذج استثنائيّة.
يُحفّز التصوّر السائد لطور الطفولة استجابة عكسيّة، مُضادة، وأشد تطرفاً إزاء أفعال تقع خارج حيّز المرصود، المُمكن تخيّله وفرضه لنماذج الأطفال البُلهاء السُذّج. يتنبأ الكِبار بنموذجٍ سائد للأطفال يتّسق بشكل جذري مع الحياة الاجتماعيّة؛ يتطلّعون لتحقيقه داخل أنماط ترفُض العُنف في أشكاله المُتطرّفة، وفي حال وقوع حوادث مُتطرفة، خارج السياق المُحدد والآمن، يكون رد فعلهم عكسياً، مُعاقِباً ومُراقِباً على حسب طبيعة الفِعل، بيد أن المُمارسات الأشد تطرّفاً تواجه استهجاناً اجتماعياً جمعيّاً ومُستحقاً، فالمُمارسات ذاتها تمسُّ أمن المُجتمع ككُل، وتُخل بالمنظومة الأخلاقيّة والإنسانية إذا ارتكبها شخص بالغ، ولكن أن يقوم بذلك طفل! الأمر أشبه بهجوم صريح على المنظومة ككل. حوادث قتل الأطفال للكبار، أو قتل الأطفال لأقرانهم، تُثير فوضى اجتماعيّة؛ عليهم أن يُزيحوا الصورة الملائكيّة للطفل الجاني وتجريده من امتيازاته الجماليّة وصورته المعهودة لمحاكمته بما يتناسب مع فظاعة الجريمة، بيد أن الأمر لا يتوقف عند ذلك، فارتكاب طفل لجريمة شنعاء يُثير لديهم الإحساس بالمسؤوليّة الأخلاقيّة والاجتماعيّة. فعلٌ مثل هذا يهدم المنظومة الأخلاقيّة والصور التقليديّة للطفل، ما يُخلّف شعوراً بالخطر يدفع المنظومة لمُمارسة حيل لفظيّة لحبس تلك المُمارسات والأفعال المُتطرّفة في خانة مُحدّدة. توصيف الجرائم بعناوين جذّابة ومُثيرة للهلع في آنٍ واحد يحفّز صورة مُعيّنة داخل عقل الجمهور، عناوين مثل «جريمة القرن» ووصف القاتل بـ«الوحش» أو «الشيطان» رغم أن جرائم مثيلة تُرتكب من قِبل الكِبار دون أن تأخذ الحيز نفسه من العنف اللفظي الموجّه، ولكن هل من الجائز أن يكون الطفل شريراً؟ الحقيقة أننا لا نود الإجابة على هذا السؤال، ليست قضيّتنا، بيد أن الموضوع ذاته يمسُّ النُقطة التي نتعرّض لها اليوم؛ الأطفال في أفلام الرُعب، من خلال طرح بعضٍ من ملامح حضورهم داخل إطار سينما الرُعب، ثُم فَرد نموذج فيلمي يتعاطى مع المسألة بشكل مُباشر، فيلم الأبرياء (The Innocents) النرويجي للمُخرِج إسكيل فوجت.
