اليمين هو الوسط الجديد! إذا أُجريَتْ يوم غد انتخابات في ألمانيا، فمن المتوقّع أن يحصل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)على نحو 20 في المئة من الأصوات؛ وهو ما يُقارب مجموع أصوات الحزبَين الأخضر واليساري معاً. لذا، تجري راهناً في الأوساط البرجوازيّة، التي تُبدي قلقها إزاء هذا التطور، نقاشات حول الأسباب المحتملة لذلك: فهل تقفُ البرامج الإخبارية المُحايدة جندرياً وراء ذلك؟ أم أنّ الأسبابَ تُعزَى إلى قوانين التدفئة المُقدَّمة بصورةٍ سيئة؟
بكلّ الأحوال، ما كان هذا ليُثير استعجاب ماكس هوركهايمر، مؤسس مدرسة فرانكفورت الذي وافته المنيّة في مثل هذا اليوم قبل 50 عامًا؛ بدلاً من ذلك، كان سيكتفي بِأن يحثّنا على التفكُّرِ بعمقٍ أكبر في الأمر. وقد نُشرت، بمناسبة الذكرى الـ50 لوفاته، عدّة إصداراتٍ تُبدي الأهميّة التي ما فتئ يتمتّعُ بها فكرُه، بما في ذلك مقالة هوركهايمر الشاب لـ آرنو مونستر ومدخل إلى راهنيّة ماكس هوركهايمر لـ جيرهارد شفبنهويزر. فماذا عساهُ يُخبرنا هوركهايمر اليوم؟
الليبرالية تلتهم نفسها
بالرغم من أن وجهة نظره قد تبدّلت مع الوقت، إلا أنه ظلّ حتى الشيخوخة مُعتقِداً بأن تناقضات الليبرالية ستقودها في النهاية إلى التهام نفسها؛ إذ يرى أن النظام الليبرالي يستبطنُ نزعة التحوّل، عاجلاً أم آجلاً، إلى الفاشيّة.
وقد شهد هوركهايمر عن كثبٍ تحوّلَ نظام برلمانيّ إلى حكم القائدِ-الفوهرر الأوتوقراطيّ، ما جعل من هذا الحدث محور تفكيره فيما بعد. لكن وبمجرّد توليه إدارة معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعيّة أُرغِمَ، لكونه يهوديّاً وماركسيّاً، على الهربِ إلى المنفى. فمضى في سنة 1933 إلى سويسرا، لينتقل من هناك إلى جامعة كولومبيا في نيويورك ومنها إلى Pacific Palisades في كاليفورنيا. وشكّلَ دائرة مؤلّفة بشكل رئيسي من مفكّرين ألمان-يهود، لتشتهر، حتى يومنا هذا، باسم مدرسة فرانكفورت. ما يُعرَف الآن لدى الأجيال المتعاقبة بالنظريّة النقديّة أخذ شكله الرئيسي في المنفى الأميركي. ولم تمثّل عودة ماكس هوركهايمر وتيودور فيزنغروند أدورنو سنة 1955 إلى جامعة فرانكفورت في ألمانيا ما بعد الفاشيّة أقلّ من إعادة ولادة ثقافيّة لبلدٍ هجرته كلُّ الأرواح الخيّرة.
سبرُ أغوار المجتمع
وُلِدَ هوركهايمر عام 1895 في شتوتغارت-زوفنهاوزن، لأبِ يهودي يملكُ مصنعاً للصوف الصناعي. وكان من المفترض أن يتولّى إدارة مصنع والده، غير أنه ذهب إلى ميونخ وفرانكفورت وفرايبورغ لدراسة الفلسفة وعلم النفس والاقتصاد السياسي. مُتأثّراً بأخلاقية الشفقة لشوبنهاور، صُدِمَ هوركهايمر ببؤس العمّال، وسرعان ما تحول إلى ماركسيٍّ غير أورذوكسي.
