في العام 1994، وقبل وفاته بأربعة أعوام، أعلن نزار قباني المُعتزُّ بعروبته سابقاً عن موت العروبة في قصيدة كانت صادمة للقوميين العرب في تلك الفترة: «متى يعلنون وفاة العرب؟»، مُعلناً أيضاً عن انقشاع الصورة وتبدُّد الوهم القومي: «أنا منذ خمسين عاماً/ أحاول رسم بلادٍ/ تُسمى مجازاً بلاد العرب…».

بعدها بخمس سنوات، وعلى صعيدٍ ومستوىً آخرين، نشر الكاتب اللبناني حازم صاغية كتابه المثير للجدل وداع العروبة، مُعلِناً أن هذا الميت «لم يودَّع ولم يؤبَّن»، مُرجِعاً ذلك إلى «أن أهل الفقيد ربما كانوا لا يزالون ينتظرون انبعاثاً ما، فلا يتقبّلون التعازي بفقيدهم».

يُفنّد صاغيّة في كتابه المقومات التي قامت على أساسها فكرة القومية العربية، والعروبة بشكلها العام، ويرى أنها فكرة نظرية يُدير مُنظِّروها ظهورهم للواقع السياسي والجغرافي للمنطقة التي يُفترض أن تكون دولة واحدة، ويرى أن الطامّة الكبرى هي «أن هذه الوحدة أنجبت سلوكاً ذرائعياً لا يزال معمولاً به في اللحظات الحرجة، أو لنقل لحظات الانتهازية والمواربة، داهمة كانت أو مخططاً لها».

الكتاب قراءة مُكثّفة في التاريخ، وتحليلٌ دقيق للواقع العربي إن جاز التعبير، ولا يمكن بطبيعة الحال أن نمرّ على جميع أفكار هذا التكثيف، والذي يمكن للقارئ أن يجد فيه استقراءاً كبيراً للمستقبل -الحاضر الآن- من خلال فهم الكثير من الأحداث حتى يومنا هذا. والحال أن الكتاب كما يذكر كاتبه ليس «طعناً في جثة، لأن المطلوب وداع الميت والاعتراف الصريح بموته».

نفي الدولة وتوطيد الفائض السلطوي

رغم أن دولة القانون والمؤسسات التي تحفظ حقوق مواطنيها وواجباتهم تجاهها، وتسعى إلى تطوير مجتمعاتها بالتعليم والخدمات والصحة، هي مُكوِّن حديث في العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية والثقافية، فإن «العروبة السياسية» تنظر «إلى الدولة بصفتها ثمرة تجزئة استعمارية لا أكثر ولا أقل»، وترى أنها «اضطرار سخيف واصطناعي أملته الظروف الخارجة عن اليد»، بل وتتعامى عن رؤية أن «الأكثرية الساحقة لدول كوكبنا ’اصطناعية‘ شرعت نشأتها تتوالى حتى اليوم»، ولا يبدو بأن هذه الدول ذاهبة باتجاه التجمّع بل في الاتجاه المناقض، وهو الازدياد والتفتُّت.

إن النظرة الطوباوية للواقع، الخارجة عن سياق التاريخ والواقعية التاريخية، واعتبار الدولة نتاجاً استعمارياً، أمورٌ أدّت إلى إهمال دور الدولة كبناء عصري قائم بحد ذاته، وأدّت إلى «تعزيز سلطة الدولة، وليس تعزيز الدولة»، وبهذا المعنى «أسهمت التصورات النافية للدولة في جعل الأخيرة فائضة سلطوياً» كما يقول صاغية. هذا الواقع السلطوي الذي فنّده الكاتب بدقّة ينطبق أكثر ما ينطبق على الدول التي وصل فيها القوميون إلى السلطة، كالعراق وسوريا ومصر الناصرية سابقاً على وجه الخصوص، واليمن وليبيا بشكل أعم، وهذا لا ينفي وجوده في الدول الراديكالية الأخرى والدول «الاشتراكية»، كدول الخليج والسودان والجزائر وتونس. «ومع اتضاح الاستحالة العملية لقيام الوحدة» وتحوُّلها إلى «نص معياري»، أصبح الخارج عن هذا النص كافراً وربما مُخرِّباً خارجاً عن «الطبيعة».

