«حتى الأموات أصبحوا مادةً للتجارة»، يقول أبو غياث من سكان عين ترما هذه الجملة متذمراً من تعرّض كثيرٍ من أهالي بلدة عين ترما، الواقعة ضمن الغوطة الشرقية، للاحتيال والابتزاز من البلدية وشخصيات مرتبطة بها، حيث أصبحوا يتاجرون بالقبور لحسابهم الخاص، مستغلين حاجة الناس لتأمين قبورٍ لموتاهم.
كانت بلدة عين ترما تضُم مقبرةً وحيدةً تقع خلف مبنى البلدية، لكن مع عدم كفاية المساحة، سيّما بعد ازدياد أعداد الوفيات نتيجة الحملة العسكرية للنظام على الغوطة الشرقية عام 2018، قام المجلس البلدي في عين ترما ببناء مقبرةٍ أخرى في منطقة الوادي عام 2019.
زعيم عصابة القبور
قامت مديرية أوقاف ريف دمشق التابعة للنظام بتسليم المقبرة الحديثة لبلدية عين ترما، لتكون هي المسؤولة عن عملية بيع القبور. لكن المدعو مسلم محمد سلام، الذي عمل سابقاً مختاراً ورئيساً لبلدية عين ترما، وضع يده على العقار رقم 1803 الذي أُقيمت عليه المقبرة الحديثة، وقام بتوسعتها وبناء سورٍ لها، وأصبح يبيع القبور لحسابه الخاص بالتنسيق مع البلدية التي كانت تتقاسم معه الأرباح.
يبيع مسلم سلام قبوراً للأهالي بموجب عقود مزورة، مستغلاً علاقته القوية مع بلدية عين ترما التي تقوم بالتغطية على تجاوزاته. وبعد إقالته من منصبه كرئيس للبلدية، عمل سلام تحت ستار منصب مدير جمعيةٍ خيرية تدعى جمعية البر بدعمٍ من عدة شخصيات، وهم رئيس بلدية عين ترما سابقاً محمد ماهر بيازيد، ونائبه يوسف القاضي، إضافةً إلى خاله محمد خير خالد مدير جمعية الفلاحين في البلدة. ولم يكتفِ بالاستيلاء على العقار 1803، بل استملك كذلك جزءاً من العقار 976 بهدف توسيع المقبرة، رغم أن ملكية العقارين تعود لمحافظة ريف دمشق ومديرية الأوقاف التابعَتين لنظام الأسد.
يقول أبو غياث للجمهورية.نت: «علمنا أن المدعو مسلم سلام أصبح المسؤول عن بيع القبور، لذلك كان الأهالي يتفقون معه على شرائها ويدفعون له أثمانها مسبقاً مقابل إيصالٍ بالدفع، على أن يقوم بتسليمهم القبر لاحقاً، لكنّ كثيرين، وأنا واحدٌ منهم، تعرضوا للاحتيال ولم يستلموا القبر أبداً».
بحسب شهادات الأهالي الذين تحدثنا معهم، فإن سلام يقوم بتجهيز القبور وبيعها والمصادقة على العقود بالتنسيق مع المجلس البلدي ولجنة المقابر، ويتراوح سعر القبر بين 13 إلى 18 مليون ليرة سورية، حتى أن سلام كان يقوم بنشر إعلانات لبيع القبور على جدران مبنى البلدية.
أكدت صفحة «سوار الشام» على فيسبوك أن مسلم سلام، وبالتعاون مع بلدية عين ترما، باع منذ 2019 حتى تشرين الأول 2023 حوالي 4600 قبر على الورق، مقابل 40 مليار ليرة سورية تقريباً. وزعم أنه نفّذ منها 3300 قبر، مدّعياً أنه سوف يقوم ببناء مقبرةٍ ثالثة لتغطية العجز الذي لحق به نتيجة عدم وجود مساحة في المقبرة الجديدة.
مديرية أوقاف ريف دمشق وجّهت كتاباً لبلدية عين ترما، تطالبها بإرسال قائمة بأسماء المكتتبين على القبور في المقبرة الجديدة المُقامة على العقار 1803، ومقارنتها مع المخطط الذي تم تصديقه من قبل المجلس البلدي ولجنة التسليم، وكل قبر ليس له رقم على المخطط هو ملكٌ عام ولا يجوز بيعه أو استثماره.
