القلق والحفّار والسدّ هي الأفلام الثلاثة التي عمل عليها المخرج اللبناني علي شرّي كجزء من مشروع واحد طويل يحمل اسم جغرافيات العنف، أما المكان الذي اختاره لآخر هذه الثلاثية، فيلم السدّ، فيلمه الطويل الأول، فهو مسرح لعنفٍ حديثٍ نسبياً، مع غرق قرى بأكملها نتاج بناء سدّ مروي في شمال السودان، وهو أكبر سدّ في أفريقيا عند بنائه قبل البدء بالعمل على سد النهضة الأثيوبي. وكذلك هو من بين أكثر السدود كلفةً على المستويين البيئي والإنساني، وقد شهدت عملية التفاوض بين الحكومة والأهالي عنفاً وصل إلى حد إطلاق النار على الأهالي وملء السدّ بدون إنذار، حيث استيقظ بعض السكان ليجدوا المياه وقد وصلت إلى غرف نومهم. يحمل ماهر، الشخصية الرئيسية في الفيلم جرحاً يبدو كإشارةٍ رمزية لهذا التاريخ من العنف.

في بداية حديثي معه، سألتُهُ عن اهتمامه بذاك المكان: كيف يرتبط هذا المشروع الهندسي العملاق مع اهتمامه بما هو أركيولوجي وأثري، وإلى أي حدٍّ كان لقيام الثورة في السودان أثرٌ في قرار صنع الفيلم؟

على الرغم من أن السدّ هو التجربة الروائية الطويلة الأولى على المستوى السينمائي بالنسبة لي، ولكنه ينضمّ إلى الفيلمين القصيرين الذين أنجزتُهما من قبل. ثلاثتهم يقعون تحت عنوان أكبر هو جغرافيا العنف، حيث تكون نقطة الانطلاق دائماً هي مكان وقع فيه حدث عنيف وصادم، ويستدعي أسئلة عن إمكانيات إعادة كتابة تاريخ هذا العنف من خلال العناصر. في الفيلم الأول القلق (Disquiet) العنصر الرئيسي هو الأرض، فهو يتحدث عن شقوق أرضية تُعرِّضُ لبنان لزلازل دائمة. أما فيلم الحفّار، والذي تم تصويره بين أبوظبي والشارقة في الإمارات، فهو يتابع عبر حارسٍ في موقع أثري في الصحراء عنفَ الأركيولوجيا كممارسة علمية. كانت النار والحرارة هي العنصر الرئيسي في هذا العمل.

في السدّ كانت نقطة الانطلاق هي المياه، وكنتُ أريد أن أُركِّزَ على نهر النيل حيث يتجاور التاريخ مع الأسطورة، وفكّرتُ في البداية أن يكون الفيلم في مصر، ولكن الظروف في 2017 لم تكن مواتية لصناعة فيلم من هذا النوع، ومن هنا جاء اختيار مروي كمكان للفيلم. يمكننا أن نقول إن السدّ في هذا السياق هو الأنظمة القمعية الخالقة للقهر السياسي الذي تمارسه الأنظمة العربية. وعلى الرغم من أن مشروع الفيلم بدأ قبل ثورة السودان ولكنه كان مشروعاً سياسياً بالأساس، يريد أن يتحدث عن القمع التي تمارسه الأنظمة من خلال حكاية عن الأرض والطين. من المثير للاهتمام في هذا السياق كيف تداخلَ الواقعُ مع الخيال الروائي ليُعيد تشكيل الفيلم في إطار الثورة القائمة بالفعل في وقت تصوير الفيلم، ليصبح الفيلم تساؤلاً عن الأمل في التغيير خلال لحظة تَحوُّل تاريخية. ساعدت هذه الظروف على ترسيخ الفيلم ضمن واقع سياسي. أردتُ من البداية  أن يكون للفيلم علاقة واضحة مع الواقع، ومن هنا جاء قرار عدم العمل مع ممثلين محترفين، والتصوير في أماكن العمل الحقيقية، وفي الوقت نفسه إدخال تساؤل حول الخيال الذي يمكن لهذا المكان أن يُنتجه في ظل هذا التاريخ من العنف، حيث يسمح هذا الخيال بقراءة سياسية للواقع.

