إن كان تنفيذ إسرائيل لاغتيالات في بيروت أو غيرها من المدن التي حدَّدها المسؤولون الإسرائيليون في تهديداتهم المتكررة في الأسابيع الأخيرة مُتوَّقعًا، فإن انقسام اللبنانيين على خلفية اغتيال القائد في حماس صالح العاروري أكثر من مُنتظَر، بل يكاد يكون حتميًا.
ليس فقط لأن اللحظات الجامعة بين اللبنانيين تكاد تُعَدّ على الأصابع، ولا لأنهم ليسوا على قلب واحد من «إسناد» حزب الله فقط، بل لأن هذا الاغتيال يحمل عناصر متعددة جميعها موضع خلاف: حزب الله والارتباط بإيران، الدور الإقليمي وفي سوريا بشكل خاص «السيادة»، الخرق الأمني، وجود فصائل أخرى غير لبنانية فاعلة ميدانيًا، «الفلسطينيون في لبنان».
ما إن تأكَّدَ أن المستهدف من الاغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت هو قيادي في حماس، حتى فُتحت جبهاتٌ من القصف المتبادل، سواء من خلال تصريحات لبعض السياسيين أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولعلَّ الأخيرة قادرة على إظهار التنافر إلى حد التقيُّح، إذ تراوحت بين الاستخفاف بأمن اللبنانيين، والاتهام بالعمالة مقابل التشفي، وصولًا إلى الدعوات المتكررة لبناء جزيرة معزولة عن المحيط تحت مُسمَّى الحياد.
صحيح أن هذا التقاتُل كان سيُستنفر حتى لو كان المُستهدَف المُعلَن شخصية من حزب الله، إنما لا شكَّ أنه اكتسب حدة أشد بوجود عنصر يُستسهل معه التنصل واللوم في آن معًا؛ إنه الآخر والغريب.
في ظل الانهيار التام، يعيش اللبنانيون على حافة الأسئلة المؤجلة: عن الرئيس والحكومة والقطاع المالي وحزب الله والمقاومة، وعن العلاقة مع الدول العربية وإيران، وعن ماذا لو تم التطبيع الرسمي مع إسرائيل. ومنذ السابع من أكتوبر أُضيفت لها أسئلة أخرى: ماذا بعد هذا التاريخ؟ هل هي حرب أم يمكن أن يكون التضامن مع غزة من دونها؟
بالتأكيد يمكن للبنانيين العيش على هامش هذه الأسئلة التي لا يملكون الإجابات عليها أصلًا. ومن بين القيادات السياسية، وحده حزب الله يمكنه الإجابة عن معظمها على الأقل إن لم يكن كلّها، وهذا في حدّ ذاته مدعاة خلاف.
الانقسام حول «الإسناد»، أو شكل «الاحتضان» لمقاومة الفلسطينيين من لبنان، سواء كانت تحت راية حماس أو أي فصيل آخر، قائمٌ عموديًا وأفقيًا.
فالذين يتضامنون بصدق مع الفلسطينيين في غزة لا يرغبون في أن تمتد الحرب إلى البلد، انطلاقًا من آثار وتبعات الحرب التي خيضَت في تموز (يوليو) عام 2006. ومن المنطلق نفسه، يقف معظم الذين يَعتبِرونَ أنفسهم أنصارًا ومُحازبين وحاضنة للحزب في الخانة نفسها؛ يريدون دعمًا صوريًا بلا حرب حقيقية، أو بلا كلفتها. يخشون من أن يبدوَ الحزب «متخاذلًا» إن لم يُلبِّ نداء المقاومة في غزة ومناشداتها بتوفير الدعم، فلا ينقصُ صورةَ الحزب «المُقاوِمة، المُنَزَّهة والمثالية» أي تهشيم إضافي بعد خوضه الحرب في سوريا إلى جانب النظام السوري. وبالمقابل، خصوم حزب الله، المتضامنون وغير المتضامنين مع غزة، لا يريدون حربًا، وإن كانوا لا يوفِّرون فرصة لتسجيل موقف ضده، ويحاولون رصد كلمات أمين عام حزب الله القليلة نسبيًا في هذه الحرب، وانتقاء مفردات ضبط النفس منها لاحتسابها عليه تقاعُسًا.
تريدون حربًا أم لا؟ يحكم التناقض الجميع، في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في سعيها الحثيث لتوسيع الحرب خلافًا لرغبة الدول الإقليمية، ومن بينها إيران ومعها حزب الله الذي له أسبابه الداخلية أيضًا.
ومن يملك المعادلة السحرية التي تُترجِمُ التضامن مع الفلسطينيين في غزة ومعه إبعاد حرب عن لبنان؟
الجواب كما عيش اللبنانيين، محوره التناقض.
قبل الاغتيال، جاء الاحتفاء بقرار الحكومة أن تتفاعل مع الدعوة للإضراب العام من أجل وقف إطلاق نار فوري ودائم في غزة، وجاء معه في آن واحد الرعبُ من الدعوة لتشكيل طلائع طوفان الأقصى، علمًا أنه، وبعيدًا عن الجدل حول طبيعة هذه الطلائع وما إذا كانت عسكرية أم لا، فإنه يصعب تَخيُّلُ أن أزقة المخيمات الفلسطينية في لبنان لا تعيش غليانًا مكبوتًا.
صحيحُ أن مئات اللاجئين يشاركون في شوارع المخيمات وأزقتها بوقفات أو بمسيرات تنديدًا بالمجازر الإسرائيلية، ودعمًا للمقاومة في غزة وطلباً لوقف إطلاق النار فوري، لكن الفضاء العام في شوارع العاصمة والمدن اللبنانية ممنوعٌ عليهم، وإن دخلوا هذا الفضاء فإن الأمر يكون مواربةً وضمن مجموعات حمائية. ورغم كل الحوارات المفتوحة بين السلطة والحكومة والأحزاب اللبنانية، بقي الحجب عن الحيز العام مفروضًا على «الفلسطيني» إلا للبعض من حاملي الجوازات الأجنبية. هذا الإقصاء، الذي يشمل أيضًا مَنعهم من ممارسة العديد من المهن والوظائف من بينها ممارسة الطب، لم يمنع الترحيب بالدكتور غسان أبو ستة، جرّاح التجميل والترميم الذي تابعه العالم من غزة، طبيبًا بطلًا وصوتًا إنسانيًا حاكى القلوب والعقول. حلَّ مُكرَّمًا بين زملائه في بيروت، حيث مارسَ الطب سابقًا فيها بوصفه حاملًا للجواز البريطاني.
هكذا تكون في مدينتك مُحتفىً بك ومنبوذًا في آن معًا، في تَعارُضٍ يَظهرُ في أكثر من وجه، وأكثرها فظاظة يُسمَع من الهاتفين بالتحرير وحق العودة فيما يصطفون إلى جانب المنهارين من «غول» التوطين، بينما هم أنفسهم يسعون إلى حق الإقامة والمواطنة في دول أخرى. وهؤلاء يمكن أن نجدهم من مختلف الأطياف، من خارج حاضنة الحزب ومن داخلها.
ستنتهي الحرب، بمآسيها و«نصرها»، وسيبقى الفصام على حاله؛ حبُّ فلسطين ونبذ الفلسطيني. حزبٌ لا يريد أن يخسر قواعد الاشتباك المُتفَّق عليها عند الحدود، وأطرافٌ سياسية ضعيفة في داخل منهار سياسيًا واقتصاديًا، يجتمعون على ضرورة عدم العبث بـ«قفير النحل».