سعى هوركهايمر، بصفته أستاذ الفلسفة الاجتماعية ومدير معهد البحوث الاجتماعية، لبلوغِ أهدافٍ عظيمة؛ حيث أراد سبرَ أغوارِ المجتمع بأسره. إذ تُوفّرُ الفلسفةُ أسئلةً من شأنِها مساعدة التخصُّصات العلميّة التجريبية على الإجابة عليها بدقّة. فمن خلال أبحاث فلاسفة مثل أدورنو وليو لوفنتال وإيريش فروم، يندمجُ نقد الاقتصاد السياسي مع نظرية الثقافة والتحليل النفسي؛ وغايةُ ذلك تصحيحُ الاستنتاجات المتسرّعة في الفكرِ الماركسيّ بناءً على تحليلٍ اجتماعي-نفسي. والسؤال الحاسم الذي أشغل هوركهايمر كان: لماذا لا تتمرد الجماهير المُستعبَدة ضدّ الهيمنة الرأسمالية على النحو الذي تنبأ به ماركس، بل إنّها، بدلاً من ذلك، تتحرّقُ للاندماج في «المجتمع الشعبيّ المُتجانس» (Volksgemeinschaft)؟ ولماذا تنشأ، في المناطق التي يحدث فيها التمرّد هياكل سلطويّة بيروقراطيّة جديدة، عوضاً عن الجنّة الاشتراكيّة المُنبثقة من تضارب مصالح الطبقات؟
يُدرك أصدقاء أدورنو وهوركهايمر أن الوجود يُحدّد الوعي بشكل تلقائي؛ وبالتالي فإن افتراض أن البؤس الذي يعانيه العمال في قاعات العمل يؤدي دائماً إلى نشوء عمّال يمتلكون وعيّاً طبقيّاً، ويناضلون من أجل الحرية والمساواة، استنتاجٌ ضحل لا يأخذ العوامل النفسيّة بعين الاعتبار. إذ يمكنُ لتلك الأفكار السائدة في المصانع أن تكون هي ذاتها أفكار المُتحكِّمين. ومن غير الممكن، أيضاً، نكران حقيقة أن الصورة الأوتوقراطيّة-الهرميّة للعالم التي يتمتّع بها المجتمع الطبقي الليبرالي-البرجوازي متأصّلة في إطار تفكير العمال والمُستضعَفين، ولذا فإنه ليس من النادرِ أن يجد الناس أنفسهم يحتفون بمستبديهم.
في إطار دراساتهما حول الشخصية الاستبدادية، يُظهِر أدورنو وهوركهايمر كيفَ يتمُّ تعويض الشعور بالعجزِ داخل الحدود الضيّقةِ «للعالمِ المُدار» من خلالِ التعلُّق بشخصيات قياديّة. حيث يُسَرُّ الشخص البسيط بكونه منتميّاً إلى الشعب، مُماهيّاً نفسه مع الأقوياء وليس مع أولئك الضعافِ الذين يُوجِّه ضدّهم سخطه المكبوت؛ فبدلاً من تحميلِ الظروف القائمة المسؤوليّة، تُجسَّد شرورُ العالم لتُلصَق بكبشِ الفداءِ الأبديّ، «اليهوديّ»، الذي هو ضحية «إسقاطاتٍ خاطئة». ولا عجب أن كثيرين يعتبرون هوركهايمر وأدورنو أبوين مؤسّسين للبحوث الاجتماعيّة الخاصّة بمعاداة السامية. كما أن البحوث حول ظاهرتي اليمين المتطرّف والشعبوية تستندُ بدورها إلى تشخيصاتهما المعرفيّة. علاوة على أنّ اختبار هوركهايمر الخاصّ بكشفِ الديماغوجيين يبدو وكأنّه قد صُمِّمَ بالأمس؛ حيث السمة الأساسية فيه: استبعاد الشكِّ من الخطاب والإكثارِ من استخدام صيغ التفضيل، إضافةً إلى تمييزِ الـ«نحن» في مواجهة الـ«هم»، والتوضيح بأنّ زعيم الشعب «واحدٌ منا»، والتحذير من القوى الظلامية المتآمرة. وهذه كلّها أساليب بلاغية تبدو لنا في الوقتِ الحاضرِ مألوفةً للغاية.
