ملاحظة المحرر-ة:
يورغن هابرماس وآصف بيّات مُفكّران عالميّان بارزان، تُرجمت أعمالهما إلى لغات عديدة، ويدرسها طلاب الجامعات في جميع أنحاء العالم. هابرماس جزء من مدرسة فرانكفورت الشهيرة، التي ضمّت في النصف الأول من القرن العشرين ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر وهربرت ماركيوز. اشتهر هابرماس بمفهومه عن «المجال العام»، المساحة التي يجتمع فيها المواطنون والمواطنات للمناقشة وتشكيل ما يُعرَف بـ«الرأي العام»، والتي يعود أصلها إلى المقاهي والصالونات الأدبية في أوروبا القرن الثامن عشر؛ كما عُرِفَ بدفاعه عن الديمقراطية الليبرالية ضد منتقديها من اليمين واليسار. هابرماس ليس غريباً عن التحدي الذي يطرحه بيّات في هذه الرسالة المفتوحة؛ بل إن مناظراته العامة ومعاركه الفكرية التي استمرت لعقود جعلت منه اسماً معروفاً في ألمانيا.
بيّات أستاذ علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط، اشتهر بمفهومه عن «ما بعد الإسلاموية» ودراساته المُتقنة حول سياسات الشارع والحياة اليومية وكيف يُغيّر الناس العاديون شكل الشرق الأوسط (هذا هو العنوان الفرعي لكتابه الصادر في 2013 بعنوان «الحياة كسياسة»). تعرَّضَ هابرماس لانتقادات واسعة بسبب تصريحاته الأخيرة بشأن الحرب في غزة، ولكن ما يُميّزُ هذه الرسالة المفتوحة هو نقدها الجوّاني، فبيّات يسعى، انطلاقاً من المنطق الهابرماسي نفسه، إلى إظهار فشل هابرماس في تطبيق أفكاره على إسرائيل وفلسطين. ذلك ما يمنح الرسالة قوةً من شأنها أن تجد صدىً لدى هابرماس والمدافعين عنه. إنها دعوة أكثر منها جدال. إنها محاولة للتفاعل، ونحن ننشرها هنا على أمل أن يتحقق ذلك.
عزيزي الأستاذ هابرماس،
ربما لا تَذكُرني، لكننا التقينا في مصر في مارس (آذار) 1998. كنتَ قد أتيتَ إلى الجامعة الأميركية في القاهرة كأستاذ زائر مُتميّز للتواصل مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب والجمهور، وكان الجميع متحمسين لسماعك. كانت أفكارك حول المجال العام، والحوار العقلاني، والحياة الديمقراطية مثل نسمة هواء نقي في وقت كان فيه الإسلاميون والمستبدون في الشرق الأوسط يخنقون حرية التعبير تحت ستار «حماية الإسلام». أذكر محادثة ممتعة أجريناها حول إيران والسياسة الدينية على العشاء في منزل أحد الزملاء. حاولتُ أن أنقل لك تَصوُّري عن ظهور مجتمع «ما بعد إسلاموي» في إيران، وهو ما بدا أنَّك شهدته لاحقاً خلال رحلتك إلى طهران في 2002، قبل أن تتحدث عن ظهور مجتمع «ما بعد علماني» في أوروبا. لقد رأينا في القاهرة في مفاهيمك الأساسية إمكانات هائلة لتعزيز المجال العام العابر للحدود، وتوطيد الحوارات بين الثقافات، وأخذنا على محمل الجد جوهر فلسفتك التواصلية حول كيفية الوصول إلى الحقيقة-الإجماع عبر النقاش الحر.
والآن، بعد مرور نحو 25 عاماً، في برلين، قرأت بيانك الذي شاركتَ في تأليفه بعنوان «مبادئ التضامن» بشأن الحرب في غزة، بقدر كبير من القلق والانزعاج. إن روح البيان تحمل في طيّاتها توبيخاً عاماً لكل من يتحدَّث علناً في ألمانيا، سواء من خلال التصريحات أو الاحتجاجات، ضد القصف الإسرائيلي المتواصل على غزة رداً على الهجمات المروعة التي شنَّتها حماس في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويرفض البيان ضمناً كل انتقاد موجَّه إلى إسرائيل، لأن دعم دولة إسرائيل جزءٌ لا يتجزأ من الثقافة السياسية الألمانية «التي تعتبر أن لليهود وإسرائيل حقٌ في الحياة والوجود، وهما عنصران أساسيان يستحقان حماية خاصة منا». إن مبدأ «الحماية الخاصة» مُتجذّر في تاريخ ألمانيا الاستثنائي وفي «جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبت خلال الحقبة النازية».