ولدَ علي شرّي، مخرج فيلم السدّ، في لبنان مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية وشبَّ خلالها. ربما يضيء هذا التاريخ الشخصي على جانبٍ من عمله على «جغرافيا العنف» في أماكن مختلفة جغرافياً ولكن يجمعها تاريخ كامن من العنف. يعيش شرّي في فرنسا، وأفلامه تحوم على موضوع واحد ولكن في أماكن مختلفة. ما هو المشترك والمختلف بين المواقع الجغرافية لأفلامك وبين السياق المحلي الذي أتيت منه، كيف ترتبط تلك الأماكن المختلفة ببحثك عن العنف الكامن جغرافياً؟ 

أريد أن أقول أولاً إن الإقامة في فرنسا حديثة نسبياً، فقد عشتُ أغلب حياتي في لبنان حيث ولدتُ مع بداية الحرب. أما عن اختيار العمل في أماكن خارج لبنان، يعود ذلك إلى البحث عن المسافة التي يحتاجها الشخص حتى يستطيع النظر والتفكير في الأمور التي تعنيه بشكل شخصي ومباشر. في أعمالي أجد تساؤلاً عن النجاة ومعناها وكذلك العنف الموجود داخل طيّات النجاة. هناك محاولة للتفوق على الحياة في النجاة، أفكر في هذا خاصة وأنا لا أملك أي جروح أو إصابات مباشرة من الحرب، وكأني عشتُ هذا العنف ومع ذلك فأثره غير مرئي أو ملموس. تقترح الأفلام طريقاً لفهم كيف يسكن العنف غير المرئي في الأرض والتراب والمياه والأشياء من حولنا، والذي علينا أن نتتبع أثره حتى نراه.

أعملُ الآن على الخطوات النهائية لفيلم جديد أسميته الحارس، وهو يتابع أحد أبراج حراسة الحدود بين الجانب التركي والجانب اليوناني في قبرص، والذي لا زالَ خارجَ لبنان ولكنه أقرب جغرافياً إن أردت. للصراحة، أجد صعوبة شديدة في التفكير في وضع كاميرا والتصوير في بيروت لحكي شيء ما. هناك جرحٌ قريبٌ جداً وغير قابل للتمثيل بالنسبة لي. تفاقمَ هذا الوضع مع انفجار آب الذي أظنه خارج نطاق التمثيل حالياً، على الواحد أن يمتلك مساحة عاطفية بينه وبين ما يصوره. لذلك ربما تجدني أحوم حول لبنان بدون تناوله بشكل مباشر.

على الرغم من الجانب الخيالي الواضح لفيلم السدّ، فإن تفاصيل هذا التخييل تقول الكثير عن الواقع الذي هي قادمةٌ منه. لقد حدث المطر والفيضان بالفعل، وكانت أهرامات مروي معرضة للخطر. لقد حدث العنف بالفعل خلال اضطرابات مفاوضات بناء السدّ، ومن الممكن أن يكون جرح ماهر، الشخصية الرئيسية في الفيلم، جرّاء  إطلاق النار عليه من قبل الشرطة أثناء احتجاجات سكان المنطقة على بناء السدّ. يمكننا أن نمدَّ هذا الخيط فنرى أن قتل ماهر للكلب بداخله جزء من التضحية بالحيوانات التي حدثت بالفعل عندما تم فتح المياه وغمر السكان بالمياه أثناء نومهم في أَسرّتهم، فنجوا بأنفسهم بالكاد وتركوا بعض الحيوانات خلفهم للغرق. يضع الفيلم هذين البعدين- الخيال الشعائري والواقع الوثائقي- على المستوى نفسه، ولكنه يصور أيضاً أحدهما في الآخر. هل هذه الخيارات السردية هي نتاج إعادة قراءة لنتائج البحث والتفكير فيما حدث وتاريخ المكان، أم أنها إعادة لطرح الأسئلة الرئيسية التي كانت وراء معظم أعمالك؟

يحمل هذا الجانب جزءاً حسّاساً كوني أعمل في أماكن لا أنتمي إليها. لا أعتقد بحصر أماكن بعينها لناس بعينهم للحديث عنها، ولكن هناك مسؤولية تقع عليَّ كصانع أفلام ينتج عملاَ في مكان ما. على الرغم من أن السدّ أحد أوائل الأفلام التي خرجت من السودان بعد الثورة، ولكنه ليس فيلماً عنها. أنا لا أعطي صوتاً للسودانيين مثلاً من خلال الفيلم للحديث عن ثورتهم، أنا أريد أن أحكي قصتي في النهاية. فالحساسية هنا تأتي من كوني شخصاً من الخارج ولكنّي أعمل من خلال تاريخ وجغرافيا وشخصيات واقعية محلية في الأساس. بشكل ما، فإن ما يجذبني للأماكن هو كونها أرض خصبة للقصص التي أريد أن أحكيها. ولكني مسؤول عن معرفة تاريخ المكان الذي أَصنعُ فيه فيلمي، فهذا تاريخ لا يمكن تجاهله. ببساطة لا يمكن تجاهل صورة عمر البشير وما حدث لها في الأماكن التي عشتُ فيها.