تحصر سينما الرُعب أوجُه تناولها للأطفال داخل أشكال مُعيّنة نظراً للنوعيّة الفيلميّة، مقسّمة ــ في معظمها ــ إلى ثلاثة أنواع رائجة؛ الأول يتعاطى مع الطفل كوسيط مرئي يربط بين عالمين، وعاء مجوّف مرصود من قِبل القوة الروحيّة أو الماورائيّة المُتمثلة في الشيطان أو اللّعنات، والتي ترى جسد الطفل وروحه مُحيطاً مثالياً للاستحواذ، ومناخاً نموذجياً لمُمارسة أهدافها. ورُبما يرجع حضور تلك النوعيّة بكثرة في السينما كانعكاس للتصوّر الطبيعي لكينونة الطفل غير المُكتملة، جسده الهش وروحه البريئة بالإضافة لعدم امتلاكه للأدوات الداخلية والخارجية التي تؤهله للدفاع عن نفسه. إذاً فالنمط السينمائي الأول، جُزء منه؛ نتاج صريح لتصوّرنا عن الأطفال، فهُم غير قادرين على الإقدام على فعل الشر، لا يملكون وعياً بالشر أصلاً، بيد أنهم من المُمكن أن يتحولوا لأدوات تُطوَّع بسهولة لممارسة الشر، خصوصاً مع انتشار الحكايات الشعبيّة عن حيّازة الجن والشيطان لأرواح وأجساد البشر، وبناءً عليه، فأرواح الأطفال أبسط وأسهل من حيث السلب والتملّك، بالإضافة لكونها بيئة خصبة أكثر مُلاءمة للاشتباك مع الكِبار والبالغين، لصعوبة الشّك فيهم كحاضنين للشياطين أو الكيانات الماورائيّة، ما لم يصدُر عنهم ما يوحي بذلك، على اعتبار أن المُجتمع ذاته ينظُر لهم كأنصاف بشر، بُنىَ غير مُكتملة نفسياً وجسدياً؛ غير قادرة على تطوير إرادة حُرّة حتى عُمر مُعيّن. إذاً فهُم مسلوبو الإرادة بشكل قسري؛ ما يُثير تعاطفاً مجّانياً اتجاههم، ويجعلهم شخصيّات مثاليّة للتوظيف داخل سرديّة أفلام الرُعب المعهودة، كوجهٍ بريء مخادع ومُضلل، لينتج عنها أشهر أفلام الرُعب الأوروبية والأميركية، التي تتعاطى مع فكرة الطفل ككيان ملبوس، ممسوس من قِبل الشيطان مثل: The Exorcist عام 1973، وThe Omen عام 1976، والكثير من الأفلام والسلاسل الأخرى الجديدة والقديمة التي تتناول الفكرة ذاتها، وتجد رواجاً هائلاً على المستوى التُجاري.
يتعاطى النمط الثاني من أطفال سينما الرُعب مع فكرة الانعكاس الاجتماعي، وتتعرّض بشكل مُباشر للذات الطفوليّة في عالمٍ قاسٍ. تُحاط شخصية الطفل في هذا النوع من الأفلام بمؤشّرات وعناصر غير صحيّة؛ أطفالٌ مطوقون بمناخ سام، يطورون وعياً مُستقلاً بمشاكل عالمهم، بعيداً عن وعي الكِبار المُغرق في الفساد العالمي. إقصاء الأطفال في هذه العوالم، وتهميش حضورهم المادي والاجتماعي ومُعاملتهم بشكل سيء، أو ضياع هويّتهم خلال حرب أو مُشكلة اجتماعيّة كُبرى؛ يدفعهم نحو تخيلات تحكم العلاقة بينهم وبين الماورائي، تخيُّلات لا يصل إليها عالم الكِبار، تنتمي بشكل أكبر إلى عوالم الأطفال والجنيّات والوحوش والقصص الشعبية. انتماءُ القصص لهذه العوالم لا يعني بالضرورة أن تكون أقل دمويّة وترويعاً، أو أخف وطأة من حيث الشكل، فمُنتجات إبداعية مثل فيلم Pan’s Labyrinth عام 2006، للمُخرِج المكسيكي جييرمو ديل تورو، تحمل داخلها رُعباً مُركباً أشد تعقيداً وأصالة من عوالم الكِبار أو أفلام الرُعب من النوعيّة الأولى؛ لأنها بشكلٍ صوري تنتمي إلى عوالم الأطفال، بوعيهم المفتوح وفضولهم الهائل. إلى جانب ذلك فإن أفلاماً من هذه النوعيّة تتعرّض أكثر للطفل كمُستكشف يُحب الاستطلاع، يقوده الفضول والفراغ نحو عوالم جديدة خياليّة، أو يرصد عصبة من الأطفال يحاولون التعاطي مع مشاكل ذات جذور ملموسة بطُرقٍ غير واقعيّة، فعوالمهم في النهاية عوالم تنتمي للخيالي والماورائي، سواء في اختلاق المُشكلة والعُقدة، أو في إيجاد الحل والمخرج منها؛ كُلّها تميل للخُرافة كعالم موازي. إذاً فالطفل ذاته ليس وسيطاً لقوى روحيّة، هو مواجه ومُنافس، أو صديق ورفيق لها، لذا فهذا النوع من الأفلام يخلط نوعيّ الرُعب والفنتازيا معاً، ويُزيح الرُعب في شكله التقليدي من أجل تأسيس عوالم تنزعُ إلى الفنتازيا.
