ينشر موقع الجمهورية نت في جزأين هذه الورقة البحثية التي أُنجزت ضمن عقد من الفنون: إصدار خاص من برنامج أبحاث لتعميق ثقافة المعرفة، عن مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة. تم إنهاء البحث في شهر حزيران من هذا العام 2023.
«من الأمور المهمة جداً التي أوصلتنا إليها الدروب المتقاطعة بين كل هذه المؤسسات (الثقافية) هو مفهوم التشارك. نرى الآن الكثير من المؤسسات أو المبادرات التي تحاول أن تُشبِّك، التي تحاول أن تُشارك، التي تحاول أن تنتج شيئاً مشتركاً (…)، وأنا أظن أن هذه خطوة جديدة في مواطنية المبادرات الثقافية عندما تحقق مبدأ التشارك، وهو أحد أهم مبادئ المواطنة من خلال العمل. لماذا هو ضرورة؟ لأن كل فكرة أحادية أو كل مقاربة أحادية للمجتمع هي خاطئة، هذا ما علَّمنا إياه التاريخ. يجب أن تكون المقاربات من زوايا مختلفة ومتنوعة. المؤسسات والمبادرات المشاركة في الفعل الفني أو في الفعل الثقافي لديها نظرتها المختلفة ويجب أن تتقاطع. (…) لم تعد المبادرة أو المؤسسة قادرة لوحدها على تغطية الهدف أو المشروع الذي وضعته في رأسها، إنها بحاجة لكي تتعامل وتتضافر وتتضامن، علماً أني لا أحب كلمة تضامن لأن التضامن هو قيمة بينما أتكلَّم عن الفعل: التشارك، أن تتشارك مع بعضها كي تُنتج شيئاً مشتركاً. (…) نحن ذاهبون باتجاه المزيد من الحرية، باتجاه الديمقراطية، باتجاه حقوق الإنسان. هذا ما يجب أن يكون عليه العمل في الثقافة، لأن هذا هو الهدف من الثقافة. لكن ما هو الدرب؟ الدرب يكون بالاقدام ونحن نتقدَّم في هذا الدرب نتطلَّع إلى الآخرين. بمعنى أننا لن نستطيع أن نتقدم لوحدنا وإن تقدمنا لوحدنا تتشعَّب الطرق وربما نبتعد عن الهدف. أن نتضامن أكثر، يعني أن نتشارك أكثر للوصول إلى الهدف».
حسان عباس (على سبيل المستقبل، 2020)
«في المرة القادمة التي ستشهد فيها سوريا انتفاضة شعبية، نأمل أن يساعد عملنا على التخفيف من لامبالاة العالم… حتى لا تُترَك سوريا وحيدة مرة أخرى كما حصل منذ عام 2011».
المائدة السورية في مونتروي (التنظيم في المنفى: كيف يمكن للاجئين مواصلة النضال الثوري في أراضٍ أجنبية؟، 2022)
«هل حقاً لا يحتاج الألماني أو الألمانية إلى وقوفنا إلى جانبه-ا وصداقتنا له-ا؟ أفترض أن التضامن بالذات يُظهر هذا الاحتياج، وإن في صورة علاقة قوة غير متكافئة لا تسمح له بالذهاب أبعد. نقد التضامن يتطلَّع إلى علاقات معافاة، مبرأة من القوة، علاقات شراكة قائمة على المساواة والندية والعالمية».
