نتحدثُ عن ورقة لاصقة مكتظة بالكلمات بجوار عملٍ فني، تشرّعُ لنفسها أن تكون صوته وتتحدث بالنيابة عنه، أو أن تكون جزءاً منه. لا نعني هنا الورقة التي تخبرُنا اسم العمل الفني وقياسه واسم الفنان والمواد المستخدمة. وإنما عن الصفحات والكلمات الكثيرة التي تليها، لتفسّر العمل الفني. متى كبُرَ النص المُرفق وأصبح ينطق كلمات أكثر، موزونة ومُصاغة بدقة. هل رافق ذلك كون الأعمال الفنية مرتبطة أكثر بمسارات أكاديمية؟

لنقم بتجربة، ضَعْ عملاً فنياً – غير مضيء – في غرفة مظلمة، وسيُعينك النص على توقع العمل في أحيان، وعلى فهمه واستيعاب ما يريد قوله أحياناً أخرى. وإن أدهشك – صوت – العمل الفني، ستُخبر أصدقاءك بمدى عبقريته وستؤكد على جدارة زيارته. ثم لنتخيل أننا نقلنا العمل الفني إلى غرفة مضيئة. ألا يمكن أيضاً أن يحافظ على صفة الإعتام فيه إذا لم نستطع إدراك المعنى لحظة تلقّيه؟ هنا يأتي النص المرافق ليسلِّط الضوء عليه، وبالتالي نستطيع رؤيته. هل حلَّ النص بهذه الحال محل المتلقي آخذاً دور محاورة العمل الفني واستخراج المعنى منه؟

في حوار كنت قد أجريتُه مع الفنانَين الفلسطينيَين رائد ابراهيم المقيم في الأردن، ومحمد الحواجري المقيم في غزة، سنتتبَّع كيف تداخل النص مع العمل الفني، وعن ضرورات مرافقة النص للعمل الفني كما فرضها تطور الحركات الفنية وعلاقتها بسياقات اقتصادية وسياسية ومؤسساتية أوسع نطاقاً. 

نص فني يشير إلى كوب ماء ويدّعي أنه شجرة بلوط

يعتقد الفنان رائد إبراهيم أن الأعمال الفنية في الماضي كانت واقعية لدرجة حجبت عنها محاولات التأويل والكتابة، يقول «مثلاً لما ينرسم بالقرون الوسطى لوحة لأعلام أشخاص مهمين أو غير، ويكون اسم اللوحة على اسم الشخص وانتهت القصة. ما بيكون التفسير محتاج كتير». ثم بدأت النزعة المفاهيمية بالظهور في بداية القرن العشرين، وتسرَّب النص.

يفرِّق رائد بين نوعين من النصوص المرافقة للعمل الفني. النوع الأول وهو الذي يكتبه الفنان ويكون مصاحباً للعمل الفني، وأحياناً جزءاً من العمل الفني. والنوع الثاني هو النص الذي يكتبه القيّم الفني (الكيوريتر). ويستشهد بثلاثة أعمال من المشهد الغربي تُعبِّر عن النوع الأول من النص، وقد تكون قد أسست لحضور النص أو أثرت فيه؛ كان العمل الأول عام 1917، عندما قدَّم الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب (Marcel Duchamp)، والذي ترتبط أعماله عادةً بالحركة الدادائية، عملهُ الفني المبولة، رفضت جمعية الفنانين المستقلين عرضه في المعرض السنوي الأول للجمعية والمقام في غراند سنترال بالاس في نيويورك، على الرغم من أن النظام ينصُّ على أن جميع الأعمال سيتم قبولها ما إذا دفع الفنان رسوم الاشتراك في المعرض، وكان ذلك باسم مستعار، R.MUTT، كانت فكرته ثورية مفادها: سيتمُّ رفض كل جديد حتى ضمن معرض المستقلين. كان العمل عبارة عن «مبولة» خزفية. بدا العمل حينها سابقاً لعصره، ولم يرافقه نص يحمله أو يشرحه. أثار دادائيو نيويورك الجدل حول العمل، فتم عرضه ولكنّه فُقِد بعد عرضه الأول، وسرعان ما قام دوشامب بأول عملية استنساخ له عام 1950.

