«لا تستطيع ابنتَي الوقوف على أقدامهنّ واللعب مع إخوتهن»، بحرقةٍ وأسىً واضح تبدأ السيدة عفاف العبيد حديثها عن معاناة طفلتيها التوأم هند وهنادي اللتين تبلغان من العمر سنةً ونصف، إثر إصابتهما بمرض التهاب الكبد الفيروسي A منذ مطلع شهر كانون الأول (يناير) الماضي، وتسترسل بالحديث عن عجزها الكامل عن إيجاد علاجٍ يتناسب مع حالتها المادية.

يَنتُجُ التهاب الكبد الفيروسي أو اليرقان عن مشاكل في الكبد أو القناة الصفراوية، إذ يتسبب في زيادة كمية صبغةٍ لونها مائل إلى الصفرة في الدم، تسمى «البيليروبين»، ممّا ينتج عنها اصفرار لون الجلد والعينين.

تسكن السيدة عفاف (40 عاماً) مع عائلتها المكوّنة من 3 فتيات ويافعَين اثنين أكبرهما يبلغ من العمر 13 عاماً في مخيم أبو قبيبة على أطراف بلدة البردقلي شمال إدلب، والذي يسكنه قرابة 260 عائلة نازحة من محافظات حمص وحماة وريف دمشق، وتغيب عن المخيم الخدمات الطبية وشبكات المياه مع انتشار الصرف الصحي المكشوف.

مؤشرات ظهور الوباء

تُقدَّر عدد إصابات التهاب الكبد وفقاً لجولةٍ أجرتها الجمهورية.نت داخل المخيم بـ30 إصابة «نصفهم لم يُشفَ بعد»، ويؤكد الأهالي الذين قابلناهم أن ظهور هذا المرض بدأ مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، ويُرجعون السبب إلى البرد ونوعية وسائل التدفئة، فضلاً عن واقع الصرف الصحي المتردي في المكان. ويُجمِع معظم الأهالي على أن علامات الوباء بدأت بالظهور على الأطفال قبل تحديد نوع المرض، وقد تجلّت بتغيُّر لون البشرة وفتور في جسم الطفل وارتفاع في درجة الحرارة، وهو ما أكّدته السيدة عفاف أثناء حديثها معنا: «الأعراض التي ظهرت على طفلتَي شملت تغيراً في لون العيون والوجه مع إسهال وعدم الرغبة في الرضاعة، إضافةً للحساسية أو ‘السماط’ بالمحكية السورية».

ومع انتشار الفقر والبطالة وغلاء العلاج، تنوَّعت بدائل سكان المخيمات لعلاج أبنائهم من مرض التهاب الكبد الوبائي، إﻻ أنّ التوجه للطب البديل أو ما يعرف بالطب العربي سادَ بشكلٍ واضح. وفي هذه الحالة، بحسب السيدة عفاف، فإن الدواء يتألف من السكريات النباتية مثل دبس العنب ومربيات المشمش والتين وغيرها، وهو ما اتّبعته سبيلاً لعلاج طفلتيها اللتين لم تشفيا إلى اليوم.

وتقول السيدة فداء عبد الله المنصور (42 عاماً)، المُهجّرة من ريف حمص الشرقي وتعيش مخيم البردقلي، إنها توجهت قبل أيام إلى أحد محلات الأعشاب في مدينة الدانا شمالي إدلب لشراء وصفةٍ لولدها المصاب بالتهاب الكبد والبالغ من العمر 18 شهراً، بعد امتناع أحد المستوصفات (رفضت الكشف عن اسمه) عن مراقبة طفلها أو إعطائها الدواء اللازم «بدعوى أنه غير متوفر في المستوصف والطفل لا يحتاج إلى علاج». وتغيب الأدوية والأطباء المختصون عن الكثير من مستوصفات محافظة إدلب، وهي غير مجهزة بغرف عزل في حالة وصول إصابات بأمراض مُعدية مثل التهاب الكبد الفيروسي.

وقدَّرت السيدة فداء كلفة علاج ابنها بالطب البديل بنحو 150 ليرة تركية (ما يعادل 5 دولارات أميركية)، واعتبرت أنه أرخص من تكاليف اللجوء إلى طبيب وما سيترتّب عليه من أجور المعاينة والأدوية مرتفعة الثمن، خاصة الأجنبيةً. وشاطرتها السيدة عفاف الرأي: «ما رحت ع الدكتور. ما عندي قدرة. والله بناتي المريضات من الصبح بدون حفوضات».