قد يكون ما عاناه السوريون والعراقيون بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في بلادهم أفضل صورة لأبشع استبداد، وهو مستمر سوريّاً إلى يومنا هذا، حيث جمعت هذه السلطوية الفائضة «أسوأ الاستبداد الشرقي إلى أسوأ الاستبداد الحديث» بحسب صاغية. فقد اختُصِرَت الدولة بالحزب الواحد، وتم القضاء على الحياة السياسية في البلاد، وجُعِلَت جميع الأحزاب التي قدَّمت الطاعة تدور في فلك البعث، ومن ثم تمّ اختصارُ الحزب في شخص واحد وتقديسه واعتباره مُخلِّصَ الأمة والخالد الذي لا يموت، وأي خروج عن عباءته يُودي إلى التهلكة وفي أحسن الأحوال إلى غياهب السجون، والتّهم جاهزة ولا تخرج عن النص القومي، كزعزعة استقرار الأمة والتسبب في وهنها وإضعاف عزيمتها والنيل من هيبتها. ولاحقاً تم ربط الاقتصاد بالسلطة ومن ثم العائلة، وتمت «تقوية الجيش وتعزيز المخابرات، فضلاً عن توسيع القطاع العام الذي يمسك بخناق الحياة الاقتصادية للمجتمع بأسره. وبفعلها المُركَّب هذا غدت السلطة البيروقراطية الحاكمة تقتطع نسباً مرتفعة من إجمالي الناتج القومي للبلد». كل هذه الأسباب مجتمعة، وغيرها، وصلت بالحالة السورية إلى ما وصلت إليه اليوم.

استطاع حازم صاغية توصيف مرحلة سابقة ولاحقة لكتابه في آن معاً، وأي قارئ عربي -إن جاز التعبير- يستطيع إسقاط بعض أفكار الكتاب على بلده إلى درجة ما، كأن تقرأ مثلاً: «أضحت الدولة الأخطبوطية ربَّ العمل الأساسي في المجتمع، وغدت إطاحة سلطتها بمثابة تهديد مُوجَّه إلى قطاع سكاني ضخم باحتمالات تترجح بين الإخضاع والإفناء. والقطاع هذا في أغلب الحالات أهليٌ وعصبيٌ يشارك المجموعة الحاكمة الانتماء إلى دين أو مذهب أو منطقة ما». بل ويذهب المؤلف أبعد من ذلك في توصيفه وتحليله وصولاً إلى الاحتمالات الأكثر سوءاً: «إن الأنظمة، بربطها المغلق والمُحكَم بين السياسة والاقتصاد و’الأهل‘ كما بينها وبين المجتمع، أَزَّمَتْ مسألة الشرعية الدستورية، المأزومة أساساً في تجربتنا التاريخية، جاعلة كل تغيير، ولو طفيف، بمثابة مشروع حرب أهلية تفتيتية لا ينفع معها كل تحذير تقليدي وديني من الفتنة». هذا تماماً ما جرى عندما بدأت الثورة في سوريا عام 2011، فقد لعبَ النظام السوري على الوتر الطائفي، وصوَّرَ الأمر تهديداً لطائفة، بل ووسَّعَ الدائرة ليصبح تهديداً لجميع الأقليات، لتُصبح الثورة «انتصاراً لأحد العصبيات على الأخرى»، وجرَّ البلاد لحرب أهلية دَمَّرتها بحيث قد لا تقوم قائمة لها لعقود لاحقة.

إن ما حدث في العراق 2003، وليبيا وسوريا واليمن بعد عام 2011، ينطبق تماماً مع رؤية الكاتب للدولة القومية أو الكيانات الناشئة على أساس قومي، حيث أن «الدولة – الكيانات الناشئة، أضحت إطارات لتوازنات سُكّانية هي في الغالب عصبية وحساسة، ما إن تتعرض هذه التوازنات لخطر الغلبة والاستقواء بالخارج يمارسه أحد عناصرها، حتى تختل برمتها»، ويتابع: «قد يتسبب بالاختلال المذكور الحدود الوطنية التي تنظم التوازن المعمول به داخل الكيان – الدولة، وفي الحالات جميعاً، وكما تدلّ تجارب لا حصر لها، تكون النتيجة تفتيتاً للدولة القائمة بدل تجميعها وتجميع مثيلاتها في كل أكبر».

فلسطين ووداع العروبة

لطالما كانت القضية الفلسطينية «رافعة لوحدة العرب وتوحُّدهم» بحسب الفكر القومي العربي، وراح القوميون أبعد من ذلك ليعتبروا أن الوحدة العربية شرط لتحرير فلسطين.

ولكن بحسب صاغية فإنه «مع ضمور دور مصر القومي وضمور الأحزاب القومية، ضمرت أيضاً القضية الفلسطينية كقضية قومية ومركزية تجمع بين العرب جميعاً»، وتجسّدَ ذلك تحديداً بعد هزيمة حزيران 1967 التي نتجَت عنها انقسامات على الساحة العربية وصراعات بين الأنظمة والحركات القومية العربية، وبات مفهوم «العدو المشترك» الذي شكَّلَ «أحد المقومات الأساسية المُفترضة للوحدة العربية» لا يتعدى «المستوى اللفظي دون العملي غالباً». وبعد أن كان مصطلح «البُعد القومي» للقضية الفلسطينية يفرض نفسه في كل أدبيات الأنظمة العربية على المستوى الرسمي والشعبي نوعاً ما، بدأ بالانحسار بعد هزيمة 67 وبعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ولاحقاً اتفاق أوسلو، وبدأت كل دولة تتفرّد في مُباهاتها بدعم القضية الفلسطينية، وبالتالي «كفت قضية فلسطين عن تشكيل موضوع جامع، غير أن ما هو أبعد أن الزمن الراهن غدا يستحيل معه بناء مشروع سياسي وحدوي انطلاقاً من العدو المشترك».

