أيها الحضور الكرام، مساء الخير

أشكر الأستاذ عمر وإدارة منتدى جمال الأتاسي على هذه التقدمة التي قيلت بحق حزبي وبحقي، لكني  شخصياً أرى أنني لا أستحق هذا الإطراء، فلولا ثقتي بحزبي وبشعبي وبحلفائي لما صمدت يوماً واحداً، فالفضل لكم أولاً وأخيراً، لأنني أعرف، وإن كنت وحيداً في السجن، أن هناك آلاف ومئات الآلاف، بصرف النظر عن أشكال تعبيرها، كانت تعبر عن صمود حقيقي وتنتظر اللحظة المناسبة لتفصح عن ضمائرها ومكنوناتها.

أودّ أن ألفت نظركم إلى أنني غيّرت عنوان مداخلتي، هذا التغيير كأننا متفاهمون عليه، فالتغيير أدخلته على المحاضرة عندما وجدت أنه لا بدّ من وقفة تاريخية، على الأقل منذ الاستقلال وحتى الآن، لأبرهن أن لنا تراثاً نضالياً بدأ مع أوائل هذا القرن، وأن النضال من أجل الديمقراطية هو تجربة تاريخية لحزبنا وليست لصقة نأتيها من الخارج، ولذلك اعذروني إذا خرجت قليلاً في محاضرتي، وعرضت بعضاً من ماضي نضال مفكرينا وروادنا من أجل الحرية ومن أجل الديمقراطية.

الحديث عن الديمقراطية في وضعنا الراهن حديث سياسة قبل أن يكون حديثَ فكرٍ، لذا سأتناول الحاضرَ ومشاكلَه، والمستقبلَ وآفاقَه. لكن، لكي تكون رؤيتنا للحاضر وتلمّسُنا للمستقبل أسلمَ وأصوبَ، لا بد لها أن تنطلق من دروس الماضي وعبره.

من هنا ستكون لي وقفة مع الماضي، على الأقل، منذ الاستقلال وحتى الآن. وذلك بغرض تسليط الضوء على النظم السياسية التي سادت خلال تلك الحِقبة، بما فيها من القوى السياسية والاجتماعية وآلياتِ ممارستها.

وربما يكون مفيداً وعادلاً، أن نُقسّم هذا الماضي إلى قسمين، يتناول أوّلُهما أوضاعَ البلاد منذ الأربعينات وحتى الستينات، وثانيهما منذ الستينات وحتى المرحلة الراهنة.

المرحلة ما بين الأربعينيات والستينيات

من المعروف أن النظام السياسي الذي ساد في سوريا منذ أوائل الأربعينيات، وبخاصة بعد الجلاء، كان نظاماً برلمانياً ديمقراطياً. هنا أودّ الإشارةَ إلى أن فكرة النظام البرلماني على النمط الغربي لم تأتِ بها فرنسا فحسب، بعد احتلالها سوريا المُحرَّرةَ عقب الحرب العالمية الأولى، وإنما كانت أيضاً في البداية اختياراً ارتضاه الساسَة والمثقفون في بلاد الشام المتأثرين بالفكر الغربي، وأكدّوه عند انعقاد المؤتمر السوري العام سنة (1919)، حيث تشكلت في إطاره لجنة برئاسة الرئيس هاشم الأتاسي، صاغت مشروع دستورٍ لمملكة فيصل على النمط المشار إليه. وكان ذلك الدستور متقدماً في العديد من مواده على الدساتير الغربية، بخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة على سبيل المثال.

إذا عُدنا إلى النظام السياسي السائد بعد الاستقلال، نلاحظ عموماً ما يلي:

أولاً– إن القوى الأساسية التي وقفت وراء ذلك النظام ودعمته، كانت من الفئات البرجوازية المُطعّمة ببقايا الإقطاع والملاّكين العقاريين. وإذا سُجّل لها، أو لبعض فئاتها، المشاركةُ في النضال ضد المحتل مع باقي فئات الشعب، إلا أنها لم تكن قادرة على تحمل أعباء المرحلة الجديدة المضطربة، الأمرُ الذي ولّدَ النقمة عليها. لقد كانت – حسب تعبير المناضل الكبير المرحوم عبد البر عيون السود – ترى في تحقيق الاستقلال وكأنه نهايةُ المطاف، فانصرفتْ لقطف ثماره، متناسية نضال الشعب السوري طوال ربع قرن من أجله. وهكذا برزت عوامل ثلاثةٌ أضعفتْ سلطةَ هذه القوى التقليدية، هي:

أ- شكلانية واحتكار الممارسات الديمقراطية؛ الأمرُ الذي نتج عنه الإضعافُ والقمعُ الجزئيُّ للقوى الديمقراطية الناهضة.

ب- ضعف أدائها السياسي: في توطيد الاستقلال، وفي مواجهة التآمر الخارجي بأسلوب المهادنة والمراوغة، وفي العجز عن مقاومة المسار الإمبريالي الذي أدى إلى غرس إسرائيل في قلب الوطن العربي.

ج- نهوض الأحزاب الوطنية الديمقراطية وباقي الفئاتِ الأخرى كقوىً معارضةٍ، تطرحُ مطالب ذات طابع ديمقراطي وقومي أكثر تماسكاً وجذريةً، مما أعطاها وزناً سياسياً مؤثراً في حياة البلاد.

ثانياً– شهدت سوريا خرقاً فاضحاً للنظام الديمقراطي بقيام سلسلة من الانقلابات، نهجت نهجاً استبدادياً. وكان من نتائج إسقاط ديكتاتورية الشيشكلي، والتغييراتِ اللاحقة، تنامي وزن الفئات الوسطى والصغيرة، المدينية منها والفلاحية، ونزوعها إلى لعب دور رئيسي وحاسم إلى جانب البرجوازية الكبيرة التي أخذ دورها السياسيُ وأداؤُها بالتراجع.

