تشهد منطقة إدلب منذ مطلع العام الحالي 2024 تصعيداً عسكرياً عنيفاً من قبل النظام السوري وحليفته روسيا، وقد تعرَّضت مدينة إدلب على مدار يومين متتالين، في 6 و7 كانون الثاني (يناير) الجاري، لقصفٍ بالقنابل الفسفورية الحارقة المحرَّمة دولياً، والتي غابت عن منطقة إدلب منذ سنوات.

وطال القصف أيضاً منشآت مدنية وطبية وتعليمية ونقطة تركية غربي حلب، لتقوم القوات التركية التي تتمركز في نقاط مراقبة عسكرية في المنطقة بقصف مواقع ميليشيات تابعة لإيران في مدينة سراقب شرقي إدلب وفي الفوج 46 بريف حلب الغربي، ما أدى إلى وقوع خسائر في صفوفها، وذلك بالتزامن مع تحليق مكثّف لطائرات F16 التركية في سماء الشمال السوري، في مشهد لم يألفه المسرح العسكري منذ حملة قوات النظام وحلفائه قبل نحو خمس سنوات على شمال غربي سوريا نهاية العام 2019.

يُعزّز هذا التصعيد مخاوف الأهالي من موجة نزوح جديدة تُعمّق سوء أوضاعهم الاقتصادية والأمنية غير المستقرة أساساً منذ الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والذي كان الشهر «الأكثر دمويةً» خلال 2023 طبقاً لإحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. وكان التاريخ المذكور بدايةً لتصعيد النظام وروسيا من القصف على مناطق إدلب وريف حلب الغربي الخاضعة لسيطرة «هيئة تحرير الشام»، وذلك في أعقاب تفجير الكلية الحربية بريف حمص الذي أوقع 89 قتيلاً وأكثر من 280 جريحاً وفقاً لوكالة الأنباء الرسمية السورية «سانا»، وذلك على الرغم من عدم تبني فصائل المعارضة في إدلب للتفجير الذي استهدف حفل تخريج الضباط.

شللٌ اقتصادي

يقول أنور (45 عاماً)، وهو أحد تجار الأسمدة في مدينة إدلب، للجمهورية.نت إن التصعيد شلَّ حركة السوق في إدلب، والتي كانت تشهد انتعاشاً ملحوظاً خلال الفترة السابقة، إذ أوقفَ القصفُ بعض الصفقات مع تجار أتراك، مُؤكِّداً أنه مازال ينتظر ما قد يُسفر عنه المشهد على المسرح العسكري من تطورات في اﻷيام القادمة. ويؤكد أنور أنّ كثيراً من التجار والصناعيين تريّثوا في أعمالهم وتراجعت وتيرة النشاط لديهم، خاصة مع ما يُبدونه من تخوُّف نتيجة الأخبار الآتية من داخل «هيئة تحرير الشام» على خلفية الحديث عن اكتشاف عملاء للتحالف والنظام السوري ضمن صفوفها، وحدوث بعض اﻻنشقاقات على مستوى قياداتها كان آخرها انشقاق جهاد عيسى الشيخ المعروف باسم «أبو أحمد زكور»، منوِّهاً أن معظم التجار يشكّكون في قدرة الفصائل العسكرية على ردع النظام.

من جهته، يجزم الشاب محمد حسين، وهو مالك إحدى شبكات تخديم الإنترنت المحلية في مدينة الأتارب غربي حلب، أن هذا القصف العنيف منذ مطلع العام الحالي لم تشهده المنطقة منذ سنوات، مُتخوِّفاً من موجة نزوح تدفعه خارج منزله خلال هذا الشتاء، والتي قد تؤدي إلى خسارة جديدة لرأس ماله من أبراج الإنترنت الخاصّة بشبكته الموزّعة في أحياء المدينة.

يقول حسين للجمهورية.نت إنه فقَد إثر الحملة العسكرية الأخيرة للنظام السوري وروسيا على المنطقة في 2019 معظم تجهيزاته الإلكترونية التي يُقدر ثمنها بـ 6500 دولار أميركي، وذلك بعد أن غادر المدينة نازحاً لقرابة 45 يوماً، برفقة عائلته إلى مدينة سرمدا شمالي إدلب، هرباً من القصف.