يُفسِّر هوركهايمر ضيق الأوضاع بسيطرة ما يُعرف بـ«الراكيتس» (Rackets)، وهي عبارة عن عصابات استبدلت الطبقة بوصفها «الشكل الأوّلي للحكم». ما كان في السابق مقتصرًا على الجريمة المنظمة – عصابات النهب التي تُطالب بالإذعان – تَسلّلَ اليوم ليشمل المجتمع بأسره. تُعلِّق الراكيتس السوق الحرّة، وتستعمر الدولة والجامعات والكنائس والأحزاب والنقابات، وتَحولُ دون أن يطرأ أيّ تغيير، إذ تهدف إلى حصرِ منافع غاراتها على أعضائها فحسب. وفي السنوات الأخيرة، صار مصطلح «الراكيتس» يُستخدَم من قبل علماء الاجتماع مثل أولريش بروكلينج لوصف الفساد اليومي في مجتمعات الحداثة المتأخّرة: حيث تتسبب الشبكات والخدمات الناجمة عن الصداقة والاتفاقيات السريّة في عرقلة التقدم من أجل مصلحة الجماعة.
تشاؤم حضاري
في أربعينيات القرن الماضي، توسَّعت أطروحة هوركهايمر القائلة بـ«أن من لا يرغبُ في التحدُّث عن الرأسمالية لا بدّ أن يصمت حيال الفاشية أيضاً»، لتغدو نقداً، متزايداً في تشاؤميّته، للحضارة. مثلما قام هوركهايمر، جنباً إلى جنبٍ مع أدورنو في باسيفيك باليسادس تحت شمسِ كاليفورنيا، بصياغة تشخيصٍ حضاريٍّ هو، على الأرجحِ، الأكثر تشاؤمًا في تاريخ الفكر الغربي: إذ يسعى «ديالكتيك التنوير» لإظهار أنّ القطارات المتحركة نحو أوشفيتز لا تمثّل انقطاعاً عن الحضارة المستنيرة، بل نتيجتها المنطقيّة؛ فالشموليّة مُضمَّنةٌ بعمقٍ في شيفرة التنوير السّاعية للسيطرة على الطبيعة الداخلية والخارجية؛ فبينما يهدفُ التنوير إلى استبدالِ الصّور الأسطورية للعالم، ينقلبُ نفسه، وبشكلٍ علمويّ ساذج، إلى «أسطورة». كما أن «نزعُ السِّحر عن العالم» يستبطن، في الوقت ذاته، شوقاً إلى التفكير الأسطوري الفطري؛ لتلد العقلانية، كنقيضٍ لها، هراءً رومانسيّاً ممزوجاً بإيديولوجيا تآمريّة.
وفي عام 1947، حين صدرت النسخة النهائية من «دياليكتيك التنوير»، نُشِرَ أيضًا عمل هوركهايمر في نقد العقلِ الأداتي الذي يُحاججُ في المنحى ذاته؛ إذ يَعتبر هوركهايمر أنّ التنوير، بصيغته العقلانيّة الباردة، قد تخلّى عن مطلبه في تحرير الفرد من القيود؛ حيث أصبح الإنسان والطبيعة قابلَين للتنبؤ والقياس والإدارة والاستغلال والاستنزاف. فقد تحوّلَ الفرد إلى مجرّد حامل للوظائف، مُكيِّفاً نفسه مع الآلاتِ التي يتوجّب عليه العمل معها. ويُعَدّ العالم التكنولوجي، بالنسبة لهوركهايمر، كابوساً، «انطفاءً للعقلِ بمجرّد اختلافه عن العقلِ كأداة». ومع ذلك، فإنّه يتمتّع بقدر كافٍ من الدياليكتيّة للاعتراف بالجوانب الإيجابية للتكنولوجيا أيضاً، مما يميّزه بوضوح عن المناهضين اليمينيين للحداثة مثل مارتن هايدغر.
الإنسان كمُلحق للآلة
بالرغم من أن هوركهايمر لم يعاصرِ أحدث مراحل التطور الرأسمالي، أي عصر النيوليبراليّة المُقلّصة للتنظيمِ في الثمانينيات من القرن الماضي، غير أن الحداثة المتأخّرة، التي تطالب الجميع بأن يكونوا فريدين ومتميزين، قد جعلت من بعضِ تشخيصات هوركهايمر تبدو قديمةً.