هذه القوى الجديدة أعطت لتلك المرحلةِ طابعاً مختلفاً، وطعماً ديمقراطياً لا يزال شعبنا يتذكره بحنين خاص. فمن الممارسة الديمقراطية بطريقة أكثرَ عمقاً التي تربط ما بين الحرية والتسليم بدور صندوق الاقتراع، إلى بروز دور الشعب في تحقيق مصالحه الوطنية والقومية، كما حدث في الاندفاع للتضامن مع مصر ضد العدوان الثلاثي، ثم في تحقيق الوحدة بتأييد جماهيري جارف، وأيضاً من خلال المكاسب الاجتماعية العمالية والفلاحية بخاصة، على الرغم من الهيمنة البرجوازية الرسمية. في تلك السنوات الثلاث (55-57) اجتمع للممارسة الديمقراطية بُعداها: الحرياتُ للقوى والفئات والمواطنين، وتجسيد مفهوم الشعب ودوره ومصلحته العامة. مما أسهم أيضاً في دفع التيارات الدينية إلى المشاركة الوطنية في اللعبة السياسية.

ولكن من ناحية أخرى كان للقوى الجديدة إفرازات سياسية متنوعة لم تكن موحدةً في تطلعاتها الاجتماعية والسياسية. أهم تلك القوى كان العسكرُ وحزبُ البعث العربي الاشتراكي والحزبُ الشيوعي السوري الذي لم يكن يختلف عنها في بنيته، لكن توجهاتِه السياسيةَ الداخليةَ والخارجيةَ، كما دلّلتِ الأحداثُ الكبرى، كانت مرهونة بالاستراتيجيات السوفيتيةِ أكثرَ مما هي نابعة من المصالح الشعبية أو القومية العليا.

ثالثاً– عموماً، وبصرف النظر عن التطورات الكبرى التي طرأت على البلاد، يمكن القول إن الفئات المذكورةَ طبعتْ ببصمتها مسرحَ السياسة السورية طوال مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى الستينات، عدا فترة الانفصال القصيرة التي عادت خلالَها البرجوازيةُ إلى الحكم.

هنا أرى من المفيد استخلاصَ بعضِ نقاط الضعف والقوة في أداء القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية لتلك المرحلة :

أ- إن قيام دولة الوحدة، كان إنجازاً عبّر بامتياز عن نزوع قوى الأمة العربية وحاجتها لاستكمال اندماجها القومي، وتجلّى فيه تقدم العوامل الذاتية على العوامل الموضوعية، كما كان رداً سياسياً فعّالاً على الأحلاف الغربية وعدوانها.

ب- إن حدوث الانفصال كان اختباراً لذلك الإنجاز، وكشفاً لضعفه أمام أعدائه، حيث ألغى نظام الوحدة عوامل قوته، عندما قام بحلّ الأحزاب التي كان من الممكن أن تتحول إلى مؤسساتٍ معبرةٍ عن إرادةِ المجتمعِ ودورهِ، حين استبدل دورَ الأجهزةِ البيروقراطية السياسية والأمنية (الاتحاد القومي – المباحث) بها من جهة، ومال إلى صوغ علاقةٍ مباشرةٍ بين الزعيم والشعب، تحولت إلى مصدرٍ رئيسٍ لفسادٍ تستثمرهُ الحاشيةُ والبطانة، بغض النظر عن اختلاف الفرد والدور، كما أصبحت لاحقاً واحدة من أهم أسس الديكتاتورية وشخصنة السلطة. هذه العلاقة أو المعادلة بين الزعيم من جهة والشعب من جهة أخرى، أدّتْ وتؤدّي إلى إقصاء القوى التي تنظمُ الشعبَ وتمثِّلُه. وفي حالة مختلفة عن تلك الحالة الناهضة والصفات المميزة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يتلاشى دور الشعب وتتلاشى السياسة من الحياة العامة، ليسود الاستبداد وحيداً.

ج- بعد الانفصال، تحولت العلاقات بين القوى الوطنية والديمقراطية ذات المصالح الاجتماعية المتشابهة والرؤية القومية المتقاربة، من علاقاتِ تحالفٍ وتعاونٍ إلى علاقاتِ تنافسٍ وتآمرٍ، الأمر الذي أسّس لتاريخٍ من فقدان الثقة بين القوى السياسية، كما حدث بين عبد الناصر والحركة الناصرية من جهة وبين البعث من جهة أخرى، أو كما حدث بين أجنحةِ البعث نفسِه، وما بين الأخيرين وبينَ الشيوعيين.

د- رسّخت مرحلتا الوحدة والانفصال العداء بين الشيوعيين والقوميين، الذي كان تعبيراً عن الإلغاءِ المتبادلِ بين الطرفين، عندما سحبت القيادةُ الناصريةُ سلبياتِ تجربتِها الحزبيةِ في مصر على سوريا، بينما تذّرَع الحزبُ الشيوعيُّ السوريُّ بالديمقراطيةِ وبالخصوصية السورية لمعارضة الوحدة. تلك الخصوصية كانت تخفي وراءَها نزوعَ خالد بكداشَ غيرِ الوحدوي، المستندِ أساساً إلى عدمِ ارتياحِ القيادةِ السوفييتيةِ لقيام الوحدة، فكانتا كلمةَ حقٍ أُريد بها باطلٌ، إذ سرعان ما تكشّفت حقيقتُها في المبادرة الحماسية والفورية لبكداشَ في تأييد الانفصالِ، وقوله بخلاص سوريا من «الاستعمار المصري»!

ه- تميّزت الفترة اللاحقة لسقوط الانفصال بالتنافسِ والنزوعِ إلى احتكار السلطة بين الحلفاء، الأمر الذي تقلّص إلى جانبه الهدف الأساسي الذي عملوا من أجله وهو إعادةُ الوحدة. ذلك التنافس وتنامي حدتِه يقومان (ويؤديان) إلى عدم الاعتراف بالآخر ثم العمل على إلغائه، ثم إلى نفي التعددِ وتقليصِ المجال السياسي للمجتمع حتى إنهائه. في مثل تلك الحالة يتذكر المرء كيف كانت (الثورة) تأكل أبناءها، تماماً كما جرى في أحداثِ الثورة الفرنسية حتى استقرار بونابرت في السلطة.

و- في مثل تلك الحالة ينتهي الحوار حول أفضل السبل لتطوير البلاد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وتحسين فرص الديمقراطية. ويصبح من الطبيعي أن يشتدَّ الصراع على السلطة والاستئثار بها، الأمر الذي يستدعي تنمية العصبيات ما قبل القومية كالعشائرية والطائفية والمناطقية وحتى العائلية، وتصبح الحزبية مجرد غطاء لعمل هذه الآليات.