يتعاطى النمط الأخير من الأنواع الثلاثة مع مساحة أشد غموضاً وتحيّزاً؛ الأطفال الأشرار بالمُطلق، حين يكون الطفل مصدر الشر، في بنيّته وشخصيته وما يقدم عليه. لا تحاول سرديّات هذه النوعيّة الكشف عن الخير داخل الشخصيّات، أو مُغازلة الجمهور بعلاقات ثانويّة أو عاطفيّة تنزعُ إلى الخير، لا يوجد مُبادرة أخلاقية، بالمعنى السائد لهذا النوع من الشخصيات، بحيث تدفع السرديّة لإيجاد تبرير للفِعل غير غريزة الشر الخبيثة. من المُمكن أن يُمرر المُخرِج بعض اللمحات الاجتماعيّة التي من المُرجّح أن يكون لها مغزى قصصي، ولكنها ليست كافيّة لتبرير الإثم بمغزاه اللاهوتي أو الجريمة بمعناها الاجتماعي، على العكس، فالأفلام هنا تؤسس شخصيّة فُطِرَت على ارتكاب الشر، دون محاولة لخلق خلفيّة حقيقة تسوّغ الشر أو تمنحه سبباً منطقياً للوجود، وفي الأغلب تتعاطى هذه الشخصيّات مع الماورائي أو الدموي. تُذكرنا هذه اللمحات بأفلام التقطيع في العصر الذهبي لأفلام الرُعب، حيث يتهاوى المنطق في سبيل خلق حالة من العُنفوان الدموي والقتل العشوائي، تتداعى الحدود والمُفردات العقلانيّة في مُقابل إنتاج «مود» أو مزاج خاص بالحكاية، بيد أننا نتحدث هُنا عن شخصيّة الطفل التي تغيب تقريباً عن أفلام التقطيع في شكلها المعهود. والحق أن هذا التماسَّ بين كينونة الطفل نفسياً وجسدياً والمُنتجات الإبداعيّة الخاصة بنوعيّة الرّعب لا يتحقق إلا على مضض وبشكل نادر في تجارب محدودة، ما يُحيلنا إلى تجربة قريبة ومُعاصرة في فيلم الأبرياء النرويجي، الذي يحتوي على ملامح مُثيرة تُضيف الكثير لسينما الرُعب، ويندرج ــ جزئياً ــ تحت أحد أجناس الرُعب الفرعيّة المُهمّة، فيحمل داخله معالم نوعٍ خوارقي، إنما بمُفردات سينمائية مُختلفة، نوعٌ مراوغ، صوري، مثلما تراوغ أفلام جييرمو ديل تورو نوعيّة الرُعب، وتميل للفنتازيا، ليتحول المُنتج الإبداعي إلى لُعبة شد وجذب، جزءٌ هنا وجزءٌ هناك.
لماذا لا تُمَارَس الصنعة الإبداعية لأفلام الرُعب في ظل تكوينات طفولية؟ أقصد في حيّز ينزعُ إلى الأشكال اليافعة المحدودة في بنيتها الجسديّة، والجامحة في خيالاتها المُرعبة، والألعاب الأشد جنوناً في منطقها وتصوّرها، فحضور الطفل ذاته يوفر مساحة للعب على اللامنطقي، ويخلق ما يُشبه الإشكال بين الصورة السطحيّة والمُمارسات الجوّانيّة المخفية في أكثر من مستوى، سواء الذاتي، أو السرّي المحجوب داخل دائرة مُغلقة على الأطفال أنفسهم. الانخراط في سلوكٍ يميل للمُجازفة لاستكشاف لذّة التجربة الأولى، أن يقفز طفل من فوق تلّة، أو يُلقي نفسه في بركة مياه؛ إشارات لتمرير أحاسيس بعيّنها وخلق شعورٍ تجاه الذات والمُجتمع أمرٌ وارد وشائع في عالم الطِفل، عكس نماذج البالغين؛ التي تتمحور مُشكلاتهم وهمومهم الاجتماعية والنفسيّة حول أمور تتعلّق بجودة الحياة ذاتها، وتقتصر على الوجود في شكله المادي، فالأطفال يتعاطون مع واقع غرائبي، يتماهون معه بطرُق وأنماط مُختلفة، وهذا ما يصنع تفرّدهم ومرونتهم إذا وظّفتهم سينما الرُعب خارج القوالب المعهودة. بيد أن إقصاء نموذج الطفل الشرير واستبعاد فكرة الخُبث الطفولي ليست وليدة اليوم؛ تعاطي الأنظمة الاجتماعية والسياسية المُختلفة عبر الأزمنة، حتى الفاشية والشمولية منها، مع فكرة الطفل البريء القاصر لم يتغيّر، وهذا طبيعي، ولكن ما ليس طبيعياً هو التجاهل الفلسفي التام لفكرة الشر عند الأطفال، رغم كونها مادة دسمة مُلغّزة؛ لقد تعرّضت الفلسفة منذ مئات السنين لمُعضلة الشر داخل أطُر ومناظير فكريّة مُختلفة ومتنوعة، بيد أنهم استبعدوا أطروحة الشر والطفولة، انصرفوا عنها أو اختصروها بشكلٍ عام.