ياسين الحاج صالح (في نقد التضامن، 2018)
عندما يتداخل الشخصي بالعام: السردية السورية المعاصرة داخل السياق الفرنسي
منذ الانتداب الفرنسي على سوريا (1920-1946) حتى إغلاق السفارة الفرنسية في دمشق عام 2012، أُغلقت السفارة الفرنسية في دمشق بقرار من الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في السادس من آذار (مارس) 2012. نشأت بين البلدين علاقات عميقة ومعقَّدة تجد جذورها في تيارات الاستشراق التي عرفت أوجها في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. علاقات كان يمكن أن تجعل من فرنسا المكان الأكثر قابلية لاستقبال الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين، إلاَّ أن ذلك لم يحدث، أو على الأصح أنه بدأ مع اندلاع الحراك الشعبي عام 2011 ثم انقطع أو انزلق نحو شيء آخر. توزَّع الفنانون والفاعلون الثقافيون السوريون من الوافدين الجُدد بين باريس وغيرها من المدن الفرنسية، غالباً لأسباب إدارية واقتصادية بحتة. تركَّز عمل الكثير منهم خارج فرنسا أو في المساحات المُخصصة لقضايا اللجوء والمنفى. تعذَّر على الحكاية السورية أن تجد مكانها في فضاءات العرض الفرنسية على الرغم من عقود من التواجد الفرنسي في سوريا، وكأن الفرنسيين يتعرَّفون على السوريين للمرة الأولى. بالمقابل، ظهر عدد من المبادرات الجماعية التي استعانت بالفن والثقافة للإخبار عمَّا يجري في سوريا، عبر سرديات ووسائط تتجاوز الخطاب السياسي الصرف بُغية توسيع نطاق التواصل مع شرائح مختلفة من المجتمع الفرنسي. أرادت هذه المبادرات منذ ظهورها، ومع مختلف التحولات التي طرأت عليها خلال العقد الأخير، إبراز الطابع الإنساني لما يعيشه السوريون داخل وخارج بلدهم، وحث العالم على النظر إليهم بعيداً عن الرؤية الاستشراقية أو حتى الكوارثية السائدة والتي راحت في الكثير من الأحيان تحصر صورة الإنسان السوري في موقع القاتل أو المَقتول أو اللاجئ أو الضحية. أمام ما اعتبره الكثيرون عجزاً وفراغاً في الخطاب السياسي حول المسألة السورية على المستوى الدولي، بدا الخطاب الذي تنتجه الفنون ربما أكثر قدرة على حشد الرأي العام وخلق قنوات تواصل بين المجتمع الفرنسي وحقيقة ما حدث وما يستمر بالحدوث في سوريا، إضافة إلى سعي هذه المبادرات إلى إبقاء الروابط بين مختلف عناصر الشتات السوري المعاصر أثناء تشكُّله ومع تجذُّره في أراضٍ جديدة وغريبة.
من المؤكد أن هذا النوع من المبادرات الجماعية التي لجأت إلى الفن والثقافة من أجل التعبئة والإخبار عن سوريا ليست حِكراً على المشهد الثقافي الفرنسي، إذ شهدت كُل بلدان الشتات السوري مبادرات مشابهة تستخدم الفن والثقافة لحشد الرأي العام وخلق مساحات لقاء للسوريين في منافيهم المتعددة. ما يلفت النظر هو المساحة التي أخذتها هذه المبادرات في فرنسا في حين بقي حضور الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين في المؤسسات الثقافية الفرنسية الرسمية محدوداً إلى حد كبير، وذلك على الرغم من تلك الخلفية التاريخية للعلاقات بين البلدين. نتحدَّثُ هنا عن إشكاليات التاريخ والهوية والتمثيل، وهي إشكاليات لا تقتصر على الحضور الفني والثقافي السوري في فرنسا فحسب، وإنما تشمل معظم النتاج الفني والثقافي الآتي من بلدان المنطقة العربية وما يُعرف ببلدان الجنوب بشكل عام، والتي تشمل دول القارة الأفريقية ومعظم دول آسيا وأميركا اللاتينية، وغيرها من الشعوب التي تواجه إشكاليات مشابهة على صعيد إيجاد مكان لسردياتها في شبكات العرض الرسمية، التي تتحكَّم حتى الآن بما يُعرَض وما لا يُعرَض في محاور