المرحلة ما بين الستينيات وأواخر القرن

كان الصراع على السلطة قبل عام 1963، (أو لنقل قبل أحداث تموز من ذلك العام) يدور بين مختلف التيارات وفقَ آلياتٍ وضوابطَ تحتكم إلى هذا الحدّ أو ذاك إلى صندوق الانتخاب، وتعطي للجميع الحق بالوجود والعمل السياسي، وللتمايزاتِ والتنوع المجتمعي بإيجاد تعبيراتها السياسية المناسبة. وحتى في ظلّ الانقلابات العسكرية (1949-1954) لم تجرِ تصفيةُ رموزِ الطبقةِ السياسية، بل أُبعدوا فقط عن السلطة لصالح العسكر. لكن قواعد اللعبة تغيرت، وكذلك تغيّر اللاعبون أنفسُهم بعد الثامن من آذار 1963، أو لنقل ثانيةً: بعد أحداث تموز 1963.. لقد دخل مفهوم الحزب القائد للدولة والمجتمع. عندما أصبح العملُ السياسيُّ محصوراً بحزب البعث. أما الآخرون، فلم يبق لهم إلاّ اعتزالُ السياسة. وأما العمل السري أو «التآمر» فكانت ضريبتهما باهظة، وبخاصة من خلال تطبيق حالة الطوارئ، وما رافق ذلك من تعزيز وتقويةِ دورِ الأجهزةِ القمعيةِ وإطلاقِ يدها. و هكذا تبدّلتْ شروط الدخولِ إلى الحقل السياسي وتبدّلتْ معها شروطُ اللعبةِ السياسية وطبيعةُ اللاعبين.

كذلك نلاحظ بعد إزاحةِ الناصريين انتقالَ الصراع السياسي على السلطة إلى داخل الجيش، وبالتالي إلى داخل الحزب، الأمر الذي أدى تدريجياً إلى إضعافِ دورهِ، إلى أن أصبح هامشياً مع حركة عام 1970 وفي الفترة التي تلتها. وكان من نتائج ذلك الصراع سلسلةٌ من الإقصاءاتِ التي طالتْ رموز الحزب، ورافقها أيضاً تسريحات واسعة في الجيش، كثيراً ما أخذتْ طابعاً طائفياً أو عشائرياً أو مناطقياً.

من الناحية الاجتماعية أذكرُ بقليلٍ من الإيجابية توسيع دائرة التأميم التي شملت معامل متوسطة وصغيرة وبإيجابية تجذير قانون الإصلاح الزراعي وسواهما. هذه التدابير كانت أيضاً موضع خلاف داخل أجنحة البعث، الأمر الذي أدى إلى خروج البعث اليساري ثم إزاحة البعث القومي بانقلاب شباط سنة 1966.

أما من الناحية السياسية فالصراع استمر مع التيارات الناصرية المُشكَّلة منذ الانفصال، والتي أهمها كان الاتحاد الاشتراكي العربي الذي أسسه المناضل الكبير جمال الأتاسي عام 1964. (هنا، اسمحوا لي أن أذكر بالخير صاحب هذا البيت العامر الذي جعل بيته مثابة لأصدقائه وحزبه ورفاقه، وكل الذين يهمهم أمر وطنهم يجدون فيه رجلاً ذا رأي وذا بصيرة، وكان يستقبلهم بتواضعه وبشاشته، وكان في علاقته مع الناس مثالَ المناضل الحريص على وحدة أمته ومستقبلها وديمقراطيتها. اسمحوا لي أن أحيي أهل هذا البيت أسرة الفقيد وأن أدعو الله أن يجعل هذا البيت عامراً ومثابة قائم عليها بناته وأرملته وأحفاده، وإلى الأبد إن شاء الله). إن أهمية هذا الحزب تأتي في سعيه لتطعيم المفاهيم الناصرية القومية بمفهوم الديمقراطية وبخاصة شعار الوحدة العربية.

وجاءت تطورات الصراع العربي الإسرائيلي الكبرى في تلك الفترة، لتؤثّر بشكل عميق وجذري على الأوضاع وتهزّها بعنف.

فقد تمدّدت إسرائيل بعدوانها وسيطرتها في حزيران 1967، و وجّهت ضربةً قاصمةً إلى مفهوم «الأنظمة الوطنية التقدّمية» وظهرت المقاومة الفلسطينية وجهاً إيجابياً تزامنَ مع إعادة النظر وترتيب المواقف ضمن جميع القوى والأنظمة المعنية بالصراع.

ولم تستطع حرب تشرين (المجيدة حقاً) إيقاف الانحدار الذي أصبح سمة الوضع العربي بمجمله، هذه السمة التي لم تستطع الانتفاضة الأولى محوها وعَكْسَ مسارها في شروط غياب الحرية عند الشعوب العربية، ولن تستطيع الانتفاضة الحالية – التي نُحييها ونقف أمامها بإجلال – أن تفعل ذلك ما لم تتغيّرَ هذه الشروط، التي عاشتها الأوضاع العربية منذ ذلك الحين.

مع استلام الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة، تحول النظام من حيث الشكل إلى نظام رئاسي وفق ما نصّ عليه الدستور الذي فصّلَ على قياسه. وفي الممارسة العملية تمّت شخصنة النظام وفق مقولة «القائد الفذّ والملهم» التي أصبحت بديلاً لمقولة «الحزب القائد للدولة والمجتمع». عملت تلك المقولة كناظمٍ رئيسٍ لآلية عمل واشتغال رجال السلطة والحزب والجبهة الوطنية التقدمية من حول القائد الفرد، بحيث أن الأهمية والوزن السياسي لأي طرف من أطرافها تتحدّد بمدى قربه أو بعده عن الرئيس، لا بما يحمله من أفكار أو بما يمثله من وزن شعبي أو ما يتبوأه من مناصب. و أصبح كلّ نشاط سياسي لا يخضع لهذه القاعدة خارجاً عن القانون. وهكذا أصبحت هنالك قواعدُ جديدةٌ تختلف عمّا سلكه رفاقه العسكريون أو المدنيون، حيث كانت السلطة السياسية العليا سلطة جماعية أو شبه جماعية.