مخاوف النزوح نحو المجهول

يخشى سكان المدن والبلدات الواقعة بالقرب من خطوط التماس مع قوات النظام احتمال قيام الأخيرة بعمليات اجتياح برية كالتي جرت قبل خمس سنوات، خاصةً بالنسبة لمدن وبلدات سرمين وإدلب والأتارب، وبلدات ريف إدلب الجنوبي وصولاً إلى جسر الشعور، ذلك فضلاً عن القصف العنيف الذي يؤدي عادةً إلى نزوح مؤقت لسكان المناطق المكتظة، والذي قد يصبح دائماً في بعض الحالات.

يُشير الشاب الثلاثيني رامي إلى أنه يفكّر يومياً في مدى قدرته على إيجاد مسكن آمن له ولعائلته من القصف في حال ازدادت حدّة التصعيد، في الوقت الذي يواجه صعوبات كثيرة في تأمين مستلزمات منزله بالاعتماد على عمله في شركة محلية لتوفير خدمة الإنترنت، والتي توفر له راتباً يقدر بحوالي 150 دولاراً أميركياً شهرياً، بالإضافة إلى مدخول زوجته التي تعمل مدرِّسةً في إحدى الروضات الخاصّة براتب شهري لا يتجاوز  80 دولاراً فقط، لافتاً أن كلفة أصغر منزل للإيجار إن وجد في حال النزوح لا تقلّ عن 100 دولار شهرياً.

ولا يختلف الأمر أيضاً بالنسبة السيدة صفاء العبد الله (35 عاماً)، والتي تسكن بلدة الشيخ بحر في ريف إدلب. تعمل صفاء كربّة منزل وهي حامل في شهرها الثامن وتعاني من كسرٍ في قدمها اليمنى، وقد أبدت مخاوفها بشدّة من حدوث موجة نزوح جديدة إثر القصف الذي وصفته بـ«المرعب» والذي تعيشه المنطقة، متخوفةً من ولادة مبكرة في حال اشتداد القصف وعجزها عن الهرب بسبب حالتها الصحية في ظل عدم امتلاك زوجها لأي وسيلة نقل.

ونوّهت السيدة صفاء للجمهورية.نت أن حديث النزوح أصبح يتكرر يومياً بين النساء في البلدة، خاصةً بعد تكرار القصف الصاروخي شبه اليومي مؤخراً على مدينة إدلب، وأضافت: «القصف الذي تشهده المنطقة منذ أشهر لم يكن يثير لديَّ مخاوف بشأن النزوح في الحقيقة، ولكن قصفَ مدينة إدلب من قبل النظام قبل أيام بالصواريخ الفوسفورية والعنقودية، وسماعي بشكل شبه يومي منذ مطلع العام لدوي انفجارات قويّة لم أكُن أسمع مثلها منذ سنوات، بات الأمر يثير مخاوفي فعلاً».

وعند سؤالنا للسيدة صفاء عن مصيرها وعائلتها، وزوجها العامل في أحد أفران مدينة معرة مصرين شمال إدلب، في حال أُجبِروا على النزوح، قالت: «جواب هذا السؤال مجهول بالنسبة لكل من يعيش في المنطقة، ولكن ما أتوقعه في حال نزحنا -لا قدر الله- هو أنَّ منزلنا الجديد سيكون خيمةً قرب الحدود التركية كحال أغلب المُهجَّرين من مدنهم».

تأثُّر العملية التعليمية

أثارَ سقوط إحدى القذائف الصاروخية في 24 من تشرين الأول (أكتوبر) على مدرستيّ الشرقية ومصطفى عمر مصطفى، في بلدة التوامة في ريف حلب الغربي، مخاوفَ السيدة فاطمة ستر (39 عاماً)، وهي أم لـ3 أولاد، من إرسال أبنائها إلى المدرسة نتيجة تجدُّد القصف: «منذ قرابة الشهرين لا يزال أبنائي دون تعليم حتى اليوم، على الرغم من اقتراب موعد امتحانات الفصل اﻷول المصادف في 18 كانون الثاني (يناير) الحالي» مُعرِبةً عن قلقها وتوترها ممّا ستؤول إليه الأحداث التي تشهدها المنطقة من تصعيد عسكري.