إنتاج الخطاب الفني والثقافي في أوروبا والغرب. يواجه فنانو ومنتجو الثقافة من مختلف هذه البلدان الإشكاليات نفسها من حيث صعوبة تواجدهم في مساحات متحررة من سياسات الهوية والتمثيل،نشير هنا إلى فضاءات مثل معهد العالم العربي في باريس، ومعهد ثقافات الإسلام، ومتحف تاريخ الهجرة (الذي شُيِّدَ في مطلع ثلاثينات القرن الماضي كمتحف للمستعمرات). تعرضُ هذه الفضاءات أعمالاً من العالم العربي والإسلامي، غالباً عبر ربطها بقضايا الهجرة والهوية واللغة والاندماج في فرنسا وفي المساحة الفرانكوفونية. وإن نجح عدد محدود جداً من أولاد الجيل الثاني والثالث من مهاجري المغرب العربي على سبيل المثال باختراق بعض هذه الفضاءات المُنتِجة للخطاب الثقافي الرسمي في فرنسا، إلاَّ أنها تبقى مساحات مُشتهاة للكثيرين خاصة من الوافدين الجُدد، وبشكل خاص هؤلاء الذي كان مجيئهم إلى فرنسا على أثر صراعات دامية في بلدانهم التي تُعتبر «غريبة» ومُختلفة من منظور رؤية تضع الثقافة الفرنسية والأوروبية في المحور، وتعتبرها المعيار الأساس لقياس مستوى اندماج «الآخر» وشرعية مُشاركته للمساحة العامة المُستضيفة ولسردياتها الرسمية، كما تُرسِّخها المسارح الوطنية والمتاحف وغيرها من المنصات التي تضع قواعد آليات إنتاج الفنون وسوق الفن في أوروبا والغرب.
أتى التفكير في هذا الموضوع من انشغالي في السنوات الأخيرة بموقع الممارسات الفنية والثقافية السورية والعربية في العالم اليوم، وذلك من منظور سرديات ما بعد الاحتلال وأسئلة التنوُّع والتضمين التي باتت شديدة الراهنية في الحقلين الثقافي والفني. وهكذا تنقَّلت بين أعمال وكتابات معنية بالشأن السوري بشكل خاص، وأُخرى تطرح سؤال التعددية والهوية والآخر والمنفى والشتات بشكل واسع.أخصّ هنا بالذكر كتابات عالم الاجتماع البريطاني ستيوارت هول (1932-2014) حول الهويات الثقافية والشتات، التي تنظر بشكل خاص في شتات القارة الأفريقية عبر التاريخ، وما أفرزه هذا الشتات من هويات متعددة ومتداخلة بمستويات مختلفة من التعقيد التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي. تمنح كتابات ستيوارت هول مفاتيح أساسية لقراءة إشكاليات غاية في الراهنية في عصرنا الحالي، منها على سبيل المثال قضايا التهجين الثقافي «cultural hybridity» أو الهويات الهجينة «hybrid identities»، التي تسمح بفهم التحولات التي تطرأ على المجتمعات المُهمَّشة مع هجرتها وحركتها المستمرة خارج فضائها الجغرافي الأصلي، ومن ثم لقائها/اصطدامها بالهويات المركزية والمسيطرة. كما يَفترضُ السياق الجغرافي والثقافي لهذا البحث النظر في الخصوصية السورية داخل الخصوصية الفرنسية، وما تحتويه من مجتمعات شتات أخرى، ونقصد هنا بشكل خاص مجتمعات شتات شمال أفريقيا وبلدان أفريقيا الغربية باعتبارها الأكثر حضوراً في فرنسا، نتيجة لماضيها الاستعماري في شمال وغرب القارة الأفريقية. لن ندخل هنا في المقارنة بشكل صريح وإن كان واقع هذه المجتمعات في فرنسا قد ألهمَ إلى حد كبير العمل على هذا البحث، بما ينتجه هذا الواقع من أسئلة حول الهوية واللغة والاندماج والإقصاء من السرديات الرسمية. وهكذا بدأت مجموعة من الأسئلة تتبلوَّر لدي: كيف يؤثِّر الواقع السياسي والثقافي الفرنسي على تلقي السردية السورية المعاصرة في فضاءات العرض الرسمية وفي المساحة العامة؟ هل يتحدَّث هذا البحث عن سوريا أم عن فرنسا؟ ما الذي أريد أن أقوله بالضبط عبر المقارنة مع العلاقات الثقافية والفنية بين البلدين التي سبقت لحظة 2011؟ وإن كانت مجمل هذه الأسئلة تتقاطع مع بعضها البعض بشكل عضوي.