من جهة أخرى، كان للنصف الأول من السبعينيات ملامحُ مختلفةٌ عمّا سبقها. حيث أُريد لها أن تَظهر كخروجٌ من «العزلة» في الداخل والخارج، مع انشغالٍ بتأسيس «الجبهة الوطنية التقدمية» والإدارة المحلية ومجلس الشعب والدستور الدائم، ومع تركيز على متابعة بناء الجيش وتحديثه بالتوازي مع مصر وبمساعدة من الاتحاد السوفييتي للبلدين. ثم جاءت حرب تشرين المختلفةُ عمّا سبقها بشكل من الأشكال، وتدفقت الأموال النفطية، وابتدأ البناء في بعض البنية التحتية والعديد من المشاريع الاقتصادية، في فورة كبيرة انعكست على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للبلد، وعلى مجمل التاريخ اللاحق لها. من خلال تلك الفورة ازدادت الثروات وتركّزتْ أُسس الفسادِ، وانتهت المرحلة الأولى بتبلور النظام حول الفرد والأجهزة الأمنية من دون أيةِ حاجة للآخرين، أو للشعب بعد تجميده وتحديده في أطره الجديدة، في الحزب المتضخم أو المنظمات المبنية على الشكل القابل للمراقبة والحجز تحت مستوى ممارسة السياسة.

في تلك الفترة ذاتها، ومع تلمُّس الإصرار على شكلانية الخطوات، وتطوير النمط الشمولي للنظام، وتعميق مضمونه المتركّز حول الفرد، ابتدأت خطى قوى سياسية واجتماعية وشخصيات ديمقراطية مستقلة بالابتعاد عن النظام تدريجياً، وبخاصة من خلال إحساسها بالتوجه نحو تهميشها، وتهميش السياسة عموماً.

لكن، بما أن أيّ شعب من الشعوب لا يمكن اختصاره بشخص واحد، وأي خطاب سياسي لا يمكن أن يَختَزِل كلّ السياسات الممكنة والخلاقة من خلال تنوعها وحسب، كان لابدَّ أن يُفرض الإذعان والطاعة على الناس عن طريق الترهيب والترغيب، في مثل هذه الأوضاع، نمت حالة من النفاق الجماعي والخوف المُعمّم، أصبح فيها السلوك الخارجي للمواطنين محكوماً بما يريد النظام منهم أن يحترموه في أقوالهم وأفعالهم. أما دواخل الناس وقناعاتهم الحقيقية فلا وزن لها ما داموا يستبطنونها، ويتصرفون في الحيّز العام وفق رغبات وضوابط وطقوس السلطة. (تنقل ليزا ويدين عن فريدريك الكبير أنه «لا يعبأ بما يظنه الناس ما داموا يقومون بما يأمرهم به»، ونقل مؤرخونا عن زياد بن أبيه ما يشبه ذلك في إحدى خطبه). هذا بالضبط ما كان عليه المجتمع السوري وهو يخرج أفراداً وجماعاتٍ في مسيرات التأييد والولاء. فاليأس كما قيل يقود إلى الاستكانة، والاستكانة إلى الامتثال، والامتثال إلى هذه الممارسات الرتيبة التي تُقام دليلاً على نشاط الجماهير السياسي.

في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ساد الركود جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغدا اسمه «الاستقرار». في الأول منه كان الاستناد إلى التخويف في الداخل، وعلى توازنات الحرب الباردة في الخارج، كافيين حتى لا تواجه الأزمة بأية تعقيدات. أما في الثاني، فقد انهار الاتحاد السوفييتي وانتهت تلك الحرب وقامت حرب الخليج الثانية، فابتدأ الإحساس الفعلي بالحاجة إلى تغيير شيءٍ ما، ولكن بعد أن افتقدت السلطة ذاتُها الأدواتِ القادرةَ على الفعل وتخشّبتْ في المصالح الأنانية لأفرادها وغدا استبعاد الشعب وقمعُه ونهبه طريقَها المعتادَ الأسهل. وربما أضيف عامل جديد في السنوات الأخيرة هو مرض الرئيس الراحل الذي لم يعتد أحد على المبادرة خلال مرضه. وكان هذا الركودُ الشاملُ نتيجةً لذاك الاستبداد وتلك الشمولية. ونتائجهما التي أبرزها الفرز الاجتماعي الحاد القائم على تنامي الثروات في أيدي قلة قليلة والإفقار الواسع لطبقات الشعب الذي يكاد ينحدر إلى مستوى الجوع. كذلك الأزمة العميقة والمعقدة في مختلف مجالات حياتنا.

لقد انقطعت التدفقات السياسية والمالية من الخارج، وجاءت لحظة الحقيقة التي يُواجَه بها الوضعُ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي انطلاقاً من الطاقات الذاتية، وهنا مصدرٌ آخرُ للأزْمة، لم يعد من الممكن مواجهتُه إلا بالتغيير.

المرحلة الراهنة

أيها الحضور الكرام:

مع وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد ومجيء الدكتور بشار الأسد إلى سدة الرئاسة دخلت سوريا مرحلة جديدة.

لعل أهم ما يسجل على هذا العهد تغيرٌ شبه نوعي على طبيعة النظام الرئاسي المشخصن. إذ جرى نقل السلطة من الأب إلى الابن، فأصبحنا أمام نظام هجين لا هو بالنظام الجمهوري تماماً، ولا هو بالنظام الملكي تماماً. هو بين بين، أو ما اصطلح على تسميته بالنظام الجمهوري الوراثي.

جاء الرئيس إلى سدة السلطة العليا نتيجةَ توافق ثلاثِ إراداتٍ في ظروف عدم وجود تعبيرٍ عن إرادة الشعب: الأولى إرادة الرئيس الراحل والثانية إرادة أصحاب النفوذ أو أصحاب مراكز القوى الفعلية في السلطة، وأخيراً رغبة الابن. أما الحديث عن قيام توافق اجتماعي أدى إلى تلك النتيجة، فهو محض ادّعاء غرضه التبرير والدعاية.