وتضيف السيدة فاطمة التي فقدت زوجها نتيجة غارة جويّة قبل سبع سنوات على بلدة كفر ناها غربي حلب أن ابنها الكبير علاء يدرس في الصف السادس، أمّا الابن الثاني عبد الله فهو في الصف الرابع، فيما تدرس ابنتها الصغيرة مريم في الصف الثالث، لافتةً إلى أنّها تحاول اليوم وبجهودٍ ذاتية استكمال تعليم أطفالها في المنزل عن طريق إعادة ما قد تعلَّموه في السنوات الماضية، مُنوِّهةً أنها تعجز عن تعليم ابنها الكبير لصعوبة منهاجه.

وأوضحت السيدة فاطمة أن القصف اليومي على مدن وبلدات ريف حلب الغربي القريبة من بلدة التوامة، وخاصّة بلدات دارة عزة والأتارب والأبزمو، أثار مخاوفها من تكرار ما حدث في عام 2019، العام الذي شهد تصعيداً عسكرياً منذ بدايته واشتد منتصف شهر شباط (مارس)، وانتهى ببدء عمليات عسكرية واسعة في المنطقة أدت لنزوح مئات الآلاف من السكّان، وأجبرتها هي وأطفالها على التوجّه إلى أحد مخيمات شمال إدلب، في فترة اعتُبرت كابوساً على سكان الشمال السوري من حيث تردي الأوضاع الإنسانية وفقدان الملجأ من القصف والعمليات العسكرية.

ولفهم تأثير التصعيد الأخير على العملية التعليمية في شمال غرب سوريا، التقت الجمهورية.نت مع الأستاذة سمية محمد، وهي مديرة مدرسة ثانوية في مدينة إدلب، والتي أكّدت توتر أجواء معظم المدارس في محافظة إدلب، وخشية اﻷهالي على أبنائهم من استهداف مباشر من قبل نظام الأسد للمدارس، مشيرةً إلى أن هذا التخوّف سبّبَ تراجُعاً في أعداد الطلاب مؤخراً، وهو ما سيؤثر في الأيام القليلة القادمة على نتائج الطلاب، وخاصّة أن الفصل اﻷول لهذا العام الدراسي قد شارف على اﻻنتهاء.

وأوضحت السيدة سمية محمد أنّ هناك بدائل أخرى متمثلة في التعليم عن بعد عن طريق المجموعات على تطبيق (واتس آب)، ولكنها في النهاية غير مجديّة، مختتمةً حديثها بالتأكيد على أن العملية التعليمية يمكن تصنيفها اليوم بأنها في حدود الخطر. وأشارت أيضاً إلى أن القصف المتكرر للنظام السوري على المدينة منذ بدء العام الدراسي أسفر إلى تعطّل المدارس عدّة مرّات، إذ تعرضت أكثر من 18 منشأة تعليمية للقصف بما فيهم مبنى مديرية التربية والتعليم في إدلب، مؤكدةً أن هنالك تعميماً صادراً من قبل المديرية على جميع مدراء المدارس بـ«إيقاف الدوام» في حال معاودة القصف، إن كان الوضع يستوجب ذلك حفاظاً على سلامة الطلاب.

ويؤكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، في تقريره الصادر مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أنّ تصعيد الأعمال العدائية في منطقة شمال غربي سوريا مؤخراً أثّرَ بشكل كبير على إمكانية الوصول إلى خدمات التعليم لنحو 2.2 مليون طفل في سن المدرسة. كما تُشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وجود مليون طفل سوري على الأقل خارج المدرسة شمال غربي سوريا، مُحذِّرةً من أنّ 57 بالمئة من الأطفال في مخيمات النازحين ليس لديهم وصول إلى المدارس الابتدائية، و80 بالمئة لا يمتلكون وصولاً إلى المدارس الثانوية.

ماذا جرى في إدلب في السادس والسابع من كانون الثاني؟

كان استخدام أسلحة غير تقليدية ومحرمة دولياً في هذين اليومين، مثل القنابل العنقودية الحارقة، تغيُّراً في نوعية القصف الذي تستهدف به قوات النظام السوري مناطق إدلب وريف حلب مؤخراً، وهو ما يعني مزيداً من الضحايا بين المدنيين في المنطقة، كما أنّه قد يعني محاولة لترهيب السكان ودفعهم للنزوح تحضيراً لعملية عسكرية، وذلك بالاعتماد على ملاحظة سير عمليات عسكرية سابقة للنظام السوري.