أدَّت هذه التساؤلات وبشكل سريع إلى لفت انتباهي إلى المبادرات الثقافية السورية التي تعمل منذ أكثر من عشر سنوات على خلق مساحات بديلة للإخبار عن سوريا ومبدعيها ومفكريها، وكذلك إلى كيفية تمثيلها لهذه السرديات داخل تعقيدات السياق الفرنسي وتحديداً الباريسي. وهكذا انتقلتُ من التفكير في الفنانين السوريين في فرنسا إلى التأمُّل في الفاعلين الثقافيين وفي طبيعية الناشطية الثقافية السورية في العاصمة الفرنسية خلال العقد الأخير. كما أضافت هذه المراحل الأولى من المسح سؤال التضامن إلى إشكاليات التاريخ والهوية والتمثيل كما تصوَّرتُها عندما بدأتُ التفكير في موقع النتاج الفني والثقافي السوري في باريس اليوم، وذلك لأن مجمل المبادرات التي توقفت عندها تستدعي التأمُّل في سؤال التضامن بما يتيحه من مساحات للتحرُّك والحشد، ولكن أيضاً بما يكشف عنه من علاقات قوة بين مُتَضامنين ومُتضامَن معهم. يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح: «يخفي التضامن أن المُتضامِن هو في الواقع ضامن، وأن المُتضامَن معه هو في حقيقة الأمر مضمون، موضوع في ’ذمة‘ الضامن. ليست هذه علاقة متكافئة وندية. وإذا كان لا يُنتظَر امتنان علني من المضمون، فإنه في موقع أضعف من أن ينتقد نزعات أبوية عند صانع القضية، الضامن. هذا إلا أن يخرج من العلاقة أو يثور عليها» (في نقد التضامن). كما أن التضامن يؤدي في أغلب الأحيان إلى سيطرة التعاطف على عملية التلقي، أي خطر الحدّ من إمكانية قراءة نتاج فني وفكري ما بمعزل عن القضية التي يُدافع عنها – وهنا تحديداً قضية الشعب السوري. بمعنى خطر عزل هذا النتاج عن خطاب نقدي يُدخله في حوار وعلاقة ندية مع إنتاج الفنون والثقافة عبر العالم اليوم.