لقد كثر الحديث عن هذا الموضوع في الأوساط الصحفية والسياسية المعارضة، ولعل أهم تعليق على هذا الحدث ما جاء في بيان التجمع الوطني الديمقراطي «إن تعديل الدستور .. على مقاس شخص واحد.. يتنافى مع أبسط مبادئ الديمقراطية.. وهذا ما جعل الناس يشعرون .. أن الرئاسة يمكن أن تنتقل بالوراثة. وهذا لا يخالف فقط نظامنا الجمهوري الذي أسس.. قبل استلام الرئيس الراحل حافظ الأسد، وإنما يتناقض مع تقاليد الأحزاب السياسية بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي وحتى مع تقاليد الأنظمة العقائدية والشمولية التي حكمت معظم سنوات القرن العشرين».

الفكرة الثانية هي أن الأوضاع الحالية تُراوح في مكانها، وليس هناك تغيير رغم الوعود الكثيرة التي أطلقت خلال العام الماضي.

لكننا نسجّل لخطاب القسم نكهتَه المختلفةَ ولغتَه الجديدة بالمقارنة مع اللغة السابقة، وأيضاً ذلك الاعتراف الواضح بوجود الأزمة بعد طولِ إنكارٍ لها، وبوجود المعارضة السياسية بشكلٍ غير مباشرٍ من خلال الاعتراف بالرأي الآخر، وبالعجز عن مواجهة الأزمة الشاملة من خلال التصريحِ بعدمِ وجودِ عصاً سحريةٍ.. هذه المسائل كلّها تُضمِر الحاجة لمساهمة الآخرين، خارج الأطر السلطوية التي ثبَتَ قصورُها عن الخروج من الأزمة بجهودها وحدها. الاستنتاج الوحيد والبديهي هو ضرورة الانفتاح والإصلاح السياسي، الأمر الذي تم التنكر له والتهرّب منه لاحقاً وحتى الآن.

من ناحية أخرى، واضحٌ أن هنالك تعقيداتٍ خارجيةً في الوضع السياسي أُضيفت مع الدخول في المرحلة الراهنة، يرتبط بعضها بالعلاقات الدولية للنظام، وبعضها بإسرائيل منذ أيام باراك وبخاصة في أيام شارون، وبالعلاقات العربية التي من أهمها إيجاد حلّ للوجود السوري في لبنان خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبه، ومع أن السلطة تراجعت قليلاً بإعادة انتشار الجيش مؤخراً. لكن هذا التراجع المحدود غيرُ كافٍ، فالمجتمع اللبناني وأغلب قواه السياسية لا يرى للوجود السوري أي مسوّغ وهو يرفض التدخل في شؤونه الداخلية. لقد آن الأوان لتصويب العلاقة السياسية والعسكرية بين بلدينا بما يخدم مصلحة التصدي لإسرائيل ودعم المقاومة وحماية الجنوب، وبما يحفظ للشعب اللبناني سيادته وعدم التدخل في شئونه السياسية، وبخاصة تدخل الأجهزة الأمنية السورية. كذلك من الضروري انتهاج سياسة متضامنة مع الشعب العراقي قوامها عدم الاعتراف بقرارات مجلس الأمن الجائرة وفك الحصار، والصمود في وجه الضغوط الأميركية التي تسعى لجعل السلطة تتراجع عن التدابير والاتفاقات التي عقدت معه. نحن نرحب بعودة العلاقات هذه وندعمها وهي في مصلحة البلدين.

تأتي هذه الصعوبات الخارجية لتؤكّد أيضاً الحاجة إلى الانفتاح وإطلاق قوى الشعب حرة تفعل وتسهم، وهي المسألة التي تلقى آذاناً صمّاء حتى الآن. في حين ما تزال القوى القديمة بنهجها السابق ومصالحها وأسلوبها في العمل، إذ تعمل على مواجهة هذه المشاكل عن طريق المساومات، وتجهد من أجل تحييد المؤثرات الخارجية، حتى تنفرد بالداخل.

و لكن صحيح أيضاً أن هنالك ثلاث مسائل تطورت، نرى فيها شيئاً جديداً لكنه صغيرٌ وباهتٌ إلى هذا الحدّ أو ذاك، بالمقارنة مع ما كان ينبغي:

الأولى في دائرة الخوف. ذلك الخوف الذي أصبح جزءاً مكوّناً وملازماً للحياة الاجتماعية والسياسية في بلادنا. يمتنع المواطن في ظلّه عن قول ما يُفكّر فيه، بل يقول غير ما يُفكّر. يخشى الاهتمام بالشأن العام، ويرى في أيّ شخصٍ لا يعرفه مُخبِراً سوف يودي به إلى ظلمة الأقبية المعروفة. يُسجَّل أن هذا الخوف قد تراجع خطوةً إلى الوراء في العام المنصرم. صحيح أن هذا التراجع لم يشمل إلاّ أوساط النخبة الثقافية والسياسية بعد، ولم يصل إلى الحدّ الأدنى اللازم لعودة الحياة العامة إلى الجسم الاجتماعي، ولكنه شيء هام بالمقارنة مع ما عشناه لأعوام طويلة وقاسية. مدلول هذه النقطة أن حرية التعبير قد انتقلت خطوة صغيرة إلى أمام.

الثانية مرتبطة بالأولى، ولكنها لأهميتها القصوى تأخذ استقلالها الخاص. وهي تغير أساليب عمل و نشاط الأجهزة الأمنية وتدخلّها الفظّ في الحياة اليومية للمواطنين، وبخاصة غياب ما كنّا نسمع به أو نعانيه بكثافة في السابق، وهو عمليات الاعتقال وحجز الحرية. ما يُلاحظ في عمل هذه الأجهزة حالياً هو تكثيف الاستخبار عن البشر من خلال المراقبة والأسئلة والاستدعاء، وربما كان هذا التكثيف تعويضاً عن الامتناع عن الاعتقال، ليقوم ببعض وظيفته القمعية، من خلال الضغط النفسي على الأفراد والمجتمع عموماً، أو ليكون جاهزاً لتوجيه ضربة إذا عادت الأوضاع إلى مسيرتها الأولى كما يحلم أصحاب الرؤوس الحامية.

الثالثة في مجال الإصلاح ذاته. حيث تمّ التأكيد من السلطة على الإصلاح الاقتصادي، وعلى ضرورة أن ينتظر الإصلاح السياسي إلى أن تتم معالجة ما هو أكثر أهمية في الاقتصاد ومعيشة المواطن. ولكن الناس لم يروا شيئاً هاماً من هذا القبيل، وساد التشكيك في جدّية ما يحدث. في هذا المجال نرى أن هنالك نوايا للإصلاح الاقتصادي، عبّرت عنها المراسيم التي صدرت أو تلك التي تُدرس. هذه المراسيم، وبغض النظر عن رأينا فيها، تدل على اتّجاه إلى الإصلاح. هي أيضاً خطوة صغيرة، لأن شيئاً من هذه التوجّهات لم يُنفّذ على الأرض. ففي الوقت الذي بدا به أنها مرتجلة أحياناً، برز جسم النظام مقاوماً عنيداً لأي تغيير سواءً بطريقة مباشرة، أو عن طريق عمل الآلة البيروقراطية والتخلّف الإداري وضعف الكفاءات عند أصحاب المناصب الذين اعتادوا على التسلّط والانتفاع واعتزلوا المصلحة العامة.

يمكن اختصار الوضع في البلاد بكونه أزمةَ ركودٍ شاملٍ وتأخّرٍ وانسدادِ أفقٍ في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

يجري التعبير والدفاع عن الركود الشامل من قبل النظام باسم الحفاظ على الاستقرار وتأمين الاستمرارية. هذا النهج تجسيدٌ لرغبة المتسلطين والمنتفعين بتأمين دوام تسلّطهم وانتفاعهم، وتجسيدٌ لقلقهم من أي جديد لا يقدرون على تبيّن نتائجه، وتجسيدٌ أيضاً لقوة العادة بعد أن تأصّلت واستفحلت.

ويجري الدفاع عن التأخر باسم الخصوصية الثقافية، مثلما يجري حين يُقال «إن الديمقراطية ينبغي أن تتلاءم مع الشعب الذي يُمارسها»، كغطاء للفكرة التي تتملك المتسلط بأن الديمقراطية ينبغي أن تتلاءم مع السلطة التي تمنح منها ما يزيد عن حاجة الاستبداد، لو زاد شيء. ومثلما يجري في تبرير عرقلة الإصلاح الاقتصادي باسم الحفاظ على المنجزات أو الدفاع عن القطاع العام أو المصالح الاجتماعية، في حين يكمن الجذر في المحافظة على مصالح الذين يجنون الثروات من الفساد ويحلبون البلد عن طريق مراكزهم.

الأزمة هي انسداد الأفق والوصول أمام الجدار. ونحن وصلنا إلى هذه الحالة منذ زمن طويل، وتأخُّرُنا في مواجهة هذه الأزمة عن طريق إنكار وجودها أَوصلَنا إلى تعقيد المَخرَج الآن.

في الاقتصاد هنالك عجزٌ عن توفير السيولة وتشجيع الاستثمار ومواجهة البطالة. عجزٌ عن تشجيع القطاع الخاص الذي يشكو من هيمنة الفساد والبيروقراطية وغياب القوانين لمصلحة ارتجال السلطات والقوانين الاستثنائية. وعجزٌ عن مواجهة أوضاع القطاع العام بالجرأة والكفاءة المطلوبة، وعجزٌ مع إرادة ملتبسة في تحسين شروط المعيشة التي أوشكت أن تصل إلى حدود الكارثة الاجتماعية.

في المجتمع هنالك عجزٌ عن النشاط والاجتماع بذاته، وغيابٌ عن الشأن العام، وتمييزٌ وخوفٌ وتشتّت. وفي السياسة قصورٌ في تحقيق الإجماع حول القضية الوطنية، وضياعٌ في الموقف من «الخارج»، فللمواجهة الناجعة للصراع العربي الإسرائيلي وخاصة بعد وصول شارون الذي يدفع المنطقة وسورية بالذات في قلبها إلى هاوية الحرب، يتوجب توحيد طاقات الشعب وإطلاق قوى التحديث والتغيير وإشاعة الديمقراطية والعقلانية في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وغيابٌ لدور البعث ذي المليون والنصف إلاّ ما يراه الناس من سطوة قيادييه الذين صاروا من عالم الماضي. وهنالك إفلاس في أحزاب الجبهة وتجنّب للسياسة الفعلية واستسهال للاستمرار على ما تعودّوه وعوّدوا عليه الناس، الأمر الذي افتقدت من خلاله هذه الأحزاب إرادتها السياسية ووصلت إلى حالة لا تسر ّموالياً ولا معارضاً. مثالها الحي ما يتعرض له تنظيم الاشتراكيين العرب مؤخراً بعد وفاة المرحوم عبد الغني قنوت.

هنالك أيضاً موقف ملتبس من المعارضة، أو موقف مختلف ما بين رجل سلطة وغيره أحياناً.. مع حذر وتثمير لحالة القمع والترهيب الطويلة، استبعاداً لمواجهة الحالة السياسية الطبيعية التي تتطلّب وجود سلطة ومعارضة، ولمصلحة البلد الملحّة. في حين ما تزال هذه المعارضة أسيرة ماضيها الطويل الراكد هو أيضاً بشكلٍ من الأشكال، مستسلمة لحالة الضعف وعاجزة عن تجاوزه، سواءاً كان ذلك بالأساليب أم بالفكر والسياسة والممارسة.

أحسَّ الناسُ أن هنالك جديداً ممكناً، وأحسّوا بالحاجة إلى الحراك والتململ ومحاولة العودة إلى النشاط العام. فبادرت نخب إلى إصدار البيانات التي تبحث وتدلّ على أبواب الخروج من الحالة الراهنة. ثم مارسوا الاجتماع اللازم حتى يكون المجتمع حياً، واستنبطوا المنتديات حتى يتداولوا في شأنهم الثقافي- الاجتماعي، وابتدأ الشعب السوري بالفرجة على ما يجري في أوساط المثقفين غير مصدّق بعد أن الأبواب قد انفتحت. ثم جاءت مواقف النظام في منع المنتديات لتؤكد للقلقين قلقهم وللمتشككين شكوكهم.