أما العمل الثاني، كرسي وثلاثة كراسي فهو عمل فنّي للفنان الأميركي جوزيف كوسوث (Joseph Kosuth). ويعتبر العمل كتطبيق عملي لنظرية ما هو العمل المفاهيمي. أظهر الكرسي في ثلاث طرق، أولاً وضع كرسي في الغرفة، ثم التقط له صورة وألصقها على الحائط بجوار الكرسي، ثم طبع صفحة من القاموس لتعريف الكرسي وعلقها بجوار الكرسي وصورته، وعندما باع العمل للمتحف اكتفى بأن أعطاهم الإرشادات لكيفية إعادة الكَرَّة مرة أخرى. كانت الإرشادات واضحة: ضع كرسي في الغرفة. التقط له صورة. ألصقها على الحائط بجوار الكرسي. ثم اطبع صفحة من القاموس لتعريف الكرسي وعلقها بجوار الكرسي وصورته. راعي القياسات والمواصفات.

العمل الثالث، عمل فني مفاهيمي يدعى شجرة البلوط نفّذه الفنان الإيرلندي مايكل كريغ مارتن (Michael Craig-Martin) عام 1973. هو عبارة عن كوب ماء على رف زجاج معلَّق في مكان مرتفع، وفي الأسفل منه بطاقة تحتوي على نص، وقد وُزّعت منه نسخ على زائري المعرض. حوار على شكل سؤال وجواب بين الفنان وشخص آخر، يدور حول أن الذي تراه ليس كوب ماء وإنما شجرة بلوط. يدَّعي مايكل كريج مارتن: «إنه ليس رمزًا. لقد غيرتُ المادة الفيزيائية لكوب الماء إلى شجرة البلوط. لم أغير مظهرها. شجرة البلوط الفعلية موجودة فعليًا، ولكن على شكل كأس من الماء». ترتبط شجرة البلوط بمفهوم المجاز الديني، وهي الفكرة المركزية للعقيدة الكاثوليكية التي يُعتقد فيها أن الخبز والنبيذ يتحولان إلى جسد ودم المسيح مع الاحتفاظ بمظهر الخبز والنبيذ. إن القدرة على الاعتقاد بأن الشيء هو شيء آخر غير مظهره الجسدي يتطلّب رؤية تحويلية. يقع هذا النوع من الرؤية (والمعرفة) في قلب عمليات التفكير المفاهيمي، والتي من خلالها تُمنح القيم الفكرية والعاطفية للصور والأشياء.

تحولت هذه الأعمال الثلاثة إلى أيقونات في تاريخ الفن الحديث، والتي يشير من خلالها رائد إلى النوع الأول من النص. النص الذي يكتبه الفنان ويرافق العمل الفني.

ثلاثيّة القيِّم الفني والفنان ودار العرض

دخلت علاقة النص بالعمل الفني مرحلة جديدة مع بروز ثلاثية: الكيوريتر، الفنان، ودار العرض أو الجاليري. وفي هذه الثلاثية بات دور الكيوريتر (القيّم الفني) أكثر وضوحاً، فهو الذي يحاول ربط الأعمال الفنية بسياق أوسع، مستنداً إلى الكلمة أو النص، وهو المختصُّ في عرض الفنون البصرية وحراكها وتسويقها واختيار موضوعات معارضها، وفي بعض الأحيان رسم مسارات وتقديم اقتراحات للحركات الفنيّة.

