غامر فلاحون في منطقة إدلب شمال سوريا بزراعة أراضيهم بمحصول القطن نهاية العام 2023، دون أي حسابات تقديرية عن مدى جودة أو كمية إنتاج مواسمهم بسبب غيابهم عن زراعته منذ أكثر من 11 عاماً، ما جعلهم عرضةً لخسائر محتملة في نهاية الموسم، ووقوفهم أمام حاجز التصريف و«سوء البذار التركية المستوردة» من قبل مديرية الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ السورية التي تسيطر على منطقة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي.

يعتبر القطن من أهم المحاصيل الزراعية في سوريا، وكان يُزرع بكميات كبيرة قبل العام 2011، ولكن زراعته تراجعت خلال سنوات الحرب لأسباب عدّة؛ منها ارتفاع أسعار المبيدات الحشرية وتوقُّف أغلب محطات الري واستمرار قصف النظام السوري وحلفائه للأراضي الزراعية، وغياب البذار السورية المُهجَّنة بما يتناسب مع الأراضي السورية وطقسها.

وكانت زراعة القطن قبل عام 2011 مصنّفة على أنها من أهم الزراعات الموسمية في ريف إدلب، إذ كانت تشكل زراعته مورداً أساسياً وهاماً لدخل كثير من المواطنين، على الرغم من كلفة زراعة الهكتار الواحد التي قد تصل إلى أكثر من 2000 دولار أميركي، وفقاً لشهاداتٍ عدّة حصلنا عليها أثناء إعداد هذا التقرير.

مزارعون يشتكون

التقت الجمهورية.نت مع المزارع محمود الفيصل (أبو إبراهيم) من منطقة بنش شمال شرقي إدلب، الذي «خاض المغامرة» وزرع 25 دونماً من القطن بداية الموسم مطلع شهر حزيران (يونيو) الماضي، على أمل تحقيق ربحٍ جيد مُستنداً إلى الوعود التي أطلقتها وزارة الزراعة في إدلب والتشجيع الذي حصل عليه من قٍبل الخبراء الزراعيين العاملين فيها.

يقول أبو إبراهيم إن مديرية الزراعة جمعت معظم الفلاحين وعقدت معهم اجتماعاً في بلدة حزانو شمالي إدلب، وطرحت عليهم فكرة إحياء زراعة القطن في المنطقة مع تقديمها تسهيلاتٍ عدّة، منها تكفّلها في تأمين البذار والمبيدات الحشرية، ودفع أثمانها من قبل المزارع في نهاية الموسم، وذلك في مبادرةٍ أطلقتْ عليها «القرض الحسن». كما قدّمت وعوداً باستلام المحاصيل من الفلاحين بشكلٍ كامل، ممّا شجع جميع المزارعين على زراعة أراضيهم بالقطن، وخاصّة أن زراعة القطن تُعتبر من المزروعات المربحة.

ويُشير الفيصل إلى أن زراعة القطن تحتاج إلى مصاريف كثيرة أبرزها كميات المياه الكبيرة التي تُقدر بـ10 آلاف متر مكعب لكل 10 دونمات شهرياً، بالإضافة إلى تكاليف الحراثة، لافتاً إلى أن الهكتار الواحد (10 دونمات) بلغت كلفة زراعته قرابة 1400 دولار أميركي أو أكثر من ذلك، في وقتٍ لم يرتفع سعر الطن الواحد في الأسواق نهاية الموسم أكثر من 700 دولار أميركي، مؤكداً أن حقله لن يجلب له أكثر من 500 كيلوغرام في أحسن أحواله.

وعزا الفيصل فشل التجربة لأسباب عدّة، أبرزها: «نوعية البذار السيئة المستوردة من تركيا، وفقدان المبيد الحشري الفعّال الذي عجز عن قتل الحشرة التي استهدفت ثمرة القطن وحدّت من حجمها». وطابق كلام الفيصل حديث صالح العبدالله، وهو مزارع من بلدة الجينة بريف حلب الغربي، الذي اكتفى بزراعة 15 دونماً، معتبراً أنّ اﻷمر «مغامرة قد توصله إلى خسارة رأسماله».

