إنها ألمانيا مرة أخرى. جملة تتكرر مع تكرار مشاهد وأخبار ألمانيّة مُرافِقة لأخبار الحرب على غزة؛ من مشاهد جديدة لعنف الشرطة في وقفات فلسطينية إلى مواقف إقصاء وعزل جديدة.

يتجمع حشدٌ من الحضور في مركز عيون الثقافي في سلسلة فعاليات تم تنظيمها تضامناً مع المركز، الذي أصدر مجلسُ الشيوخ في برلين قراراً بوقف تمويله بعد أن استضاف ندوة لجمعية الصوت اليهودي لسلام عادل في الشرق الأوسط، ليباشر المركز بعدها دعوى قضائية ضد القرار جمعَ تكاليفها من حملة تبرع. أعلنَ مجلس برلين الثقافي في بداية العام أن طلبات التمويل الثقافي ستكون مشروطة بتعهد «عدم معاداة السامية» من قبل المتقدمين-ات بها، وتكمن إحدى مشاكل هذا القرار في اعتماده تعريفَ معاداة السامية الذي يعتمده التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة اليهودية (IHRA)، والذي يدمج انتقاد دولة إسرائيل مع معاداة السامية.

لم يتغير شيء في مشهد حصار الأصوات والمواقف المعادية للحرب على غزة في ألمانيا سوى تفاصيل إضافية هنا وهناك، واتّخاذ الترهيب صيغة أكثر وضوحاً وكثافة ممّا كان عليه في محطات سابقة من سيرة التشديد على شتى مجالات التعبير والمناصرة الفلسطينية، وهي السيرة التي سبقت تاريخ 7 أكتوبر بعقود. استمرت الاستجابات ومحاولات المقاومة المختلفة لهذا الواقع، ومنها انسحابات لفنانين وفنانات من مهرجانات وفعاليات فنية، و«ميمز» تنتشر في أرجاء الفضاء الإلكتروني وتسخر من مقصلة الآراء الألمانية وتَهافُت مبرراتها. ولكن ماذا بعد؟

قيلَ الكثير في إسقاط الذنب التاريخي لألمانيا على القضية الفلسطينية، وفي تحويل هذا الذنب إلى سيرورة عويل متعامية تنتهي فجأة بالانقلاب وإعادة إنتاج هياكل قمعية على مستويات المساحات العامة المختلفة. ولكن هل هو مسار محتوم نحو بيئة ثقافية مقيّدة، تُضَخّ فيها أموال حكومية تغذّي بنى ثقافية سلطوية، تُقدّم وتدعم أشكال إنتاج فني لا يتعدى تنوعُهُ التمثيلَ الفلكلوري، ولا يقترب من حدود رقابية صارمة.

هذه الحدود اليوم هي فلسطين، وغداً قد تتجاوزها إلى حدود أخرى لا تزال في علم الغيب ونحن أمام لحظة مجهولة المصير سياسياً، تَشلُّ فيها جرارات آلاف المزارعين المحتجين حركة الشوارع في برلين، وتتوالى الإضرابات مع شبح استمرار الانكماش الاقتصادي الذي يُخيّم على توقعات العام 2024، وتخرجُ تقارير لتتحدث عن اجتماعات سرية لحزب البديل من أجل ألمانيا بهدف ترحيل ملايين من المهاجرين، الحزب الذي يحظى بأكثر من 20 بالمئة من الأصوات بحسب استطلاعات الرأي، ويُعتبر ثاني أكبر حزب معارض في البوندستاغ الألماني.

هل تختبئ أصوات خافتة أكثر تشككاً بالمواقف الرسمية خلف جدار الهياج وضوضاء تصريحات السياسيين الألمان؟ وهل لا يزال من الممكن إجراء تحوُّل في الخطاب العام والضغط على شبكة من المؤسسات الفاعلة ثقافياً لتكون شريكة في مواجهة السياسات الحكومية؟

انطلق في 8 كانون الثاني (يناير) مشروع إضراب ثقافي، يحثُّ العاملين الثقافيين على مقاطعة المؤسسات الثقافية في ألمانيا: «إنها دعوة لرفض انتهاج المؤسسات الثقافية الألمانية للسياسات المكارثية التي تقمع حرية التعبير، وتحديداً التعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية» كما جاء في نص بيان الإضراب.

تحدثت إحدى مُنظِّمات الإضراب للجمهورية.نت عن ضرورات تنظيمية فرضها واقع العمل الثقافي في ألمانيا ما قبل سبعة اكتوبر، وشكلت أساساً لجهود العمل على مشروع الإضراب الأخير: «ما نواجهه في هذا المجال ليس جديداً، كان موجوداً على الدوام ويتفجّر في مناسبات بعينها أحياناً كما حدث في معرض دوكمنتا عام 2022. وقبلها عام 2019 حين صدور قانون تجريم البي دي إس (حركة مقاطعة إسرائيل). حينها تولَّدت ضرورة للتنظيم وهي جهودٌ كانت أساساً للمجموعة التي نظّمت الإضراب. من المنظمين والمنظِّمات من كان مشاركاً في دوكمنتا، ومنهم من نشط قبل ذلك، والذي اختلفَ بعد 7 أكتوبر هو فقط تكثيف هذه السياسات القمعية تجاه الأصوات المناصرة لفلسطين وزايدة عيارها، ما سبّبَ صدمة في البداية عندما لم تكن الجهود قد انتظمت بعد، فاقتصر الأمر على مبادرات فردية وأشخاص أعلنوا إضراباً مثل الموسيقي العراقي خيام اللامي علام والفنانة الفلسطينية سما عناب. ومن هنا بدأ التفكير في تنظيم الجهود واتخاذ موقف جماعي ليتمكن الإضراب من الضغط على المؤسسات الثقافية، لتنتظم بدورها في مواجهة السياسات الحكومية لهيئات مثل وزارة الثقافة ووزارة الخارجية. كانت هذه المبادرات تتعثر فيما مضى مع سعي جهود سياسية لإفشالها بشكل متعمد، وكانت عواقب الإلغاء والفصل من العمل حاضرة دائماً».