غذَّت هذه الثلاثية السوق الفنّي، وباتت الرغبة في إدماج عدد أكبر من زوار المعارض ومقتني الأعمال الفنية أكبر، ما قد يعني الحاجة إلى أداة تقرّب العمل الفنّي أو تعطيه علاقة ارتباط بسياق ما أو صيغة تبرره، دون الاعتماد على العمل الفنّي لذاته، بحسب رائد. هو يرى أن المِنَح الفنية التي تقدمها المؤسسات الداعمة، الحكومية منها أو الخاصة، خَلَقت ما يشبه اتفاقاً ضمنياً يطلب من الفنانين إنتاج أعمال مقابل هذه المنح. «يلي بدي قوله، لما يصير في نفعية من هالنوع، المادية المباشرة والسابقة لصناعة العمل، بصير النص ضروري، لإنه بدنا نقدم للمانح وللمتلقي بنفس الوقت صيغة بنقدر نبرر فيها العمل». 

أمّا عن الفنان محمد الحواجري فيتفق مع رائد بأن التمويل كان سبباً أساسياً في حضور النص. برأيه، انتقال العمل الفني الفردي إلى مشروع فني هو سبب رئيسي في دخول النص، يقول الحواجري «الفنان كان زمان يعمل في مرسمه بعيداً عن الظروف المحيطة، وبعد فترة زمنية بيقرر يعمل معرض فبتطلع الأعمال إلى صالات العرض، وبدأ التغير حين لم يعد العمل الفني فردياً بل بات مشروعاً فنياً، وبالمشروع الفني يجب عليك تقديم فكرة أساسية تحكي فيها وتشرح فيها عملك قبل أن تنتجه، وأصبح هناك مؤسسات ممولة للفن، والمؤسسات لا تقدم الدعم للعمل الفني دون رؤية الفكرة من الأساس وماذا سيقدم الفنان. وهذا جعل العديد من الفنانين يحاولون صنع نص مُقنِع لعمل غير مُنجَز» .

أما عن رغبة الفنان بوضع نص بجانب عمله أم لا، وإن كانت تُوخَذ بعين الاعتبار. يقول رائد «عم بصير عنا مرات إنه لازم النص يكون موجود خاصة في المعارض الجماعية، المؤسسة محتاجة للنص لتضعهُ على الحائط وتصنع خبراً صحفياً، لحتى ينكتب عنه ولحتى يصير في شي يقولوه لما بدهم يفسروا المعرض ويحكوا عنه، لإنه عم يستثمروا، هاي المساحة حقها مصاري وجهد ووقت وموظفين. إجيت أنا بدي حطلهم عمود، طب شو بدهم يحكوا عنه وليش هاد الفنان، ليش نقيتوه، بدهم مبرر. ما عادت اللوحة محطوط بجانبها اسم الفنان والتكنيك والقياس، وبتشوفي إنه راسم بطة ونهر وافهمنا وزقفنا وخلصت القصة».

العلاقة الجدلية بين النص والعمل الفني والمتلقي

يقول رائد إن العلاقة بين النص والعمل الفني جدلية (ديالكتيكية)، لأنها تأخذنا إلى الصورة ثم نرجع إلى النص، ومرة أخرى نعود إلى الصورة، لنأخد النتيجة في آخر المطاف. فيحدث هذا النوع من الحوار الذي ما كان له أن يكون لولا وجود النص المرافق للعمل، وكذلك يخبرنا عن طريقة الفنانين في تبسيطهم للأعمال الحديثة وتقديم مقصدهم من العمل بشكل مباشر. فيكون النص على هذا النحو توصيفاً وإبداء وجهة نظر من ناحية الفنان تجاه العمل الفني للمتلقي، «ليخبره أن الأمر ليس كما يرى وإنما هناك شيء آخر».

يتحول النص هنا إلى «المانيوال» (الدليل) أو وسيلة الإيضاح التي تمسك يد المشاهد، بحسب وصف رائد، وتلقنه المعنى. «بقوله شوف بهالطريقة وهالطريقة وهالطريقة».