مثيرٌ للإعجاب إصرارك، أنت والطبقة السياسية الفكرية في بلادك، على إدامة ذكرى ذلك الرعب التاريخي لكي لا تقع أهوالٌ مماثلة بحق اليهود (وأفترضُ، بل وآملُ، بحق شعوب أخرى كذلك). لكن صياغتك للاستثناء الألماني وتركيزك عليه لا يترك أي مجال للحديث عن سياسات إسرائيل وحقوق الفلسطينيين. وخلطُك للانتقادات الموجهة إلى «تصرفات إسرائيل» مع «ردود الفعل المعادية للسامية»، يُشجّع على الصمت ويخنق النقاش.
لقد ذُهلتُ، بصفتي أكاديمياً، عندما علمتُ أن الجميع في الجامعات الألمانية – حتى داخل القاعات الدراسية التي ينبغي أن تكون مساحات حرّة للمناقشة والاستفسار – يلزمون الصمت عندما يتطرق الحديث إلى فلسطين؛ وأن الصحف والإذاعات والتلفزيون تكاد تخلو تماماً من أي نقاش مفتوح وهادف حول هذا الموضوع. بل إن عشرات من الناس، بمن فيهم يهود، قد عُزِلوا من مناصبهم، وأُلغيَتْ فعالياتهم أو جوائزهم، واتُّهموا بمعاداة السامية، بسبب دعوتهم إلى وقف إطلاق النار. كيف يتداول الناس ما هو صواب وخطأ إذا لم يُسمَح لهم بالتحدُّث بحرية؟ ماذا حصل لأفكارك الشهيرة حول «المجال العام» و«الحوار العقلاني» و«الديمقراطية التداولية»؟
إن معظم المنتقدين والمحتجّين الذين تتوجه إليهم بالتوبيخ لا يُشكّكون على الإطلاق بمبدأ حماية اليهود – وأرجو ألّا تخلط بين هؤلاء النقاد العقلانيين لسياسات الحكومة الإسرائيلية، والنازيين الجدد اليمينيين أو معادي السامية الذين يجب إدانتهم بشدة – بل إن كلَّ بيان قرأتُه تقريباً يُدين الفظائع التي ارتكبتها حماس بحق المدنيين في إسرائيل ومعاداة السامية. لا يُشكِّكُ هؤلاء النقاد في ضرورة حماية اليهود أو حق إسرائيل في الوجود، إنما يعترضون على إنكار حياة الفلسطينيين وحق فلسطين في الوجود. هذه الجزئية تمرُّ عليها تصريحاتك بصمتٍ مأساوي.
لا توجد في بيان «مبادئ التضامن» إشارة واحدة إلى إسرائيل كقوة محتلة أو إلى غزّة كسجن مفتوح، لا شيء حول هذا التفاوت الصارخ. ناهيك عن ذكر المحو اليومي لحياة الفلسطينيين والفلسطينيات في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. إن «تصرفات إسرائيل»، التي اعتبرتَها «مُبرَّرة من حيث المبدأ»، اشتملت على إسقاط 6000 قنبلة خلال ستة أيام، على سكان عزَّل؛ وقع إثرها أكثر من 15 ألف قتيل (70% منهم من النساء والأطفال)، و35 ألف جريح، و7 آلاف مفقود، و1.7 مليون نازح، هذا عدا عن الحرمان من الغذاء والماء والسكن والكرامة. لقد اختفت البنى التحتية للحياة في غزة.