وزادت حديثها وهي تهزّ برأسها: «الناس عاجزة عن العلاج، خاصةً أن مرض التهاب الكبد معدٍ». وتختصر طريقتها في وقاية باقي أوﻻدها بالقول: «عزلتهم بِعَدَم تركهم ينامون قُرب بعضهم، وأﻻ يأكلوا سويةً، وكل هذا في غرفة واحدة وﻻ حول وﻻ قوة إﻻ بالله».

من جهته، يرى مدير مشفى الإخاء في بلدة أطمة، الدكتور عبد الكريم الياسين، أن توجه ذوي المصاب إلى الطب العربي يأتي نتيجة اجتهادات شخصية وقلة وعيٍ لدى العديد من الأهالي لا أكثر، مبيّناً في حديثه للجمهورية.نت أن الطفل المصاب يتماثل للشفاء تلقائياً ولا يحتاج أكثر من خافض حرارة، إضافةً إلى الحمية عن الدسم والإكثار من السكريات النباتية كالدبس والعنب والحرص على النظافة الشخصية من خلال تخصيص منديل وملعقة خاصة به وعزله عن باقي أفراد أسرته، مستدركاً بالقول: «لكن هذا الشيء تحديداً غير ممكن أو متوفر في المخيمات».

أسباب ظهور المرض

تعود أسباب ظهور التهاب الكبد الوبائي وفقاً للدكتور الياسين إلى عدوى فموية ناتجة عن تلوث بُرازي في الغذاء والماء، مؤكداً على أن العدوى كبيرة جداً، باعتبار أن هذا المرض مُعدٍ قبل ظهور الأعراض واللون اﻷصفر على البشرة بأسبوع أو أكثر، وزاد القول: «بينما يتم اكتشاف المرض داخل جسم الطفل تكون قد انتقلت العدوى للإخوة اﻵخرين في المنزل، وسط غياب أي طريقة للعزل داخل المخيمات».

ويعتقد العم أبو الفوز، من سكان مخيم أبو قبيبة، أن فحم التدفئة المُستخلص من الحراقات البدائية لعب دوراً هاماً في زيادة اﻹصابات بمرض الكبد الفيروسي هذا العام، وهو ما أكّده الطبيب محمد عبيد في حديثه للجمهورية.نت، إذ تُسبّب الغازات التي تتسرب من المدافئ البدائية التي تعمل على فحم الحراقات داخل خيام النازحين، التي تفتقد للنوافذ، اضطراباً في عمل الكبد وتزيد من بطء عمله، الأمر الذي ينعكس سلباً على المريض المصاب بالتهاب الكبد ويُفاقم من حالته الصحية.

واعتبر أبو الفوز أن انتشار البطالة وغياب فرص العمل أو ندرتها، ساهما أيضاً في زيادة انتشار المرض داخل المخيم، مشيراً إلى أن تكلفة العلاج في أدنى حالاتها تزيد عن 300 ليرة تركية، من أجور معاينة الطبيب إلى اﻷدوية، في حين ﻻ تزيد يومية العاملين من أهالي المخيم عن 100 ليرة تركية (ما يعادل 3 دولارات أميركية)، إن وجد عملاً.

من جهته، اعتبر النازح من ريف حماة الجنوبي منصور العواد، وهو والد الطفل الرضيع محمد (9 شهور) المصاب بالتهاب الكبد، أن عدم وجود نقطة طبية داخل مخيمات البردقلي من أبرز أسباب تمدّد المرض وانتشاره وغياب حلوله، مؤكداً أن النقاط الطبية المجانية القريبة من المخيم تقتصر على المستوصفات المزدحمة الموزّعة في مدينتي الدانا أو سرمدا شمالي إدلب، على مسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات.

وطالب العواد مَن وصفها بـ«الجهات المعنية بالأمر»، سواء المنظمات الإنسانية أو القوى المسيطرة عسكرياً على المنطقة، بـ«النظر إلى أحوال أهالي المخيم ووضعهم المتردي»، مشدّداً على أن الإهمال الصحي للمخيمات سيؤثر سلباً على كامل المنطقة.

عوامل ساعدت على انتشار المرض

يتشارك الفني المخبري عمار درويش في مشفى الأطفال في مدينة أريحا مع أهالي الأطفال المصابين بمرض التهاب الكبد الوبائي بإرجاع سبب انتشاره إلى قلة النظافة وسوء خدمات الصرف الصحي وغياب العزل، ويقول: «الطفل المصاب يذهب إلى بيته أو خيمته، في حين يجب عزله عن محيطه ومدرسته في غرفة أو خيمة عَزل وتقديم السكريات له وتأمين وسائل نظافة خاصة به. للوقاية وعدم انتشار هذا الفيروس في الشتاء تحديداً، يُفضّل وجود سرير للطفل المصاب مع وسائل تدفئة نظيفة ووقاية شخصية».