لم تظهر في الفضاء الاجتماعي- السياسي في سوريا قوى تعبّر بفعلها ومستوى نشاطها عن الحاجات الملموسة للبلاد. فلا الفئات ذات المصلحة في تأمين وتطوير الاقتصاد ذي الطبيعة الرأسمالية تقدّمت ببرامجها ونظمّت قواها، إلاّ في محاولات فردية ومحدودة حتى الآن، ولا القوى الإسلامية قامت بمراجعة طروحاتها وممارساتها وعادت إلى المساهمة الجدية، على الرغم من الأهمية الخاصة لمشروع ميثاق الشرف الذي طرحه الأخوان المسلمون من الخارج، والذي يشكل انتقالةً نوعية وواعدة. ولا القوى المعارضة الديموقراطية استنفرت قواها على المستوى المقبول، من أجل برنامج وضمن نشاطٍ يلتقي عملياً مع أسئلة وطموح الشعب، ويحوّلَ قلقه على واقعه ومصيره إلى فعلٍ مُغيِّرٍ خلاّق.

يمكن توصيف الحالة الراهنة من الناحية السياسية على أنها «توازن الضعف» (القائم في جزء منه على الخوف المتبادل) استعارةً من تعبير توازن القوى. فالقوى الموجودة جميعها ضعيفة، في النظام وقواه المتعدّدة من جهة، وفي المعارضة وقواها المختلفة من جهةٍ أخرى. مثل هذه الحالة تستدعي جهداً إضافياً، وانعطافاً في المواقف الثابتة المتخشّبة، للبحث عن مخرج من المأزق الكبير.

وصل موفق نيربية إلى سؤالٍ لم يعد الجواب عليه سهلاً: هل العام الماضي هو العام الأول في عهد يحاول أن يكون جديداً ومختلفاً، أم أنه مجرد عام يلي الأعوامَ الثلاثينَ الماضيةَ ويحمل الرقم الحادي والثلاثين، ويحسبون أنه سوف يؤمن للاستمرار على الحال ذاتها أعواماً وعقوداً أخرى من حياة شعبنا؟!

آفاق الخروج من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية

بدايةً، ينبغي القول إنه أصبح من الواضح استحالة تحقيق الإصلاح والتغيير بالاعتماد على قوى السلطة الذاتية، أو بتحقيق «الثورة من فوق»، أو بما يُسمّى بالإصلاح الرئاسي؛ هل نستطيع القول أن السيد الرئيس استلم منصباً ولم يستلم سلطة. فجميع القوى التي تُعلن انحيازها إلى الإصلاح في السلطة عاجزة لضعفها أو لتركيبتها أن تنهض بهذا الإصلاح، وتجربة العام الماضي ماثلة للعيان. فللإصلاح رافعته اللازمة التي لا تتحقق إلاّ بتوفير قواه، وهذا غير ممكن إلاّ بالانفتاح على القوى التي لها مصلحة في التغيير، والسير قدماً بالإصلاح السياسي ذاته. تعقيد الأزمة الداخلية يكفي وحده للتوصل إلى هذا الاستنتاج، فكيف إذا تضافر معه تعقيد متزايد في العلاقة مع الخارج، وبخاصة في مواجهة الحالة الإسرائيلية المستفحلة.

والمدخل إلى عملية التغيير هذه هو إحياء الثقة وبعث الأمل بين الناس، وعناصر هذه العملية لم تتوفر بعد.

والتغيير على أنواع في السياسة: تغيير عن طريق العنف للإطاحة بالنظام السائد ولم يعد هنالك مقومات للنجاح في مثل هذا التغيير أو حتى استعدادٌ للتضحية أو ميلٌ للمغامرة بالقفز في المجهول أو إمكانات «لوجستية» كما في القرن الماضي.

وتغيير عن طريق البرلمان في بلد تفرض سلطته نواباً لا يُمثلون الناس فيه، أو له من التقاليد ما لا ينهدم بسهولة.

وتغيير من قبل الحاكم ذاته، أو كما سمّاه ماركس «ثورة من فوق» حين تكلَّمَ عن التغيير في ألمانيا القرن التاسع عشر.

وتغيير عن طريق «التعاقد»، ما بين سلطة تُسلِّم بعجزها عن الاستمرار بالحكم على الطريقة ذاتها أمام أزمة مستفحلة تحتاج إلى جهد جماعي، وقوى الشعب الأخرى التي تجتمع على العقد وتتحاور وتبدأ بالتغيير بشكل يتم التوافق عليه.

جوهر المسألة حالياً هو الانتقال من حالة الاستبداد أو التسلّط إلى الديمقراطية، الأمر الذي يعني أن معركة التغيير معركة طويلة وصعبة ومعقدة ، ومع الأخذ بعين الاعتبار كل المعاني السابقة للتغيير وكل المخارج المحتملة من المأزق البنيوي العميق للوضع السوري، فإن الحاسم والجوهري في كل ذلك وعلى طول الخط هو وحدة المعارضة ومَركزَةُ نشاطها السياسي وإصرارها العنيد على الحلقة المركزية التي هي حلقة الإصلاح الديمقراطي الشامل .

كانت الدولة الاستبدادية في أوروبا مرحلة انتقالية ما بين الإقطاعية والرأسمالية، أو ما بين الهيمنة المتشتتة والديموقراطية. عهد لويس الرابع عشر وبسمارك من أمثلة التاريخ.

الدولة التسلطية نموذجها دول أمريكا اللاتينية، حيث يتسلط حاكم باسم الشعب ويوزع التسلط هرمياً، معتمداً على قوانين يسنّها أو يتخطاها. وتسود الاقتصاد والمجتمع نزعة الأوامر والتوجيهات و«القرار السياسي» كلّي القدرة على خرق المنطق.

الدولة الشمولية نموذجها موسوليني وهتلر والاتحاد السوفييتي، حيث يندمج الكل في الدولة ولا يبقى ما هو ضدّها على تعبير موسوليني، ويتحقق الأمر عن طريق الحزب الواحد المتضخّم، الذي قد يتحول إلى ميليشيا أحياناً، وعن طريق «المنظمات الشعبية» التي تنظم الجميع تحت السيطرة التي تتجسّد في أفراد وأجهزة خفية واسعة النفوذ.

نحن «نعتز» بأن لدينا شيئاً من جميع هذه «الدول»، وليس لدينا شيء واحد حتى نهايته.