في كتاب دليل روتليدج لفلسفة الشر (THE ROUTLEDGE HANDBOOK OF THE PHILOSOPHY OF EVIL) الصادر كجُزء من سلسلة مداخل أعدّتها دار النشر البريطانيّة روتليدج، مكوّن من عدّة مقالات وأطروحات لعدد من الكُتّاب المرموقين أكاديمياً، تم جمعها وتنقيحها بواسطة توماس نيس وستيفن دي ويجزي، يتعرّض الكاتب والأستاذ جديون كالدر في أحد فصول الجزء الثالث من الكتاب، والذي حمل عنوان «الشر ومُشكلات أخرى»، لما يُسمى «الشر والطفولة»، ويُشير إلى الإهمال غير المنطقي لجُزئيّة الطفل في مسألة الشر، ويُبرر ذلك أن الفلاسفة تخلّوا عن الطفل بشكلٍ ما، وفضّلوا الحديث عن البالغين، رُبما لأن الطفولة بالنسبة لهم مرحلة تجاوزها جميع البالغين، وانتهت عند ذلك. يمنح جديون كالدر الشخصيّة الشريرة ثلاث خصائص مُهمّة:
«الشيّطنة Demonicness: تنبُع الشخصية الشريرة من تحدي الميثاق الأخلاقي الذي يدرِكه المرء جيداً – أي تعمّد ارتكاب خطأ بالغ. الثبات Fixity: امتلاك نزعة راسخة لتنفيذ أعمال خاطئة للغاية. عدم القدرة على الإقناع Unpersuadability: تتمثل الشخصية الشريرة في القيام بأفعال شديدة التطرّف، دون جدوى الخضوع للإقناع العقلاني للقيام بخلاف ذلك»
يرصد جديون الارتباك في تطبيق هذه الخواص على الطفل، لأنه يُمثّل وسيطاً مُختلفاً عن البالغين، لا يُمكن تحديد النوايا أو تعريف الميثاق الأخلاقي لدى طفل لم يُدرك بعد القانون والأخلاقيات التي تُسيّر النظام الاجتماعي، بيد أننا لا نُريد اختراق تلك المساحة بشكل مُجرّد، أي التعمّق في مُشكلة الشر داخل حيّز الطفولة، بل نودُّ تطبيقها بما يسمح تمريره داخل نموذج فيلم الأبرياء، الذي يتعاطى مع الخصائص الثلاثة لدى الشخصيّة الشريرة، ما يجعله تصميماً مثالياً لتناول المُشكلة. الجدير بالذكر أن فيلم الأبرياء نموذج استثنائي، لأنه يمنح الطّفل الأدوات اللّازمة لتحقيق الشّر، ولكن في حيّز خوارقي يمتد لما وراء الطبيعة، فيُجرّد العالم من منطقه المُعتاد، ويختبر الموجودات في مساحة غير قابلة للوجود ضمن الواقعي المُعاش، فيُحرر الإشكاليّة من واقعها، ويمنحها رقعة جديدة تستمد قيمتها من خصوصيّة عالم الأطفال وتنغلق عليه، فيخلق ما يُمكن تسميته الشرّ الخوارقي لدى الأطفال في الفناء الخلفي؛ إنها مساحة للّعب في المقام الأول، من المُفترض أن تكون آمنة، إنما بحضور الجانب الخوارقي يُخلق مجال جديد، محفوف بالمخاطر، تنقلب فيه مُمارسات اللّهو إلى حاجةٍ جسيمة. فالمُثيرات التي تحث الطّفل على ابتكار اللّعب، إذا اندمجت مع أداةٍ تحمل تأثيراً يتجاوز إدراك الطِفل، تغدو مُحفّزات للقتل. إذاً فجُزء من الشّر لدى «أبرياء» المُخرِج سكيل فوجت ينجُم عن اختلاط المُسميّات، فلفظةِ «لعب» مُحمّلة ــ عند الطِفل ــ بعوالم كاملة، فالشّر يبدأ عند اللّعب بدوائره السريّة ولُغاته الحميمية، وانحجابه عن أعين الكِبار، بحيث يُمكن تمريره داخلياً، بين طفلٍ وآخر، إنما الفِكرة هُنا أن الحدود البيئيّة والماديّة التي تفرضها الطبيّعة، ومن خلالها تنحصر صورة الطفل في خانة ساذجة، غير موجودة في سرديّة الفيلم؛ فالسردية تتحرّك من فكرة انكشاف خواص خارقة لدى الأطفال مثل التخاطر والتحكّم بأشخاص آخرين.
من وجهة نظر فوقيّة، تندرج أغلب أفعال الأطفال تحت مُسمّى اللعب، عيون الكِبار مُدرّبة على تصنيف وتقسيم الأشياء بشكل آلي خصوصاً مع استيعاب الكود الأخلاقي الذي يُحرّك المجتمع، لذلك ينتمي الرعب هنا إلى مساحة من اللعب، منطقة مُلتبسة في حقيقتها؛ لأن اللّعب بمفهومه السطحي لا يتوافق إلا مع الرؤيّة الثانويّة للكِبار، رؤية مطمئنة وهادئة. غير أن تلك النظرة الخارجيّة الآمنة من طرف الكِبار الأوصياء هي ما تجعل الرُعب مُمكنناً في فيلم «الأبرياء»، فغياب وعي الكبار هو شرط من شروط تحقق الشر، لأن تدخُّلهم يُضفي نوعاً من العقلانيّة للأمور، ويعود بنا إلى فرضيّات واقعيّة لتبرير الشر أو رده إلى ظروف منطقيّة. الشر في الفيلم أقرب إلى تحديّات الأطفال لبعضهم، ولكن على مستوى عالي من الخطورة إلى درجة تمسُّ حياتهم وحياة الكبار. يتحكّم الطفل بِن (سام أشرف) في أحد الرجال ويقوده لقتل أحد الفتيان، بالمنطق العادي يُعتبر هذا فعلاً شنيعاً، ولكن بمنطق الأطفال يأخذ الفِعل شكلاً آخر غير مفهوم، يحمل جانباً من المتعة وآخر من الخوف، بحيث لا نستطيع التفريق بشكل صائب بين الخير والشر. والفكرة هُنا مُلتبسة، لأن الطفل (بِن) يملك نزعة مُتطرفة ومُحددة نحو الشر، حتى قبل أن يتعرّف على أدواته أو أن يطوّر وعياً حقيقياً بقوّته وكيفية استخدامها، فنشاهد في المشهد الأول (بِن) يُلقي بقطة من أحد الأدوار المرتفعة، ثُم ينزل ليرى نتيجة فعلِه، يتبدّى على وجهه شيء من النشوة والاستمتاع، وهذا ما يردُّنا مرّة أخرى لمساحة اللعب، ولكنه يخلعنا عنها بعد أن نرى كيفيّة قتله للقطّة بطريقة ساديّة لا تصدر إلا عن شخص متطرّف، في فِعل يُمكن أن نصنفه شرّاً حقيقاً، لذلك سنعود إلى السؤال ذاته: هل يمكن أن يجسد أو يحمل خصائص شريرة قبل أن يكون في وضع يسمح له بالقيام بأفعال قد توصف شريرة، لماذا يتصرف بِن على هذا النحو؟ على الرغم من كونه طفلاً في أحد أكثر المُدن أماناً وتحضّراً. يُمكن أن نُرجع ذلك لوالدته اللاتينيّة القاسيّة، فالمُخرِج يعرض بعض المشاهد الخاطفة التي تُظهر مُعاملة الأم القاسيّة، وهذا مُجرّد تلميح لما يُمكن أن يكون عليه الوضع، بيد أنه ليس كافياً ولا يحاول المخرج جعله كذلك.