وبحسب العبدالله، فإنّ عوامل عدّة تقف عقبةً أمام العمل في زراعة القطن في المنطقة، أهمها: «طريقة تعاطي مديرية الزراعة مع المزارعين من حيث تعهدها باستلام المحصول بهدف تشغيله في المحالج وامتناعها عن كشف سعر الطن»، معتبراً أن هذه العوامل «تسببت في عزوف العديد من الفلاحين عن زراعة أراضيهم بالقطن».

وفضل بعض المزارعين عدم المغامرة في هذا العام والانتظار حتى الموسم القادم، لرؤية التعاطي الرسمي مع محصول القطن، والكشف عن مآلات اﻷراضي التي زرعها نظراؤهم في الشمال السوري. ويُجمع مَن التقت بهم الجمهورية.نت أنه من غير الطبيعي أن يتابع المزارع اﻻستثمار في زراعة القطن دون وجود سوقٍ لتصريف منتجه وحصر بيعه بمديرية الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ، فيما يؤكد العديد من المزارعين أن «السعر الذي ستطرحه المديرية للطن الواحد في الأيام المقبلة لن يغطي التكلفة».

زراعة القطن «تجربة»!

يعتبر المهندس الزراعي موسى أبو بكر، والذي يشغل منصب مسؤول القسم الزراعي في مؤسسة كرييتيف شمال سوريا، أن موسم القطن هذا العام كان قليلاً مقارنةً بما قبل العام 2011، مشيراً أن زراعة القطن هذا الموسم كانت بداية وليست زراعةً بالمفهوم الدقيق، ووصفها بأنها «تجربة» بعد انقطاع.

وأرجع المهندس أبو بكر في حديثه للجمهورية.نت غياب زراعة القطن في إدلب لثلاثة أسباب؛ أوّلها تدمير البنى التحتية المرتبطة بهذا المنتج من معامل غزل ومحلات وغيرها؛ والثاني هو عدم تصريف المنتج الموجود في شمالي سوريا الخارج عن سيطرة النظام، والثالث هو غياب مصادر المياه.

واسترسل قائلاً: «عندما يقوم المزارعون بزراعة محصول القطن فإنهم لا يعرفون مصير تصريفه والجهة التي من المفترض أن تستلم هذا المنتج منهم، ما يجعلهم عرضةً للخسارة»، مضيفاً: «يحتاج محصول القطن من حوالي أربع إلى ست ريّات (سقاية)، وفي بعض الأحيان يحتاج إلى سبع ريّات، وبالتالي تحتاج زراعة القطن إلى مصادر مياه دائمة، الأمر الذي أسهم في عزوف الفلاحين عن زراعته». ولفت المهندس إلى أن مصادر طاقة المياه الموجودة في الشمال السوري كافية لزراعة القطن ضمن مجال ضيق جداً، ولكن كزراعات كبيرة فهي من المؤكد «غير كافية».

وعزّا أبو بكر في حديثه معنا ضعف اﻹنتاج ﻷسباب مختلفة، في مقدمتها ابتعاد المزارعين بشكل كبير جداً عن هذه الزراعة لسنوات، والثاني هو البذرة التركية المستوردة «غير الجيدة» مقارنةً بنظيرتها السورية. وبحسب المهندس الزراعي، كان من المفترض أن يصل إنتاج الدونم هذا الموسم إلى 500 كيلوغرام، ولكن الأسباب التي سبق أن ذكرها جعلت اﻹنتاج ضعيفاً ووصل في معظم الأراضي التي زُرعت إلى 150 كيلوغراماً فقط.

واختتم حديثه بالتأكيد على نجاح زراعة القطن في المستقبل إذا توفرت شروط استثماره بالشكل المطلوب، وخاصّة تأمين مصادر مياه مفتوحة وإيجاد أسواق متعددة لتصريف إنتاج المادة.

