قد يتذكر أطفال التسعينيات وأوائل الألفينات مشاهدة الأفلام الأميركية التي كانت تُعرَض على القنوات الفضائية المحدودة آنذاك. كانت تلك الأفلام تتبع سيناريو سهل التنبؤ عادة، وتدور أحداثه حول نهاية العالم: ليلة باردة، مثلجة، تنقطع خلالها الكهرباء فجأة وتقودنا إلى وقوع كارثة طبيعية هائلة. تركِّزُ حبكات تلك الأفلام في العادة على عائلة تبحث عن الأمان في سيارة، وتواجه سلسلة من الأحداث المرعبة: أناسٌ يركضون في الشوارع، بُنى تحتية تنهار، وجثثٌ متناثرة في كل مكان.
في يوم 6 شباط (فبراير) 2023، حدث شيء خارق للعادة كما في تلك الأفلام.
في الليلة التي سبقته، زُرنا أنا وزوجي بعض الأصدقاء وتناولنا عشاء لطيفاً. في طريق الرَّجعة، أوصلْنا قسماً منهم إلى منازلهم، ثم عُدنا إلى منزلنا بعد منتصف الليل بقليل. كان أطفالنا نائمين بسلام. كانت خطتنا أن نسافر إلى إسطنبول صباح اليوم التالي، تاركين أطفالنا مع جليسة أطفال، لنعود في وقت لاحق تلك الليلة. لم نكن نعلم أنه في الساعة 4:17 فجراً من ذلك اليوم المشؤوم، سيضرب زلزال بقوة 7.8 درجات مدينة غازي عنتاب، موطني لأربعة أعوام، وموطن زوجي لثلاثة عشر عاماً.
أذكر أنني استيقظتُ على صوت هدير عالٍ، كأنه يصدر عن مكبرات صوت عملاقة في السماء – ضجيج كضجيج الريح القوية، ولكنه أعلى بكثير. قفزنا أنا وزوجي من السرير على الفور. حملتُ طفلنا ذا العام الواحد من سريره، وهرع زوجي وحيداً. أتذكر صراخي، «الأطفال، الأطفال…»، فذهب زوجي وراء ابننا البالغ من العمر سنتين. تمايل المنزل بعنف، وشعرنا بالأرض تهتز، وسمعناها تنشقّ من تحت أقدامنا. كنا في حيرة من أمرنا بشأن ما يحدث. بسبب الضجيج، لم نسمع حتى أثاثنا يتحطم، أو زجاجياتنا تتكسر، أو المباني من حولنا تتساقط.
«لنذهب إلى غرفة الطعام…» أليس هذا ما يعلِّمونك إياه عندما يحدث زلزال – أن تختبئ تحت طاولة؟ زوجي، مثل أي سوري آخر مرجعيته الحرب، قرر أن الحمّام أكثر أماناً (ربما كان كذلك خلال قصف؛ ولكنه في حالة الزلزال خطير للغاية… لذا، إذا احتجتم – لا سمح الله – أن تتخذوا قرارات سريعة خلال وقوع زلزال، لا تركضوا إلى الحمام).
عندما أَسترجعُ عشرات القصص التي سردها أصدقاؤنا وأقرباؤنا عن الزلزال، يتضح لي أن قلة قليلة عرفوا حقاً ماذا يفعلون أو كيف ينبغي أن يتصرفوا. عند وقوع حدث صادم، فإنك لا تعرف قط ماذا يجب أن تفعل، أو بماذا يجب أن تفكر.
اللحظات التي مرَّت خلال الزلزال بدت بلا نهاية. ظلَّ زوجي يطمئنني، «لقد مرّ، لقد مرّ…»، بينما واصلنا تلاوة الشهادة، معتقدين أن تلك قد تكون لحظاتنا الأخيرة. خلال تأمُّله الحادثة لاحقاً، أخبرني زوجي أنه بينما كُنّا على أرضية الحمام، والأرض تنشقّ من حولنا، قمتُ بإرضاع طفلنا لكي أهدِّئه. لا أذكر تلك اللحظة، ولكن غريزة الأمومة تدهشني.