نختصر المسألة اعتبارياً بأن نقول إنها: الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وهذا في علم الاجتماع، أقلّ التعبيرات المحتملة هجاءاً. بل يمكن أن يكون فيه بعض القبول لمرحلة طبيعية في تاريخ الدول (الاستبداد)، انتهى مفعولها منذ زمن.. وهذا أيضاً كلام يحمل النسبية في تعبيره عن الحقيقة.

النظام بتركيبته يُحمَل من قبل مؤيديه على إيديولوجيا «المستبد العادل» في الممارسة العملية. ليكن الاختلاف على مفهوم العدل إذن.

هنالك احتمال بأن يتم التغيير على الطريقة الرابعة، وربما كان الناس أغلبُهم يفضلونَها، عن تعب وإرهاق وطول نَصَبٍ على الأقل. وهنالك نقاط خمس للنقاش كما أرى:

أولها «ردّ المظالم إلى أهلها» أو «البحث عن الحقيقة والعدالة»: هذا يتضمن اتخاذ إجراءات إعادة الثقة والأمان، بما فيها الاعتذار إلى الفئات والأفراد الذين مورس ضدهم أو ضد ذويهم الإرهاب والسجن والقتل والتشريد. ويتضمن أيضاً الإفراج عن جميع السجناء السياسيين والكفُّ عن ملاحقة الملاحقين والسماح بعودة المنفيين طوعاً أو قسراً إلى وطنهم وإلى وظائفهم، والكشفُ عن المفقودين والتعويضُ لذويهم، وإلغاءُ حالةِ الطوارئ والقوانينُ والمحاكمِ الاستثنائية والحرمانِ من الحقوق المدنية والمنع من السفر. وإعادةُ الأموال المنقولة وغير المنقولة، المصادرةِ والمنهوبةِ والتعويضُ عن الخسائر والأضرار التي لحقت بأصحابها. وإعادةُ الأجهزة الأمنية إلى مهامها الوطنية والقانونية وإنهاءُ تسلّطها على العباد وتطهيرها من المجرمين والفاسدين، واستصدارُ القوانين الصريحةِ بوقف التعذيب وكل أشكال الإكراه المادي والمعنوي وتحديد عقوباتٍ صارمةٍ بحق كل من يرتكب مثل تلك الجرائم، والانطلاق بحرية الرأي والتعبير في مسارٍ طبيعي.

وثانيها البحث في أُسس الحوار وعناصره والمشاركين به من جميع المهتمين بالشأن العام من معارضين وموالين ومثقفين جميعاً. والبدء في تمرينات على الحوار لا تهدف إلى الاحتواء أو الانتهاز أو المماراة أو التقية أو غير ذلك، بل تمريناتٌ عصريةٌ ومكشوفةٌ وعلنية وجريئة من دون اللجوء إلى الأسلحة الخفيةِ أو المناورات السلطوية أو المعارضة.

وثالثها الاستقرارُ على مبدأ المصالحة الوطنية طريقاً للخروج من حالة التخندق والتلطّي والنوايا السيئة. هذه المصالحةُ مطلوبةٌ ما بين الشعب وأهل النظام، وما بين السلطة والمعارضة بأشكالها، وهي تحتاج إلى الثقةِ التي لا يمكن بناؤُها إلاّ بخطى ملموسةٍ تتعزّزُ من خلالها ميولُ التسويةِ وتتراجع ميولُ العداء والخوفِ والثأرِ.

ورابعها الاعتراف المتبادل بالجميع من قبل الجميع. ولتتقدم القوى كلّها نحو دائرة الفعل وإرادة التغيير. ليحاول حزب البعث إصلاحَ نفسه وقوى الجبهة المختلفة وفصائلُ التجمعِ الوطني الديموقراطي والحركات الإسلاميةُ وغيرها من القوى التي سوف تتبلور وتنتظم حتماً (هي أو بدائلها) ما دام المجتمع بحاجة إليها. التغيير التاريخي المطلوب بحاجةٍ إلى ما يُمكن أن يكوّنَ كتلةً تاريخيةً.

وخامسها صياغة برنامج التغيير الوطني الديمقراطي من حيث بنيته وترتيبه وتزمينه، ومن حيث توافُقه مع الحاجة الموضوعية والمعاصرة والمصلحة الوطنية. ولا يختلف أحد كما أظن على التدرّج في تطبيقه، فحتى أكثر البلدان ديمقراطية تقول إنها لم تصل ولن تصل إلى الديموقراطية الحقيقية والمتكاملة، ولكنها تحلم وتبحث وتُطوّر بها دائماً. فبعد أن تتحقق «الكلمة السواء»، وتنبعث الثقة من خلال تبييض السجون وإنهاء حالة الطوارئ وابتعاد الأجهزة الأمنية عن حياة الناس، يمكن الدخول في مرحلة انتقالية تتطور بها الحريات وتنتظم الاختلافات في الإطار الوطني، وتنتعش الحياة الحزبية والجمعيات الأهلية بشكلٍ حرٍّ وشرعي، وتعود الصحافة الحرة، ويسود القانون، وتزدهر المواطنية.. حتى الوصول إلى نظامٍ وطني ديمقراطي يقوم على دستور حديث يضمن للبلاد ألاّ يقطع الاستبداد طريقها إلى المستقبل.

نحن ندعم الإصلاح، أو أية خطوة إصلاحية. ولكن دعمنا هذا لا يكفي وحده لضمان مسيرة الإصلاح وجدّيتها، ما لم يدعم أهل الإصلاح أنفسهم، وما دام خصومه قادرين وحدهم على تنظيم صفوفهم وإفشال أية خطوة إلى أمام. نحن ندعم الإصلاح ما دام نيّةً حقيقية وأفعالاً على الأرض.

غير ذلك، التغيير قادم لا محالة. ولن يرحم التاريخ من يقف في طريقه، أو يتردّد في سلوك دربه. فإذا كان هذا صحيحاً .. لماذا لا نعمل على تخفيف آلام شعبنا، فقد اكتوى الشعب بالألم إلى درجة لم تعد تُطاق وأصبحوا يتوقون إلى مستقبل مفعم بالحرية والكرامة والأمن.