يزجُّ بنا المُخرِج في دائرة من الأفعال العنيفة والقاسية، التي تصل إلى حد الساديّة، لمجموعة من الأطفال تجاه بعضهم والمجتمع من حولهم، ولكنها دائماً تتحرك في مساحة بينيّة ومُلتبسة. يؤسس المُخرِج هذا النوع من الارتياب ليخلق خللاً في تصنيف الأشياء؛ فالمُتعارف عليه أن تلك الأفعال ساديّة، ولكن مُمارسة الأطفال لها يُزيحها ــ رغم قسوتها ــ إلى مساحة من اللعب والتجريب، غير أنه يؤصّل لإشكاليّة وجود نزعة متطرفة لدى الأطفال، حاجة مُلحة إلى استكشاف واختبار أفعال مُعيّنة، إلى جانب كون ردود أفعالهم مُباشرة، ومشاعرهم واضحة وموظّفة داخل أفعالهم بطريقة فجّة، فمثلاً الطفلة إيدا وأختها الكُبرى آنا المُصابة بالتوحد تجمعهما علاقة غريبة، فآنا لا تشعر بالألم ولا تتحدث إلا عبر تأوهات وإيماءات غير مفهومة، في أحد المشاهد تضع إيدا شظايا زُجاجيّة داخل حذاء أختها، تسير الأخت بالحذاء وتشعر بمضايقات، ألم في قدمها، حتى تعود وتخلع الحذاء لتجد الأم قدمها غارقة في الدماء. إلى جانب ذلك تقرص إيدا أختها بقوة كشيء روتيني تفعله يومياً، ما يجعلنا ننظر لتلك الأفعال الساديّة بشكل مُختلف؛ هل هو شرٌ حقيقي، أم أنه نوع من التواصل أو فهم مغلوط لطبيعة الشخص المُقابل؟ تقول حنا آرنت «إن أغلب الشر يفعله أُناسٌ لم يقرروا أبداً أن يكونوا صالحين أو سيئين»، لم يحسموا أمرهم بعد، أو أن عقولهم غير ناضجة كفاية لتستوعب ميثاق الخير والشر ليقرروا في أي جانب هم. كونهم أطفالاً يمنح ذرائع ومبررات تُخفف من وطأة الفِعل في الأساس، أو تُضخّمه إلى فُقاعة هائلة، بيد أننا هُنا لا نتعامل مع الأطفال كونهم قُصّراً، لا بل كونهم شخصيّات ولهم أهداف وسياق حكائي يمنحنا وسيطاً جديداً لفِهم طبيعة الشر، ويكشف لنا طبيعة الأفعال في ضوء مساحة جديدة وغرائبيّة، ولكن التساؤل الآخر حول ماهيّة الشر يقف في طريق فهمنا لطبيعة الشخصيّة، فهُناك فارقٌ بين كون الشخص شريراً، أو أن يكون الفِعل الذي اقترفه الشخص هو الذي يندرج تحت هذا المسمى، لأن الفِعل يُمكن أن يُمثّل كينونة مُستقلّة عن الشخص، أو حتى غير مقصودة، بالإضافة إلى لصقها بشخصيّة قاصرة وغير قادرة على استيعاب العالم الخارجي، ولا ترى نفسها إلا في ممارستها داخل عالمها الجوّاني.