جعلني انشغالي بمجمل هذه القضايا أنتبه لنقطة أخرى مهمة أيضاً، وهي الطابع الشخصي لمُختلَف هذه التساؤلات، إذ أنتمي إلى الجيل الذي استفاد من وفرة برامج التعاون الفرنسية-السورية خلال العقدين الذين سبقا اندلاع الثورة. خلال دراستي في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق (1996-2000)، شاركتُ في عدد كبير من ورشات العمل التي تم تنظيمها بالتعاون مع القسم الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق، وتأثرتُ بأساتذة كانوا قد تابعوا دراستهم العليا في فرنسا ولعبوا دوراً مفصلياً في المشهد الثقافي السوري – وتحديداً الدمشقي – من تسعينات القرن الماضي حتى منعطف عام 2011.أذكرُ هنا بشكل خاص د. ماري إلياس ود. حنان قصاب حسن اللتين لعبتا دوراً مهماً جداً كناقلتَّي أفكار بين العالمين السوري والفرنسي. عند تخرُّجي، عملت في المعهد الفرنسي للشرق الأدنىالمعهد الفرنسي للشرق الأدنى (IFPO) هو أقدم المؤسسات الفرنسية المُلحقة بوزارة الخارجية الفرنسية والمُخصصة لدراسة العالم العربي والإسلامي، إذ تمَّ تأسيسه عام 1922 وكان مقره الأول في قصر العظم في دمشق. ثم في المركز الثقافي الفرنسي في دمشق،تمَّ تدشين مبنى المركز الثقافي الفرنسي في حي البحصة في دمشق عام 1988، وقد صممه المهندس المعماري الفرنسي جوزيه أوبريري ليكون محور السياسة الثقافية الفرنسية في وسط العاصمة السورية. الذي بقيتُ قريبة جداً من نشاطاته ومن الأفراد القائمين عليها حتى انتقالي إلى باريس لمتابعة الدراسة في خريف عام 2010، وهي علاقات مازالت حاضرة حتى اليوم في حياتي الاجتماعية والمهنية. وهكذا عندما اندلعت الثورة في شهر آذار(مارس) 2011، وجدتُ نفسي سريعاً في موقع المراقب لتلقي السردية السورية في العاصمة الفرنسية، وبشكل خاص في أوساطها الثقافية والفنية والعلمية أيضاً وأحياناً كان لي دور فيها، خاصة في السنوات الأولى عندما كانت هناك حاجة للإخبار عمّا يجري في سوريا وللتعريف بهذا «الآخر». منذ تلك اللحظة، شهدتُ وصول الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين إلى فرنسا على عدة أفواج، وراقبتُ تطوّرَ المسارات والسرديات وأحياناً تعثُّرها.
أذكر جيداً الغليان السياسي والفكري الذي اجتاح الأوساط الثقافية المؤيدة للثورة السورية في باريس في السنوات الأولى التي تلت اندلاع الحراك الشعبي. رأيت كيف تفرَّغ عدد من أصدقائي ومعارفي من العاملين في الفن والثقافة إلى متابعة ما يحدث في سوريا في سياق ثورات الربيع العربي، وكيف كرَّسَ جزءٌ كبير منهم نتاجه الفني والفكري لدعم قضية الشعب السوري. انتشرت الكُتب عن الثورات العربية في المكتبات الفرنسية، وهنا لا نتحدث عن ترجمات فحسب وإنما عن عدد كبير من المؤلفات الفرنسية التي تناولت حركات الاحتجاج وتحليل الواقع السياسي والتاريخي في المنطقة العربية، التي شدَّت انتباه العالم في تلك اللحظة. كما شهدت فضاءات العرض الفرنسية تنظيم عدد من الفعاليات التي تناولت النتاج الفني الذي رافق هذه التحولات في لحظة حدوثها. كان مناخاً من اليوفوريا العارمة سرعان ما طال الأوساط الثقافية والفكرية الفرنسية المتضامنة مع مطالب المتظاهرين في مختلف البلدان التي شهدت حراكاً شعبياً، وذلك بشكل خاص في صفوف اليسار الفرنسي. كما لم يكن السؤال في ذلك الحين: كيف نصنع فناً في فرنسا كفنانين سوريين أو كيف نُساعد الفنانين السوريين المنفيين؟ خاصة وأن في تلك المرحلة لم يكن سؤال المنفى قد طُرح بعد، والجميع كان يظن أن تواجدهم خارج سوريا لن يطول كثيراً. وإنما: كيف نُخبر العالم عمَّا يحدث في سوريا وكيف نضغط على الرأي العام العالمي لإيجاد حل سياسي للكارثة السورية؟ لا يمكن أن تُحصي هذه السطور كافة المبادرات التي عملت على الإجابة عن هذا السؤال، ما يهمنا هنا هو التأمُّل في أبرز هذه التوجهات وتحوُّلاتها خلال ما يزيد الآن عن عقد من الزمن.