لكن الفكرة التي صاغها هوركهايمر، بنبرةٍ حادّة، حول أنّ «ما كان يُعرف، مرةً، بالثقافة، يمكن أن يُمحى بواسطة التكنولوجيا»، أصبحت في عصر Chat-GPT قابلةً للتحقّقِ بالفعل؛ كما أنّ البشر في عصر «رأسمالية المراقبة» الخاضعة لهيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة، بوصفهم مُنتجِين مُجدِّين للبيانات ومورِّدين طيّعين لأشدّ أسرارهم شخصيّةً، يصبحون بشكلٍ متزايدٍ مجرّد «مَلاحق للآلة»، ما يتناسبُ بدوره مع رؤية هوركهايمر «للعالمِ المُدار». وكثيرًا ما حذّرَ هوركهايمر من هذا الأمرِ في المرحلة الأخيرة من حياته ومسيرته المهنية، بالرغم من ندرةِ كتابته في تلك الفترة وانشغاله بعمله كمديرِ معهدٍ ورئيسٍ لجامعة فرانكفورت.
عدم الارتياح للتمرد
عند عودتهما إلى ألمانيا، أصبح هوركهايمر وأدورنو، دون رغبة منهما، مصدرَ إلهامٍ لحركة الطلاب اليسارية المتطرّفة. وبعكس هيربيرت ماركوزه، عارض هوركهايمر بشدة تحويل كلماته إلى شعارات؛ إذ لم يرغب في ترجمة النظرية إلى تطبيق عملي؛ فما يمكن لنقدِهِ إنجازه، يقتصرُ، حسب قوله، على كشف ما يسيرُ بشكلٍّ سيء في المجتمع، مع ضرورة تجنُّب تحديد الشكل النهائيّ لمجتمع جيِّد؛ إذ دائماً ما أدّت المشاريعِ اليوتوبيّة المُصمَّمةُ على الورقِ إلى كوارث. ومع اعتقاد هوركهايمر بأنّ قيام ثورةٍ ضد النّظام النازيِّ كان أمرّاً ضروريّاً، لكنّه، يرى، أن ثورةً ضد الجمهورية الاتحادية لن تجلب سوى ما هو أشدّ سوءاً مما هو قائمٌ بالفعل. وبالرغم من مواظبة هوركهايمر المُسِنّ على الاعتقادِ بأنّ المشاكل الاقتصادية-الاجتماعية والتوتّرات العاطفيّة التي تُسبّبها الليبرالية يمكن أن تسهم في تعزيزِ الحركات الفاشية؛ إلا أنّه، في الوقت نفسه، أكّد على ضرورة الحفاظ على كثير من منجزاتِ الديمقراطية الليبرالية.وبعد قيامِ القسمُ المتشدِّد من الحركة الطلابيّة بقراءة أعمالهما، كنسخٍ مُقرصنةٍ قبل نشرها في ألمانيا، قرّرَ الابتعاد عن أدورنو وهوركهايمر. وقد اتخذَ الأخيرُ مسافةً من الماركسيَّة ليعاود التقرُّب فكريًا من شوبنهاور. وعند احتدام الاحتجاجات ضدّ «جامعة الأساتذة التقليديين»، حيث قام أبناءُ الجناةِ بتقديم دمية على شكلِ دب «تيدي بير» لليهوديِّ تيودور «تيدي» أدورنو على سبيل السخرية منه، كان هوركهايمر قد تقاعدَ سلفاً ولم يعش تلك الأحداث إلا عن بعد؛ وقد قضى أواخر حياته في تيسين السويسريّة، لتوافيه المنيّةُ في نورنبيرغ، في السابع من تموزِ العام 1973. ومن شأنِ جملته الميلانكوليّة المذكورة في مقابلة أُجريت معه سنة 1969، والتي تجمع بين تشاؤم شوبنهاور وتفاؤل إرنست بلوخ، أن تكون شعارًا لحاضرِنا المُهدَّد بالتغيُّر المناخي وازدياد النزعة اليمينية: «علينا أن نكون متشائمين نظرياً ومتفائلين عملياً. يجب أن نخشى مما هو أسوأ، وأن نبذل، مع ذلك، قصارى جهدنا».