التدقيق في معاداة السامية

لطالما انتُقِدَت ذريعة مكافحة معاداة السامية بصيغتها الألمانية كونها باتت تشكل مظلّة واسعة لأشكال مختلفة من قمع الآراء ومصادرتها، بما لا يستثني العاملين والعاملات في الشأن الثقافي والنشطاء والناشطين من اليهود أنفسهم، مع إشاعة جوٍّ من الترهيب ومنع أي انتقاد بالتلويح بورقة الماضي الألماني. تناولَ الإضراب هذه الجزئية في أحد مطالبه الذي حمل عنوان التدقيق في مكافحة معاداة السامية، مُعرِّفاً بالمرجعية التي تعتمدها المؤسسات الثقافية والأجهزة الحكومية الألمانية في هذا السياق، والمتمثلة في تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA) لمعاداة السامية، وهو التعريف الذي تم انتقاده على نطاق واسع لأن صياغته سهّلت الخلط بين انتقاد دولة إسرائيل ومعاداة السامية.

الخيار البديل كما جاء في بيان الإضراب: 

«يطالبُ الداعون إلى الإضراب المؤسسات الثقافية بتبني تعريف إعلان القدس لمعاداة السامية (JDA) الذي صِيغ رداً على تعريف IHRA، ويوفر قواعد إرشادية أكثر دقة. على المؤسسات الثقافية أن تعتمد على تعريف إعلان القدس من أجل محاربة المناخ القمعي المتزايد الذي يَنتجُ عن إقرار تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة المُعيب، ومن أجل التمكُّن من تدقيق مكافحة معاداة السامية».

تُعلّق المُساهِمة في تنظيم الإضراب التي تحدثنا إليها على هذه النقطة: «ما حدث بعد 7 أكتوبر هو البناء على تعريف التحالف الدولي في منح التمويل الثقافي الحكومية. يعني ذلك إلغاء نسبة كبيرة من الفنانين-ات والعاملين-ات في الشأن الثقافي من المقيمين في برلين وفي ألمانيا والآتين إليها من دول أخرى، الذين يجدون أنفسهم الآن في مكانٍ يعجزون فيه عن العمل، وهذا الوضع ساهم في دفعنا لتسريع خطوات تنظيم الإضراب والإعلان عنه».

أَدرجَ بيان الإضراب ضمن المطالب أيضاً حماية الحرية الفنية ومكافحة العنصرية البنيوية، والتي تبدو كمطالب واسعة النطاق وعالية السقف، أو صعبة القياس في أداء المؤسسات وسياسات الدولة. فكيف يمكن للإضراب أن يحقق هذه المطالب؟ وما مدى فاعليته وأثره على عمل الفنانين؟

تتفاعل المتحدثة باسم الإضراب مع هذه الجانب: «مع إدراكنا أن سقف المطالب عالٍ في ألمانيا، وأنه قد يؤثر على معيشة الفنانين خصوصاً من أصحاب الوضع الأكثر هشاشة، ومن يعملون كفريلانسرز ودون وجود تنظيم مهني يجمعهم، نرى أن كل فنان قادر على التفاوض مع المؤسسات التي يتعامل معها ضمن إطار الإضراب، وأن يصبح الإضراب أشبه بورقة تفاوض لتتم ممارسة ضغط ما على المؤسسة لاتخاذ إجراء يقف في وجه السياسات التعسفية، كأن تصدر بياناً علنياً متضامناً مع المطالب. ورؤيتنا على المدى الأبعد هي أن تُشكِّل هذه المؤسسات تحالفاً بينها لتتمكن من العمل بفاعلية أكبر».تختتم شهادتها بما يخص أصداء الإضراب والتجاوب معه بالقول إن التجاوب يبدو إيجابياً حتى الآن، مع وجود أكثر من ألف شخص وقعوا على الإضراب: «منهم من هو معروف على نطاق واسع، وآخرون ممن لا يزالون على رأس عملهم وهي الفئات القادرة أكثر من غيرها على المساهمة في الإضراب وأن تلعب دوراً كبيراً في الضغط على المؤسسات الثقافية، ووضع هذه المؤسسات أمام استحقاق مفصلي. سجَّلَ الموسيقيّون والموسيقيات نسبة التجاوب الأكبر، ونشهد الآن انسحاب كثيرين-ات منهم من مهرجان سي تي إم. وهناك تحرّك رديف من قبل العاملين في المجال الأكاديمي لتنظيم إضراب ضد الجامعات الشريكة في سياسات القمع أيضاً».