ساعات، وأيام، وأسابيع، وأشهر صعبة تبعت تلك الدقائق الحاسمة. ساعاتٌ أمضيناها في محاولة الوصول إلى عائلاتنا وأصدقائنا، الذين توفي كثيرون منهم. أيامٌ قضيناها نائمين في السيارة خلال عاصفة ثلجية، وليس بحوزتنا إلا القليل من الطعام، بينما الأرض تستمر بالاهتزاز. أسابيع قضيناها نشارك في جهود الإغاثة. وأشهر قضيناها في محاولة الشفاء.
خطرت على بالي الكثير من الأفكار في تلك الفترة: ماذا لو وقع الزلزال بينما الأطفال بمفردهم؟ ماذا لو تركناهم وسافرنا إلى إسطنبول؟ ماذا لو كنت في المصعد، ومتُّ فيه؟ ماذا لو علقت تحت الأنقاض لأيام من دون نجدة؟ ماذا لو نجوت ولَم ينجُ أطفالي؟ كيف يشعر الناس في إدلب، ممَّن نزحوا مرات عديدة، ثم فقدوا كل شيء مرة أخرى؟ كيف ستشعر لو كنت الناجي الوحيد في عائلتك؟ لو دفنت كل جيرانك؟ كيف ستستمر بالعيش وأنت تعرف أن أحبَّتك ربما بقوا على قيد الحياة لساعات أو أيام، من دون أن ينقذهم أحد؟ مئات من الأسئلة المشابهة ظلَّت تدور في رأسي خلال الأشهر التي تلت.
الحياة من الهشاشة بحيث أنه في جزء من الثانية قد تتغير إلى الأبد.
الكثير من السوريين، مثل كل عائلاتنا وأصدقائنا، شهدوا كل ما يمكن أن يشهده المرء: الحرب، النزوح، القصف، الاختطاف، التعذيب، التمييز العنصري، الترحيل، وتفاصيل مؤلمة أخرى لا يمكن إحصاؤها على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية. لكن أياً منها لا يقارن برعب الزلزال وهَوله.
ربما كان سبب ذلك أنه رغم التحديات العديدة التي واجهتنا، لطالما اطمأنّينا إلى الطبيعة. الأرض تحت أقدامنا، على الأقل، بقيت ثابتة! كان لدينا أشخاص يمكن لومهم على مصائبنا.
في السادس من شباط (فبراير) شعر السوريون بالغدر من الأرض، بعدما غدرهم العالم أجمع.
نحن من عداد المحظوظين، من نجوا وبقوا على قيد الحياة. كان لدينا سيارة لننام فيها، وتمكَّنا آخر المطاف من العودة إلى المنزل. أنا ممتنة لكل هذا. أنا ممتنة للرحلة التي قمنا بها إلى أنطاكيا قبل أشهر قليلة من وقوع الزلزال، فقد تحولت تلك المدينة الآن إلى غبار.
أشعر بالامتنان عندما نلتقي الآن، معشر الناجين والناجيات من الزلزال، حيث لم نعد نتحدث عن أماكن الاختباء المفضّلة لدينا. تغمرني السعادة لأننا لم نعد نحتفظ بصفارات تحت وسائدنا وقناني مياه في أركان المنزل. أحسُّ بالتقدير أغلبَ الليالي، رغم عشرات آلاف الهزات الارتدادية التي خبرناها (وما زلنا نختبرها)، لأننا ما زلنا نستطيع أن ننام.
لو سألتني في السادس من شباط (فبراير) ما إذا كانت الحياة ستصبح جميلة مرة أخرى، لكانت إجابتي لا.
ولكني آملُ أن يعرفَ كل من يمرّ بوقت عصيب اليوم أن الحياة جميلة رغم ذلك.