ولكن أسوأ نتاجات القضية الفلسطينية هو حكم العسكر الرافض للديمقراطية، وتَشكُّل كيانات حزبية إسلامية مرتبطة بأجندات خارجية بذريعة فلسطين وتحريرها، قضت على كل فعل مقاوم حقيقي لإسرائيل في المنطقة؛ «على أن ما انقشع بما يكفي من الجلاء في السنوات الأخيرة، عاش طويلاً مغطىً بالأوهام والتزييف الإيديولوجي البحت».

ما يزال النظام السوري يستخدم هذه اللعبة المكشوفة، رغم وعي غالبية الناس بكونها ليست أكثر من تمثيلية وشمّاعة يُعلِّق عليها سلطويته المفرطة، فهو لا يترك فرصة إلا ويُذكِّر فيها بأن ردع العدو المتربص بالأمة أَخَّرَ عملية التنمية والنهوض بالمجتمع والدولة، بل ويذهب النظام إلى تخوين من يثور ضده، ويربطه بالعدو الذي يستهدف نهجه المقاوم.

كيف يرى صاغية كتابه اليوم؟

بالإضافة إلى راهنية أفكار كثيرة في وداع العروبة، وأثناء كتابة هذا المقال، طرحَ كاتبه على المؤلف السؤال التالي: «كيف يرى صاغية كتابه اليوم بعد حوالي ربع قرن على صدوره؟ وكيف يفسّر التشابه في مقدمات الثورات العربية وشعاراتها واندلاعها تقريباً في وقت واحد ومآلاتها في البلدان التي قامت فيها؟».

يجيب حازم صاغية: «الكتاب هو مجموعة مقالات صحافيّة باتت قديمة ولم أُراجعها منذ ذلك الحين، لكنّني أظنّ أنّها لحظَتْ في وقت مبكر نسبيّاً بعض تيّارات واقعنا وتوجّهاته، وضرورة إعلان وفاة هذه العروبة كشرط من شروط كثيرة لمهمّة بناء الأوطان والوطنيّات الناشئة، والتي يتعثّر بناؤها لأسباب في عدادها عدم إعلاننا موت العروبة. لا شكّ أنّ طريقة الحكم الطغيانيّ، ولو بتفاوت، مُشتركة بين النُظم العربيّة، والطغيان، في شكله الأداتيّ الحديث، أقوى ما يكون بين الأنظمة التي عرفت انقلابات عسكريّة وأنظمة أمنيّة وقطيعة أيديولوجيّة مع الغرب وحكماً للحزب الواحد، ولهذا فإنّ الثورات استهدفت على نحو خاصّ، وإن لم يكن استثنائيّاً، هذه الأنظمة. لكنّ هذا لا علاقة له بالعروبة والوحدة العربيّة، بل هو أشبه بما حصل مع انهيار المعسكر الاشتراكيّ خلال  1989-1990، حيث تشاركت دول كثيرة في عمل واحد من أجل أن تتفرّق وتتخلّص من ذاك التشابه القسريّ، والشيء نفسه صحّ في انهيار الامبراطوريّات، لا سيّما الامبراطوريّة العثمانيّة، التي تمرّدت عليها شعوب كثيرة في وقت واحد لكي تتفرّق لاحقاً وتتبع كلّ منها قوميّتها أو وطنيّتها أو سوى ذلك».

خُلاصة

كيف لهذه الكتلة البشرية بكل تناقضاتها، ونزعاتها القَبَلية، والطائفية، والإثنية، والمستمرة حتى اليوم، ومع ارتفاع نسبة الأمية فيها، كما أورد الكاتب، حيث  «نشرت الصحف في 8 حزيران 1997 نتائج دراسة أصدرتها ’منظمة العمل العربية‘، جاء فيها أن نصف السكان في العالم العربي من الأميين»؛ كيف لها أن تبني دولة عربية واحدة؟ لم يحدث هذا تاريخياً ومن العبث المراهنة على حدوثه اليوم، «فعلى عكس ما يقوله الوحدويون، إننا لم ننتقل من دولة عربية واحدة كانت قائمة في  ’طبيعية‘ ما إلى واقع التجزئة والتفتُّت الراهن ممّا أنشأه الاستعمار»، بحسب كاتب وداع العروبة الذي يقول أيضاً «إن الوطنيات السلطوية كانت هي العروبة بعد إحباطها وعدم تَحقُّقها».