وقال تقريرٌ أعدّه الدفاع المدني السوري «الخوذ البيضاء» العامل شمالي سوريا، إن طفلة قُتلت وامرأة أُصيبت بجروح في السادس من كانون الثاني (يناير) الجاري، جرّاء قصف مدفعي من قوات النظام استهدف الأحياء السكنية ومرفق خدمي وحديقة في مدينة إدلب، ليتجدّد القصف مساءً من قبل النظام ويستهدف بصواريخ محملة بذخائر عنقودية حارقة المنطقة الصناعية وأطراف مدينة إدلب الشرقية، وبالقرب من مخيم الشهداء للمهجرين، ما أسفر عن اندلاع حرائق أيضاً. وبحسب التقرير فإن أربعة مدنيين أصيبوا أيضاً في اليوم ذاته إثر اندلاع حريق في سيارة مدنية جرّاء سقوط قذيفة صاروخية للنظام، وذلك أثناء قصفه لسوق شعبي ومنطقة سكنية في مدينة سرمين شرقي مدينة إدلب.

وفي اليوم التالي السابع من كانون الثاني (يناير) أُصيب خمسة مدنيين بينهم طفلان بجروح متفاوتة الخطورة، إثر قصفٍ مدفعي للنظام استهدف المسجد الأثري الكبير والسوق الشعبي بالقرب من المدرسة الثانوية في مدينة سرمين، كما وسجَّلَ التقرير إصابة أربعة مدنيين بينهم طفلة بصواريخ متفجرة وصواريخ محمّلة بذخائر عنقودية حارقة، استهدف الأحياء السكنية ومدرسةً داخل المدينة يتم استخدامها الآن كمركز لإيواء المهجرين. كما تسبَّبَ الهجوم باندلاع ثلاثة حرائق كان اثنان منها بسبب الذخائر الحارقة، أما الحريق الثالث فقد كان بسبب شظايا صاروخ سقط في مطبخ أحد المنازل السكنية وأصاب أسطوانة غاز منزلي. وكان استخدام القذائف الحارقة في هذين اليومين مصدراً لتصاعد الخوف بين السكّان من احتمالات تصعيد أعنف، وقد اعتبره الدفاع المدني في تقريره انتهاكاً وخرقاً متكرراً للقانون الدولي، ناتجاً عن «غياب المحاسبة واستمرار الإفلات من العقاب على مثل هذه الجرائم».

في اليوم التالي الثامن من كانون الثاني (يناير) سقطت قذيفة مدفعية لقوات النظام السوري على سور مدرسة إبلين الشرقية للتعليم الأساسي في ريف إدلب الجنوبي بعد انتهاء الدوام الرسمي، كما استهدف قصف مماثل الأراضي الزراعية بين بلدتي بليون وكنصفرة في الريف نفسه، دون وقوع إصابات. وكان الدفاع المدني قد أعلن في 25 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، خلال تقريره السنوي الذي يوثّق الضحايا من المدنيين خلال عام 2023، مقتل 162 شخصاً بينهم 46 طفلاً وإصابة 684 آخرين بسبب هجمات النظام السوري وروسيا، وأظهر التقرير أن قوات النظام وروسيا نفذتا 1232 هجوماً على مدارس ومستشفيات ومرافق عامة شمال غربي البلاد خلال عام 2023.

يُشار إلى أن منطقة إدلب تخضع لمذكرة تفاهم بين تركيا وروسيا تم التوقيع عليها في أيلول (سبتمبر) 2018، ونصّت على تعزيز وقف إطلاق النار في إدلب المشمولة باتفاق مناطق خفض التصعيد بين تركيا وروسيا وإيران خلال اجتماعات أستانة عام 2017، إلا أنه لم يتمّ الالتزام بهذا الاتفاق ما أدّى إلى تصعيد خطير في خريف العام 2019، انتهى بتوقيع كل من روسيا كضامن للنظام السوري وتركيا كضامن لفصائل المعارضة اتفاقاً جديداً في العاصمة الروسية موسكو.

لا يزال سكان الشمال السوري ينتظرون بقلق نهاية التصعيد العسكري في المنطقة، والذي قد يؤدي إلى موجة جديدة من النزوح وإلى أوضاع إنسانية كارثية، خاصةً وأنّ السكّان يعانون أصلاً، ودون أي تصعيد عسكري، في سبيل تأمين احتياجاتهم الأساسية والحصول على الخدمات الحيوية التي يحتاجونها للبقاء.