حاولت إذن استرجاع المشاريع والفعاليات التي تمَّ تنظيمها خلال العشر سنوات الماضية، والتي تبدو لي اليوم مفصلية فيما يخص تمثيل وتلقي السردية السورية المعاصرة في باريس.أحد أبرز الأمثلة عن الفعاليات التي تناولت الفن السوري المرافق للثورة هو المعرض الذي تمَّ تنظيمه في معهد ثقافات الإسلام عام 2014: ومع ذلك يُبدعون! سوريا: الإيمان بالفن. كما شكَّل عرضُ فيلم ماء الفضة للمخرج أسامة محمد ووئام بدرخان في مهرجان كان السينمائي ومن ثم في عدد كبير من صالات العرض الفرنسية في السنة نفسها، حدثاً مُهماً أيضاً على صعيد تلقي السردية السورية المرافقة للثورة في فرنسا في السنوات الأولى التي تلت الحراك الشعبي. وكان يجب انتظار عرض فيلم من أجل سما (2019)، الذي أخرجته وعد الخطيب بالتعاون مع إدوارد واتس، لإعادة التذكير بهذه السردية في المساحة العامة الفرنسية على نطاق واسع. كما تأملتُ في الأفراد والجهات القائمين عليها وفي التسلسل الزمني لهذه الأحداث بالعلاقة مع ما يجري في سوريا ولكن أيضاً في فرنسا. تناقشت مع أشخاص أكاديميين فرنسيين كالباحثة التونسية الأصل ليلى دخلي، المختصة في تاريخ الفكر والمجتمع في العالم العربي المعاصر، والتي تدير اليوم مُختبراً يبحث في قضايا الثورات العربية، ومع أستاذة الأدب المقارن كاترين كوكيو، التي كرَّست جزءاً كبيراً من أعمالها في السنوات الأخيرة لقراءة ما يحدث في سوريا عبر النقد الأدبي والمقارنة مع كتابة الكارثة في لحظات أخرى من التاريخ المعاصر.نظَّمت كاترين كوكيو مؤتمراً مهماً عن سوريا حمل عنوان: سوريا، بحثاً عن عالم، انعقد في جامعة باريس-ديدرو وأماكن أخرى في العامين 2017 و2018، كما تعمل كوكيو على تحليل وإيصال السردية السورية المعاصرة في الأوساط العلمية والفكرية الفرنسية. يمكن الاطلاع على الجلسات المُسجلة للمؤتمر في موقع الجامعة. كما سألت أشخاص في محيطي الفرنسي عمًّا يعرفونه عن سوريا اليوم؟ وإلي أي مدى ساهمت الأعمال الفنية والنشاطات الثقافية التي تابعوها باخبارهم عن سوريا ومبدعيها؟
كان الحوار الأول الذي أجريته حول الخلفية التاريخية للعلاقات الثقافية بين البلدين مع د.حنان قصاب حسن (مواليد دمشق 1952).أُجري الحوار على منصة زوم في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2021. باعتبارها أحد أهم ناقلي الأفكار بين الثقافتين السورية والفرنسية منذ بداية تعاونها مع القسم الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق عام 1991 حتى اندلاع الثورة عام 2011. خرجت من هذا الحوار بمعلومة أساسية: إن كان القسم الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشق نشيطاً إلى هذا الحد في تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، لم يكن ذلك بفضل السياسات الثقافية الفرنسية الخارجية وإنما مبادرات أفراد فرنسيين وسوريين استخدموا مواقعهم ضمن المؤسسات لفرض ما يرونه ضرورياً ومفيداً على الصعيد المحلي، أفراد كانوا وما زالوا حريصين على تفعيل شراكات فنية وثقافية قائمة على المساواة وعلى التميُّز الفني. كما لفتت نظري إل» كونها تنتمي إلى جيل لم يعد يتقن الفرنسية بالضرورة،تمَّ تأميم المدارس الخاصة وفرض تعريب المناهج في سوريا عام 1967. وإلى خصوصية وضع الطلاب السوريين الموفدين إلى فرنسا ابتداءً من سبعينيات القرن العشرين، أي عندما أصبح حزب البعث هو الذي يختار الحاصلين على المنح للدراسة في الخارج، بما فيهم طلاب الآداب والفنون بتعدد اختصاصاتهم، من حيث انخراطهم أو عدمه مع المحيط الاجتماعي والمهني الفرنسي. أضاء هذا الحوار الأول مع د. قصاب حسن جوانب مهمة فيما يخص تاريخ العلاقات الثقافية والفنية بين البلدين كخلفية لا يمكن تجاهلها للمرحلة التي يُركز عليها البحث، كما زاد من اهتمامي بكيفية تشكُّل الجاليات ودورها في عملية إنتاج الفنون والثقافة. وهنا لا أفكر في الجالية السورية في فرنسا وحدها، وإنما أيضاً الجالية الفرنسية التي نشطت في سوريا في تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحالي. بقيت هذه الجالية شديدة القُرب من الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين في الشتات، ولم تنفك عن التعبير عن تضامنها مع قضيتهم حتى هذه اللحظة.