أما عن وجود تناصّ بين الفيلم وبين الأحداث الواقعية التي حدثت، فبالنسبة لي إن العلاقة بين الفيلم وواقعه هي شيء أقرب إلى منطق الحلم. تملك الأحلام منطقها الخاص، وهو منطقٌ مستقلٌّ عن منطق الواقع الذي أنتجَ تلك الأحلام ولكنه مفيدٌ في تفسيره. تعمل الأفلام الروائية بالطريقة نفسها في رأيي، فهي تحمل منطقها الخاص وهذا هو واقعها، أما هذه القصة نفسها (قصة الفيلم) فهي تستطيع مساعدتنا في فهم واقعنا. وهي لذلك إشارة إلى أهمية الخيال لفهم الواقع. وهذا العلاقة بين الخيال والواقع هو مشروع سياسي للتغيير. فإن كنا غير قادرين على تخيُّل عالم ما بعد البشير ومبارك وبن علي وغيرهم، فإننا بالتأكيد لسنا مستعدين لتغيير هذا الواقع. القدرة على التخيُّل ومعها الخيال الفني والسياسي تستطيع فتح هذا الواقع على إمكانيات أخرى. لذلك فإن التناصّ موجود بالتأكيد إن أردت تتبعه بين الواقع والفيلم، ولكن واقع الفيلم يختلف في قدرته على الانفتاح على احتمالات أخرى كامنة.

يرتبط التناصّ بين الواقع والخيال في الفيلم كذلك بعملِ ماهر المتماثل في مكانين مختلفين ولأغراض مختلفة كذلك. يعمل ماهر في مصنع طوب طيني. في لقطات طويلة في الجزء الافتتاحي من الفيلم، تُراقب الكاميرا العمال وهم يخلطون الأرض بالمياه ثم يشكلون الطوب في قوالب ويتم بناء فرن ليجف الطين في هيئة قوالب طوب. وفي الصحراء البعيدة عن المكان، تُراقب الكاميرا ماهر وهو يؤدي إيماءات العمل نفسها التي يستخدمها في مصنع الطوب، ولكن هذه المرة لبناء مشروعه الخاص الذي هو مشروع متصل بما هو أبعد من الواقع المادي. سؤالي هذه المرة عن هذا التوازي بين عملين متشابهين ولكن في أماكن ولأغراض مختلفة: هل كان ذلك لتعزيز المُشترَك بين العمل على إنتاج فائض قيمة رأسمالي من جانب والعمل على مشروع روحاني يعمل على مستوى المخيلة والتصوف من جانب آخر؟ أم كان هذا لإظهار الاختلاف الجوهري بين نوعي العمل على الرغم من التشابه بينهما؟

أعملُ حالياً بالطين إعداداً لمعرض فني. هناك سؤال مستمر لدي حول عملية الخلق، سواء كفنان يخلق شيئاً أو الخلق الإلهي نفسه، وهو سؤال يتضمن البحث عن معنىً للإنتاج. معمل الطوب هو المكان الذي يندرج تحت قوانين الإنتاج الرأسمالية وبالنسبة للفيلم هذا أقرب شيء للوثائقي بمعنى علاقة مباشرة مع الواقع، أما في الصحراء في الخارج فإن حركات وإيماءات ماهر نفسها تُنتج شيئاً مختلفاً. ربما الفرق الأكبر هو النية من وراء الاثنين، نحن لا نعرف حتى إذا كان ماهر يعرف بالضرورة ما هو على وشك صنعه في الصحراء، يتحرك في هذا المكان المختلف بدوافع خفية تدفعه نحو إتمام هذا الخلق. كفنان، أرى عملي أيضاً داخل علاقات الإنتاج الموجودة والمسيطرة، وعلى الرغم من الاختلافات فالعمل الإبداعي يظل عملًا، مثلما أتواجد الآن في الاستوديو ولدي ساعات عمل بالاشتراك مع آخرين. يحتاج العمل الإبداعي أو الخلق الفني إلى الكثير من العمل أيضاً في معناه المباشر إن أردت أن تصنع عملاً جيداً. 