وتبلغ كلفة زراعة الدونم الواحد من القطن نحو 200 دولار أميركي، تتوزع ما بين قيمة اﻷسمدة ومياه الري، إضافةً إلى كلفة حراثة الأرض، وفقاً لشهادات المزارعين. وتبدأ زراعة بذار القطن في منتصف شهر أيار (مايو) من كل عام، بينما يتم جني المحصول مع دخول فصل الشتاء.

ماذا ردّت مديرية الزراعة؟

خلال إعداد هذا التقرير التقينا مع المدير العام لمديرية الزراعة التابعة لحكومة الإنقاذ، المهندس تمام الحمود، الذي بدأ حديثه بإلقاء اللوم على بعض المزارعين بسبب «غياب خبرتهم في زراعة القطن، ما تسبب في خسارتهم لمواسهم وعدم وصولهم إلى الفائدة الاقتصادية المرجوة منها» على حد وصفه.

ووفقاً للحمود، فإن عدد المستفيدين من مشروع زراعة القطن هذا الموسم بلغ 170 مزارعاً، وأن المساحة المزروعة بلغت 1814 دونماً، وأن الإنتاج المتوقع هو 500 طن، باعتبار أن هذه الزراعة تناسب المناخ والتربة في شمال سوريا، كما أنها ليست دخيلة كباقي الزراعات.

وحول سؤالنا إذا ما كانت مديرية الزراعة في حكومة اﻹنقاذ ساهمت فعلاً في دعم الفلاحين بهذه الزراعة، أجاب: «قدمت الوزارة البذار والأسمدة والمحروقات بموجب قرض يتم تسديده وقت الحصاد ويكون دون فائدة وبالسعر المتداول وقت المنح، إذ تم استيراد البذار من تركيا بسبب انقطاع تلك الزراعة لما يزيد عن عشرة أعوام، كما تمت زراعة عينات من البذار المستوردة ضمن حقول تجريبية من قبل الإدارة العامة للبحوث العلمية الزراعية وكانت النتائج جيدة»، وفق قوله.

وحول مصير اﻹنتاج أكّد الحمود أنه سيتم استلام كامل المحصول من قبل وزارة الاقتصاد «التي ستتولى لاحقا مسؤولية تسويقه أو حلجه»، مشيراً إلى أن المديرية تعتزم تشغيل محلج محلي ليتم استخدامه لحلج الإنتاج، دون الكشف عن موقعه أو أي تفاصيل حوله.

وبخصوص سعر طن القطن، حجّم الحمود إجابته «بالمساعي التي تقوم بها وزارة الزراعة بدراسة تكاليف إنتاج الطن الواحد من المحصول وعدم صدور النتائج»، والتي اعتمدت، وفقا لقوله، على «جولات ميدانية على حقول عدّة، ورصد حالتها، وأخذ العديد من قراءات المزارعين بعمليات الفلاحة والبذار والري والتكاليف كاملةً من الدوائر الزراعية المنتشرة في المناطق كافة»، متوعداً بوضع «سعر جيد يضمن تحقيق الربح المناسب للمزارع».
وعند سؤالنا مدير الزراعة عن انعكاس هذه الزراعة على الطبقة العاملة والثروة الحيوانية، لفت إلى أن بذار محصول القطن تُستخدم في استخراج الزيت الذي يُوفّر بدوره المادة الأولية لمعمل الزيت، مِمّا سيؤمن فرص عمل أثناء الزراعة وقطاف القطن، أو من خلال تشغيل معمل الزيت، كما يمكن الاستفادة من بقايا البذور في تركيبات الأعلاف للمواشي، فضلاً عن استخدام الأوراق الخضراء لرعي للأغنام.

خلال العقد السابق لعام 2011 كانت سوريا من بين أهم دول المنطقة المُصدّرة لمادة القطن نتيجة وجود تربة ومناخ مُناسبَين لهذه الزراعة. واليوم يرى مزارعو القطن في شمالي سوريا أن دعم هذا القطاع من الممكن أن يحقق غلّةً وفيرة من المادة، ويُفضي إلى تقليصٍ، مهما كان بسيطاً، في حجم البطالة من خلال إيجاد فرص عمل إضافية في مصانع الزيت النباتي والمحالج ومعامل النسيج