أما الحواجري فقد وجد طريقته الخاصة لصنع نص يضع به أفكاره الخاصة تاركاً فيها مساحة مفتوحة للمتلقي لأن يضيف عليها وياخذها إلى مكان آخر، يقول الحواجري «بحب النص يكون مفتوح، يلي بيعطي فرصة للمتلقي إنه كمان يشوف قصته داخله، وأنا عندي تجربة يعني أغلب النصوص يلي بكتبها بكون عايشها ومن واقع حقيقي، وأي واحد بيعيش واقع حقيقي أكيد بيتشارك فيه كتير من الناس، مثلاً مشروعي مزرعة الحيوانات، مجموعة لوحات فنية عن الحيوانات، هو نتيجة قصة حقيقية أنا بعيشها مع الحيوانات، مش إنه أنا إجيت بدي ارسم حيوانات حلوة وجميلة وكبيرة وملونة ومختلفة بس عشان الجانب البصري، لأ، جانب الذكريات هو يلي كان له أثر كبير بتحريك مخيلتي لأكتب نص صغير حول الحيوانات، ثم بدأت تفسيرها لأعمال فنية، وكل من يراه ممكن أن يتقاسم معه مجموعة من الأسئلة، لأن الحيوانات على سبيل المثال مش ملونة، يعني ما في حيوان لونه زهري مثلاً، فهاي التناقضات طلّعت أسئلة إنه ليش بتلونها هيك، وهالأسئلة بتدل إنه الناس خرجت عن النص يلي أنا كتبته» وهنا يجد الفنان مساحة مشتركة بينه وبين الجمهور، وفي الوقت نفسه يعطي مساحة للجمهور لأن يرى العمل من منظوره الخاص.

هل يمكن لنص جيد أن يشفع لعمل سيء؟ يقول الحواجري «في فنانين بيعتمدوا اعتماد كلي على النص، وممكن نسمع من نصوصهم أجمل الأشياء، وجمل مصفطة بشكل كتير منيح، لغوياً قوي. لكن لما ننتقل لمرحلة رؤية العمل الفني، ما بنشوف القوة الموجودة بالنص موجودة بالعمل الفني، وهاد بيسبب خلل وبيخلي المتلقي ما عنده ثقة بالفنان، بيقولك هالفنانين يا عمي بس شاطرين بالحكي. وفي فنانين ما عندهم ملكة تعبير عن النصوص مع إنه أعمالهم جميلة فيُهضم حقهم، فهذا يخلق تنافس غير شريف» ويوعز الحواجري سبب هذه المشكلة إلى عدم وجود جهة نقدية تميز وتفرق بين الأعمال الفنية التي تعتمد على النص مع ضعفها بصرياً، أو العكس، بأن يكون عملاً فنياً قوياً بغض النظر عن ركاكة النص. بغياب الحس النقدي يضيع الفنان الحقيقي.

«النص مهم، مهم جداً، لأن انتشاره أسهل من انتشار العمل الفني» يقول الحواجري، ويُكمل رائد «بس أنا أدَّعي إنه العمل الجيد دايماً بيفتح على مساحات وفضاءات تانية، حتى لو في نص بجانب العمل قدامك، ما بينتهي هون، إذا انتهى هون بيكون في شي من السطحية بالعمل».

في آخر الحوار سألت رائد إن كان هناك احتمالية لعرض أعماله دون نصوص مرافقة لها مستقبلاً، فأجاب «بالنسبة إلي ما بحب اكتب وإحكي كتير، وكل مرة بحكي بندم لإنه دايماً بحكي أشياء بتكون بجانب الأشياء التي أريد قولها، مش عم تزبط معي أحكي بالزبط، ولمّا أكتب مش عم بكتب كفاية لطابق الأفكار مع الكتابة، بس هاد الشي أنا عامله بالمنتج، إنه عندي المعرفة أكتر بإنه كيف أنتج، ففي دائماً هذا الصراع، إنه أنا بتمنى ما أكتب لحتى ما ينحسب علي، لإنه بصير متل كأنه مربوط فيي الشي يلي انقال ولصيق وما رح ينزاح، بينما بقدر غير رأيي، العمل بيتحمل قول عنه هيك أو هيك بس النص مرات بصير مباشر، فإنه بعتقد في مشكلة بالموضوع».