خصوصيّة التجربة وغرائبيتها كتجربة تحمل أساساً واقعياً وأدوات ميتافيزيقيّة، في عالم مُضمر بالسريّة مُنسجم مع نزعة فطريّة للتواطؤ، تجعل من الصعب تطبيق شروط جديون كالدر الثلاثة على بطل الفيلم، فكل شرط يستنبط قيمته من أساس واقعي واستيعابي مكشوف، فكيف تخلق نظريّة تفتقد للمتن. خواص مثل الشيطنة Demonicness تحتاج إلى وعي كافٍ بالميثاق الأخلاقي حتى يُمكن تعيينها، وهذا ما يجعل الفيلم متفرّداً، لأنه يستكشف مساحة جديدة، مساحة رُبما تخلق لنفسها خواصَ جديدة لتُنتج تجارب نادرة. فالفيلم لا يكتفي بتقديم شخصيّة مؤذيّة بشكل صريح، إنما يوفّر شخصيّة أخرى صالحة بكُل المعايير الاجتماعيّة العامة، والسريّة الخاصة؛ عائشة طفلة صغيرة تمتلك قوّة التخاطر، وهي الوحيدة القادرة على فِهم آنا المصابة بالتوحد، ولكنها لا تمتلك نزعة ساديّة، والجدير بالذكر أن شخصيّة إيدا هي مُجرّدة من القوة الخارقة، طفلة عاديّة، غير أنها قادرة على رؤية وفهم القوّة الميتافيزيقيّة، لذلك فالعالم هُنا محصور في طور الطفولة، وعلى العكس لا يمتلك أي من الآباء أو الكبار قوّة ما ورائية، وعليّه فالوسيط هُنا أكثر براءة من تصنيفه، ولكنه أشد انفجاريّة وتطرفاً، وهذا ما يجعله مادة للتأمل، فالشر نفسه نزعة يصعُب إمساكها وتحليلها بمنهجيّة واضحة، إلى جانب انتقاء المُخرِج للشخصيات بحساسيّة عاليّة، لأنهم جميعاً يمتلكون أشياءً تجعلهم متفردين على المستوى المادي والجسدي. بِن يأتي من جذور لاتينيّة فقيرة، وعائشة جذورها آسيويّة هنديّة، وكلاهما متفرّد عن الجموع بلون بشرته وشكله الخارجي، بالإضافة إلى شخصيّة آنا وهي الوحيدة التي تملك وجهاً أوروبياً أبيض، ولكنها مُصابة بالتوحد ما يمنحها خاصيّة متفرّدة على المستوى المادي، إذاً وبشكل أخر يحصر المخرج القوّة الخارقة داخل أفراد يستحوذون على سمات خاصة ومتفرّدة مُقارنة بالجموع، أي أنه يتعاطى مع ما يُمكن أن يعتبره البعض نقاط ضعف كنقاط تُولّد قوة استثنائيّة، بيد أن لهذه القوّة وجهاً آخر، فهُم وحدهم القادرون على ارتكاب الشّر بشكله المرصود في الفيلم على المستوى الماورائي، ولكن جميع الأطفال قادرون على التعرّف والاستجابة للقوة الخارقة، وهذا اتضح في مشهد المواجهة الأخير.
يُقدم إسكيل فوجت نموذجاً راديكالياً للطفل، ويأخذ نموذج الأطفال الوحشيين (Monstrous Children) إلى بُعد مُختلف، لأنه لا يدفعنا نحو استنتاجات مُعيّنة بقدر ما يفرد مساحة للتساؤل والتجريب، ويُعيد بناء فكرة الوحشيّة الطفولية في أنماط أشد كثافة وزخماً؛ فالمرويّة السينمائية هُنا لا تعتمد على نموذج أحادي مُشيّطن، ولكن على عدّة أطراف مُتباريّة كوسائط تتحمّل طبقات من القوّة، إلى جانب عدم اكتراثه باللغة التبريريّة للشر، فالشر عنده محل شك، لا يُمكن تقديره خصوصاً مع تضمينه داخل نماذج طفوليّة غير مفهومة بشكل كامل، نماذج لا يُمكن تأطيرها داخل أُطر اجتماعيّة ونفسيّة تقليديّة مخصّصة للكِبار. كُل هذه التلميحات تُشير ناحيّة دراسة أفضل لطور الطفولة، واستكشاف مساحات جديدة داخله، فهي مرحلة مُلتبسة وغامضة، يُمكن اللعب داخلها إبداعياً، وحتى دراسياً بدراسة نماذج سينمائيّة طفولية داخل نوعيّة الرعب، ولكن بنظرة مُختلفة وتجريبية وشجاعة.