حاولت بلدية عين ترما التهرّب من الموضوع، وزعمت أنها لا تملك أي جداول بأسماء الذين اشتروا قبوراً، وأن مسلم سلام لم يقدِّم للبلدية أي جداول بيع، واعترف ببيع 5 قبورٍ فقط. وناشدت البلدية الأهالي الذين يملكون وصل شراء قبر من مقبرة عين ترما الجديدة، بمراجعتها لتثبيت أسمائهم.
لم تكتفِ بلدية عين ترما بالاحتيال على سكان البلدة، بل كانت تبتزُّهم أيضاً؛ يقول منصور من أهالي عين ترما: «اشترينا قبراً عن طريق مسلم سلام ودفعنا ثمنه بعد كتابة عقد بيع قطعي، وأخبرنا أنه سيقوم بتسليمنا القبر لاحقاً بعد أن ينتهي من تجهيزه مع الشاهدة. وبعد إلحاحٍ متكرر رفض تسليمنا القبر قبل أن ندفع له ثمن الشاهدة 500 ألف ليرة سورية، واحتجز الشاهدة رغم أننا دفعنا ثمن القبر مسبقاً».
تعرّض عددٌ من أهالي عين ترما للابتزاز كما حصل مع منصور، إذ حصلت الجمهورية.نت على صورة توثِّق احتجاز مسلم سلام عدة شواهد قبور لديه، بعد رفضه تسليمها للأهالي مع القبر المُباع لهم قبل دفع ثمنها.
تحايل على القوانين
دفعت عمليات الاحتيال المتكررة التي قام بها مسلم سلام وأعوانه في المجلس البلدي الأهالي إلى تقديم شكاوى إلى محافظة ريف دمشق التابعة للنظام. ونتيجةً لذلك شكلت محافظة ريف دمشق في 11 نيسان (أبريل) 2023 لجنةً للتحقيق بتجاوزات بلدية عين ترما، وأصدرت في تموز (يوليو) 2023 كتاباً أكدت فيه أن مسلم سلام قام بتسجيل أرض مقبرة عين ترما، المشادة على العقار رقم 1803، على اسمه في السجل العقاري بطريقة غير قانونية، إضافةً إلى قيامه باستثمار وبيع القبور على أرض المقبرة المذكورة، وقبض الثمن بموجب إيصالات طبعها لحسابه الشخصي، بما يوحي للمواطنين أنها صادرة بموجب موافقات رسمية خلافاً للحقيقة.
وأمرت محافظة ريف دمشق بإيقاف كل أعمال البناء للقبور غير المنفذة من قبل مسلم سلام والتوقُّف عن بيعها، واعتبار كل القبور المنفذة هبة من قبل المالك، مطالبةً بلدية عين ترما أن تضع يدها على جميع القبور المُشادة على العقارين 1803 و976 اللذَين بنى عليهما مسلم سلام القبور.
كذلك أصدرت مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل التابعة للنظام كتاباً سابقاً في آذار (مارس) 2018 تطالب فيه محافظة ريف دمشق بإيقاف جمعية البر الخيرية التي يديرها مسلم سلام، بسبب ارتكابه مخالفات واستغلالها لتحقيق منافع شخصية تحت ستار العمل الإغاثي.
حاول سلام الالتفاف على هذا القرار، وقام بتغيير اسم جمعية البر التي كان يديرها إلى سما الشام، حيث يقوم بجمع التبرعات على اسم هذه الجمعية بشكل يومي من المساجد والتجار وعموم المحسنين، ويوزعها كرشاوى على المجلس البلدي الذي تربطه ببعض أعضائه علاقة قرابة ويقومون بتيسير أعماله.
أفاد مصدرٌ مقرّب من بلدية عين ترما للجمهورية.نت رافضاً الكشف عن هويته أن مسلم سلام «لم يكترث لتوجيهات حكومة النظام، واستمر ببيع القبور رغم وضع إشارة منع تصرُّف على العقارين 1803 و976، وكان يوثّق عقود بيع القبور بتواريخ قديمة كي لا يُكشف أمره، وذلك بالتنسيق مع يوسف القاضي الذي كان نائباً ومن ثم رئيساً لبلدية عين ترما» بحسب أقواله.