قد لا يرقى كل ذلك، حسبما يوحي بيانك، إلى «نية الإبادة الجماعية»، إلّا أن مسؤولي الأمم المتحدة تحدثوا بعبارات لا لبس فيها عن وقوع «جرائم حرب» وعمليات «تهجير قسري» و«تطهير عرقي». ما يُقلقني هنا ليس كيفية الحكم على «تصرفات إسرائيل» من منظور قانوني، بل محاولة فهم هذا البرود الأخلاقي، واللامبالاة التي تُظهِرُها في مواجهة هذا الدمار الهائل. كم إنساناً ينبغي أن يموت قبل أن تصبح القضية جديرة بالاهتمام برأيك؟ وما هو معنى «الالتزام باحترام الكرامة الإنسانية» الذي يؤكده بيانك في النهاية؟ إنك كمن يخشى أن يؤدي الحديث عن معاناة الفلسطينيين إلى التقليل من الالتزام الأخلاقي بحياة اليهود. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فكم من المأساوي أن يرتبط تصحيح خطأ جسيم ارتُكِبَ في الماضي باستدامة خطأ جسيم يُرتَكَبُ في الحاضر.
أخشى أن يعود عطب البوصلة الأخلاقية هذا إلى منطق الاستثناء الألماني الذي تؤيِّده. فالاستثناء، من حيث المبدأ، لا يسمح بوجود معيار كوني واحد، بل ينطوي على وجود عدّة معايير مُتفاضلة. بذلك يصبح بعض الناس أكثر استحقاقاً، وبعضهم الآخر أقلَّ استحقاقاً، وبعضهم الآخر عديمي الاستحقاق تماماً. هذا المنطق يُوقِفُ الحوار العقلاني، ويُضعِفُ الوعي الأخلاقي، فهو يبني عائقاً معرفياً يمنعنا من إدراك معاناة الآخرين، ويَحولُ دون تعاطفنا معهم.
لا يخضع الجميع لهذا العائق المعرفي والخَدَر الأخلاقي. وحسبما أرى، فإن الكثير من الشباب الألمان يُعبِّرون سرّاً عن وجهات نظر حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، تختلف جذرياً عن آراء الطبقة السياسية في البلاد، بل إنَّ البعض يشاركون في احتجاجات عامة. جيلُ الشباب يطَّلع على وسائل إعلام ومصادر معرفة بديلة؛ وعملياته المعرفية تختلف عن مثيلتها لدى الجيل الأكبر منه. لكن معظمهم يلتزمون الصمت في المجال العام خوفاً من الردّ العقابي.
يبدو لي وكأنَّ «مجالاً خفيّاً» قد بدأ ينشأ في ألمانيا الديمقراطية على سبيل المفارقة، مثلما حصل في أوروبا الشرقية قبل 1989 أو ما يزال يحصل في الشرق الأوسط اليوم. فعندما يؤدي الترهيب إلى إعاقة التعبير العام، يميلُ الناس إلى صياغة رواياتهم البديلة حول القضايا الاجتماعية الرئيسية في السرّ، رغم تماشيهم مع وجهات النظر المقبولة في العلن. مثل هذا المجال الخفي عُرضةٌ للانفجار في أي وقت.
هذه أوقات عصيبة يا أستاذ هابرماس. في مثل هذه الأوقات بالذات، نحتاج إلى الحكمة والمعرفة، وفوق كل ذلك، إلى الشجاعة الأخلاقية لدى المفكّرين أمثالك. إن أفكارك الرائدة حول الحقيقة والعمل التواصلي، والعالمية، والمواطنة المتساوية، والديمقراطية التداولية، والكرامة الإنسانية، ما تزال في غاية الأهمية. ولكن مركزيتك الأوروبية، ومفهوم الاستثناء الألماني الذي تؤيده، وإغلاق النقاش الحرّ حول إسرائيل وفلسطين الذي تساهم شخصياً فيه، يبدو متعارضاً مع هذه الأفكار.
أخشى أنَّ المعرفة والوعي قد لا تكونان كافيتَين، فكيف للمثقف – تساءل أنطونيو غرامشي – أن «يعرف» دون أن «يفهم»، وأن يفهم من دون أن «يشعر»؟ فقط عندما «نشعر» بمعاناة بعضنا البعض، من خلال التعاطف، قد يوجد أملٌ في عالمنا المضطرب.
لنتأمّل كلمات الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي:
الناس كالأعضاء في التساند
لخلقهم كُنهٌ من طين واحدإذا اشتكى عضو تداعى للسهر
بقية الأعضاء حتى يستقرإنْ لَم تُغَمَّ لمصاب الناس
فلست إنساناً بذا القياسمع فائق الاحترام،
آصف بيّات
8 ديسمبر (كانون الأول) 2023