من الممكن أن يظهر العمل الإبداعي كفعل خارج منطق العمل أو في مكان مختلف عنه، ولكن ذلك يرجع إلى خلل في علاقات الإنتاج القائمة تجعل من الصعوبة رؤية الفعل الإنتاجي في الفن. ولذلك من المهم بالنسبة لي أن نُذكِّرَ أنفسنا بأن مصدر العمل سواء في المصنع أو المعرض هو واحد، ولكن السياق المهيمن على منطق العمل حالياً هو ما يجعل من الصعب رؤيته كذلك. هذا بالإضافة أيضاً إلى إدخال العمل السياسي أيضاً إلى منطق العمل، كونه أيضاً عملٌ إنتاجيٌ قائمٌ على العمل الدؤوب على صياغة وتجريب بدائل قادرة على قيادة التغيير. لا أؤمن بأن هناك وحياً من خارجنا أو موهبة مدفونة في داخلنا يكمن فيهما طريقٌ للتغيير. ربما يكون المنطق الحاكم في الفيلم هو: كيف يصبغ المكان أفعالاً مماثلة بمعان مختلفة. صحراء مروي هي مكان الممكن في الفيلم، حيث يستطيع ما نخلقه أن يمتلك حياته الخاصة والمستقلّة عن خالقه، ويشبه ذلك أيضاً إنتاجَ عمل فني من حيث أنه يحمل شيئاً من صانعه ولكنه أيضاً خارجه ومستقلّ عنه، ولذلك فإنّ الفيلم يحمل محاولة للتفكير في منطق العمل وعلاقته بالمكان الذي يتواجد فيه. 

لا يستخدم فيلم السدّ العناصر الطبيعية فقط ليروي تاريخاً كامناً من العنف، ولكنه يمتلك حساسية تجاه الحالات المختلفة لتلك العناصر سواء كانت صلبة أو سائلة. نراقب في بداية الفيلم العملَ في جانبه الوثائقي يُصاحبه تصلّب الطين في هيئة طوب، هناك خلق لشيء صلب من التراب والمياه، يوازيه في الصحراء فعلُ تشييد وبناء لطوطم لا نعرف الهدف الأساسي منه. مع تقدم السرد، هناك سيولة لهذا الصلب من خلال العلاقة مع الماء، سواء كان قادماً من النهر أو من المطر المنهمر. تأتي الكارثة في الفيلم في هيئة مطر غزير يُسيل كل ما هو صلب وقائم. كيف صاغت الحالات المختلفة للمادة أحداث الفيلم؟ وهل هناك دلالة للسائل في مقابل الصلب أو الواقعي في مقابل الخيالي؟

إذا أردتُ أن أرسم مساراً توضيحياً للعناصر ومرورها من حالة إلى أخرى في الفيلم سأقول بأن ماهر شخص يعيش في مجال يخالفه، فهو شخص ناري في مكان مائي. ماهر من البداية يهاب الماء والسباحة، وللمصادفة فإن ماهر الممثل أيضاً لا يحب الماء والسباحة. يخوض ماهر رحلة تتضمن مشقةً وفقداً وقتلاً والكثير من العنف، ومن خلال هذه الرحلة يُتاح له أن يُخرِجَ تلك النار التي في داخله لتهدأ قليلاً وتبدأ رحلة تقبُّل المياه والسيولة. ومن هنا أتى مشهد النهاية حيث ماهر يسبح في العنصر الذي يهابه نحو الشمس في الأفق. يحمل هذا احتمالات مفتوحة تبدأ بأنه قد يكون ذاهباً إلى حتفه أو ربما يقوده هذا إلى شيء آخر.

مثل ماهر في الفيلم فإن على شرّي يصنع طوطمات طينية ولكنه يعرضها كتجهيزات في معارض فن معاصر. في بناء ماهر للطوطم الطيني إشارة إلى الدور الشعائري للفنون، أو كيف نبني ونصنع صوراً تصل بيننا وبين الماورائي والمطلق. تاريخياً لعبت تلك الطوطمات والتمائم والأيقونات هذه الأدوار الطقوسية والشعائرية من خلال وجودها وحضورها المادي، أما السينما فلا تقدم وجوداً مادياً للأشياء ولكنها تلقي إلينا بصور نتلقَّاها بدون أي هالة لحضورٍ ماديٍ للأشياء في تلك الصور. في نهاية حديثي معه، سألت على شرّي عن ما تقدمه السينما لطوطم ماهر في مقابل ما تقدمه التجهيزات الفنية في المعارض لتماثيل علي شرّي الطينية.

بالتأكيد يمنح الوجود المادي للأعمال الفنية بُعداً طقوسياً لا تستطيع الأفلام توفيره. إن التمثال الذي يبنيه ماهر تم الوصول إلى شكله الأخير بالتعاون مع ماهر نفسه، إن الإحالات والاقتباسات في التمثال ترتبط بماهر ومحيطه إلى حد كبير. أحملُ حماساً للسينما وما يمكن أن تُقدِّمه فيما يخص تتبع تواريخ العنف الكامنة؛ تَتابعُ الصور بعلاقة حرة في السينما يسمح باستقصاء الخيالي وعلاقته مع الواقع وإيصاله للجمهور بشكل يُتيح لهم مراجعة تلك العلاقة في حياتهم الخاصة.