قمنا بمراجعة عدة عقود بيع بالتواصل مع أصحابها، وجميعها تم تسجيلها بتواريخ سابقة رغم تأكيدهم على شراء القبور خلال عام 2023 وليس خلال التواريخ المدونة على العقود.
رغم صدور قرار من المحافظة بوضع يدها على العقارين 976 و1803 اللذين تُقام عليهما المقبرة، ومنع مسلم سلام من الاستمرار في بيع القبور، فإن بلدية عين ترما استمرت في دعمه، وقدمت طلباً لمحافظة ريف دمشق للسماح لسلام ببناء سور للمقبرة، بحجة عدم امتلاكها الميزانية الكافية لبناء سور المقبرة.
مع تزايد تجاوزات بلدية عين ترما، تمت إقالة رئيسها ماهر بيازيد في آب (أغسطس) من العام الماضي، وتعيين نائبه يوسف القاضي مكانه، والذي كان يقدم دعماً كبيراً لمسلم سلام، مستغلاً منصبه أيضاً كمسؤول عن لجنة المقابر.
مهجرو جوبر في فخ العصابة
رغم مرور أكثر من 5 سنوات على سيطرة النظام على جوبر، لا يزال يمنع السكان من العودة إلى بيوتهم بحجة أن المنطقة دخلت ضمن المخطط التنظيمي، كما أنه يمنعهم من دفن موتاهم في مقبرة جوبر، ما يضطرهم إلى شراء قبور في عين ترما، غير أن بعضهم وَقَعَ أيضاً في فخ الاحتيال.
يقول أبو الزين من مهجري جوبر: «قبل عامين اشتريتُ قبراً ضمن المقبرة الحديثة في عين ترما بعد أن منعنا النظام السوري من دفن موتانا في جوبر، ودفعت ثمنه 8 ملايين ليرة سورية للمدعو مسلم سلام، إضافةً إلى 300 ألف ليرة ضريبة فراغ القبر».
يضيف أبو الزين: «رغم تسديد ثمن القبر، إلا أن مسلم سلام كان يماطل في تسليمه، وبعد أخدٍ ورد أعطانا رقم القبر والشاهدة الخاصة به، لكن الصدمة جاءت بعد عدة أشهر حين توفي والدي وذهبنا لفتح القبر لدفنه، فتفاجأنا أن شاهدة القبر الخاصة بنا غير موجودة، وفي داخله جثمان شخص لا نعرفه».
رغم مرور أكثر من 5 سنوات على سيطرة النظام على جوبر، لا يزال يمنع السكان من العودة إلى بيوتهم بحجة أن المنطقة دخلت ضمن المخطط التنظيمي، كما أنه يمنعهم من دفن موتاهم في مقبرة جوبر، ما يضطرهم إلى شراء قبور في عين ترما، غير أن بعضهم وَقَعَ أيضاً في فخ الاحتيال.
ذهب أبو الزين غاضباً إلى مكتب مسلم سلام للاستفسار عن الموضوع، فتذرّع أن «خطأً ما حصل، ووعد بتأمين قبر في مقبرة ثالثة سيقوم بافتتاحها بعد نفاد القبور في المقبرة الحديثة» على حد زعمه، ليضطر أبو الزين لدفن والده في مقبرة نجها بريف دمشق، وبعد أيام قدّم شكوى ضد مسلم سلام وبلدية عين ترما للمطالبة بحقه في القبر.
لم يكن أبو الزين الوحيد الذي تعرض للاحتيال من مهجري جوبر، بل هناك عدة أشخاص واجهوا المشكلة نفسها، لتقوم جمعية جوبر الخيرية بتشكيل لجنة خاصة قامت بمراجعة محافظة ريف دمشق وحصلت منها على كتاب لاسترداد حق المطالبين بقبورهم، لكن بلدية عين ترما لم تستجب لكتاب المحافظة بتسليم القبور لأصحابها، واستمرت ببيعها لعدة أشخاص.
تجاوزات بالجملة
لم تقتصر تجاوزات بلدية عين ترما على المتاجرة بالقبور، بل امتد نشاطها أيضاً إلى بناء الأسطح المخالفة بتغطية من يوسف القاضي، خصوصاً أثناء عمله كنائب رئيس بلدية، لا سيما أنه لم يستمر في رئاسة البلدية أكثر من 3 أشهر. وخلال عمله كنائب كان يقوم بالتوقيع على تراخيص الطوابق المخالفة، ومنح أذونات الصب وشراء الأسمنت المدعوم بكميات كبيرة من مؤسسة العمران، كما أنه استمر باستثمار تلك الأبنية المخالفة بعد إقالته من منصبه في تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
حصلت الجمهورية.نت على كتاب موجه من بلدية عين ترما إلى مؤسسة العمران، تطالبها بمنح 38 طن من الأسمنت لمسلم سلام للقيام بأعمال الإكساء لأحد الأبنية.