وبحسب درويش، فإن أحد أهم أسباب انتشار العدوى والمرض تعود إلى مسألة غياب الوعي الصحي لدى الناس وذوي المرضى. يقول: «هناك إهمال بسبب الفقر. الطفل يمرض ويتغير لونه، فيصل الكبد إلى مراحل تعب شديد، وهناك أطفال يصلون إلى حالة وهن عام ويصبحون غير قادرين على المشي، وفي هذه الحالة يجب الدخول إلى المشفى من أجل العلاج. لكن عند الانتباه للمرض منذ بدايته وتغذية الطفل يمكن تجاوز المرض بسهولة، فهو مرض يحتاج حمية عن الدسم مع وقاية شخصية وتأمين سكريات للطفل وعدم السماح له باللعب والتعب».

وتُقدّر عادةً مدة العلاج والشفاء من مرض التهاب الكبد الفيروسي ما بين 16 إلى 17 يوماً، وقد تتجاوز ذلك في حال غياب الوقاية وعدم توفير الرعاية اللازمة.

الفيروس منتشر خارج المخيمات

تتفاوت نسب اﻹصابات بمرض التهاب الكبد الفيروسي في كامل الشمال السوري وفقاً للمخبري درويش، الذي أكّد أن نسب الإصابة في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشمالي كبيرة جداً، ووصلت النسبة في مدينة أريحا إلى نحو 50 بالمئة من مجمل الأطفال، مشيراً إلى وجود 10 أطفال لديهم ألم بطني يومياً: «ما أﻻحظه خلال عملي أن كل 7 أطفال من أصل 10 يصلون إلى مشفى أطفال أريحا يتم تشخيصهم بالإصابة بالتهاب الكبد الوبائي»، مُقدراً أن نسبة الإصابات بالفيروس ترتفع إلى 70 بالمئة داخل المخيمات.

ويؤكد طبيب الأطفال عبد الكريم الياسين في حديثه للجمهورية.نت أن انتشار التهاب الكبد الوبائي ليس مقتصراً على المخيمات، منوِّهاً إلى أنه فيروس نشِط ينتقل في المدارس، لافتاً إلى أن المرض يظهر لدى الأطفال عادةً من عمر الثانية حتى الثالثة عشر، ويُسمى التهاباً سليماً، لكن الطفل يحتاج في هذه الحالة إلى الراحة بسبب تعب الكبد، وإلى السكريات لتنشيط عمل الكبد.

وأوضح الطبيب أن التهاب الكبد الوبائي نوعان، وهما: التهاب الكبد A، ويُوصف علمياً على أنه «التهاب كبد سليم»، إذ يُقتصر علاجه على بعض الأدوية والمسكنات واتباع نظام غذائي؛ وأمّا النوع الثاني فهو التهاب الكبد B، ووصفُهُ العلمي «التهاب كبد صاعق» وقد يُسبب الوفاة، ويأتي نتيجة إهمال الأهالي لأطفالهم المصابين بالتهاب الكبد السليم. ويؤكد الطبيب على أن شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 2023 شهد انتشاراً واسعاً لالتهاب الكبد A في شمالي سوريا، وأن قسم الإسعاف داخل مشفى الإخاء في بلدة أطمة كان يسجل خمس حاﻻت سليمة يومياً على أقل تقدير، لافتاً إلى أنه سجل حالتين فقط مصابتين بـالتهاب كبد صاعق نهاية كانون الأول (ديسمبر) ليتم تحويلهم إلى المشافي التركية بهدف إجراء عملية زراعة كبد.

وسبق أن سجّل مخيم كنصفرة في الريف الشمالي لمحافظة إدلب، خلال شهر كانون اﻷول (ديسمبر) الماضي، إصابات بالتهاب الكبد الفيروسي بين النازحين، إضافةً لحالات في مخيمات قريبة منه. وتفتقر الكثير من المخيمات إلى وسائلَ للصرف الصحي، فيتم اللجوء إلى حُفَرٍ بدائية لتخزين الفضلات، اﻷمر الذي يعدّ أحد الأسباب الرئيسة التي تساعد على انتشار مرض التهاب الكبد الفيروسي، كما أن المياه المخصصة للغسيل والشرب غير موثوقة، ومعظمها من آبار غير معالجة صحياً.