أفاد مصدرٌ فضّل عدم الكشف عن اسمه للجمهورية.نت أن مسلم سلام حصل على رخصة للحصول على الأسمنت وإنشاء طوابق جديدة ضمن بناء في عين ترما، رغم وجود تقرير بالبناء من لجنة السلامة العامة يفيد بأنه لا يتحمل أوزاناً زائدة بسبب ضعف البنى التحتية، وبسبب وجود أنفاق تحته مما يجعله عرضة للتأثر بالهزات الأرضية الحاصلة، لكن نائب رئيس بلدية عين ترما يوسف القاضي منحهُ الترخيص.
وأفاد المصدر ذاته أن «مسلم سلام يستلم المازوت عن كل أرض بنى عليها مقبرة في عين ترما، وذلك بالتنسيق مع خاله محمد خير خالد مدير الجمعية الفلاحية، الذي يقوم بتوزيع حصص المازوت على سلام بدلاً من الفلاحين الأحق بتلك المخصصات».
كانت بلدية عين ترما تتلاعب أيضاً بفواتير الشراء لجني ملايين الليرات، حيث كانت تحصل على دعم من منظمات المجتمع المدني وبعض المتبرعين، لكنها لم تكن أمينةً على تلك التبرعات، إذ جمعت مبلغ 85 مليون ليرة لشراء جرافة لصالح البلدية، بينما دفعت ثمنها 40 مليون ليرة فقط، واختفى باقي المبلغ. وبعد فترة تعطلت الجرافة بسبب رداءة مواصفاتها، وتم رميها في مرآب البلدية حيث حصلنا على صورة لها توضح أنها أقرب إلى الخردة حالياً.
القبور بأسعار عالية
باتت تكلفة تأمين قبر في العاصمة دمشق وريفها قريبة من أسعار العقارات، وأصبح الفقراء يواجهون تحدياً حقيقياً في تأمين مكانٍ لدفن موتاهم. ارتفعت أسعار القبور لتصل إلى مبالغ خيالية، حيث وصل سعر القبر في مقابر الدحداح وباب الصغير والشيخ رسلان وسط دمشق لما يقارب 40 مليون ليرة سورية، وفي المقابر الأخرى لنحو 25 مليوناً، ما دفع كثيرين ممن لا يستطيعون شراء قبر في المدينة إلى البحث عن بدائل خارجها.
أبرز تلك البدائل هي مقبرة نجها قرب بلدة الحسينية بريف دمشق، حيث لا يكلف الدفن فيها أكثر من 300 ألف ليرة. ولكن بعضهم يُصرّون على دفن موتاهم داخل العاصمة ولا يملكون ثمن القبر. لجأ البعض إلى استئجار القبور بشكل سنوي بالاتفاق مع حارس المقبرة أو حفّار القبور بالإضافة إلى عمولة تُدفع لمكتب دفن الموتى، حيث يتراوح مبلغ الإيجار السنوي بين مليون و5 ملايين في المقابر الرئيسية، وبين 500 ألف و3 ملايين في المقابر الأخرى.
أكد مكتب دفن الموتى التابع لمحافظة لدمشق في وقتٍ سابق أن المقابر داخل العاصمة ممتلئة، وبلغت طاقتها الاستيعابية القصوى، ولا توجد مساحة للدفن فيها، ما أفسح المجال للتلاعب الواسع من قبل سماسرة القبور وبعض أصحاب المكاتب العقارية في دمشق.
امتلاء المقابر لم يقتصر فقط على العاصمة، بل كان الحال كذلك في بعض بلدات ريف دمشق، ومنها عين ترما، وهو ما يفسر قيام البلدية ببيع القبر ذاته لأكثر من شخص عبر عقود مزورة، ما تسبّب في ضياع حقوق الأهالي وسط غياب حكومة النظام السوري عن محاسبة الفاسدين والمتورطين في عمليات الاحتيال هذه.