قادني سؤال الجالية الفنية والثقافية السورية في فرنسا وتحديداً باريس، إلى شخصين أساسيين في هذا المشهد الذي بات اليوم أكثر تبعثُراً مع انتشار الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين من القادمين الجدد في عدة مدن فرنسية: المؤرخ والكاتب والناشر فاروق مردم بك (من مواليد دمشق، 1944)، والمخرجة والمنتجة هالة العبد الله (من مواليد حماة، 1956). من غير الممكن الحديث عن الحضور الفني والثقافي السوري في العاصمة الفرنسية خلال العقد الأخير، دون التوقف عند الدور الذي يلعبانه على صعيد الحشد والإخبار عمّا يحدث في سوريا منذ اندلاع الحراك الشعبي وانزلاقه نحو العسكرة والحرب. ساهم فاروق مردم بك وهالة العبد الله بتأسيس جمعية سوريا حرية – Souria Houria – في باريس بعد أسابيع قليلة من اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011، واعتُبرَت هذه الجمعية، المُرخّصة ضمن القانون 1901 الذي يُنظِّم عمل الجمعيات غير الربحية في فرنسا، الأنشطَ من حيث تنظيم مختلف أنواع الفعاليات التي جمعت باحثين وسياسيين ومفكرين وناشطين وفنانين سوريين وفرنسيين ومن جنسيات أخرى حول المسألة السورية، وذلك حتى تراجُع ومن ثم توقُّف أنشطتها عام 2020 مع تراجع الاهتمام بسوريا على المستوى الفرنسي والدولي، واندلاع جائحة كوفيد-19 التي فرضت تغييرات جذرية على العمل الثقافي في الأعوام الثلاثة الماضية.يمكن الاطلاع على قائمة الأنشطة التي نظمَّتها سوريا حرية منذ تأسيسها على موقع الجمعية.
اللقاء الثاني الذي أجريته كان إذن مع هالة العبد الله في منزلها في باريس في كانون الأول (ديسمبر) 2021. استمرّ اللقاء أكثر من أربع ساعات وأعطاني مفاتيح جديدة للقراءة، منها مثلاً بعض خصائص التعاون الفني بين فرنسا وسوريا على صعيد الإنتاج السينمائي، والدور الذي لعبته شخصياً على هذا الصعيد إلى جانب أسماء مهمة في تاريخ السينما السورية التي أُنتجت قبل عام 2011، مثل مخرج الأفلام الوثائقية عمر أميرالاي (1944-2011)،عندما بدأت التفكير في هذا البحث، كانت ترافقني معلومة كنت قد قرأتها في عدة مصادر وهي كيف ترك عمر أميرالاي دراسة السينما في باريس حيث كان طالباً في المعهد العالي للفنون السينمائية، ما يُعرَف اليوم بالـ Fémis وهو من أهم معاهد السينما في فرنسا، لينزل إلى الشارع ويصوِّر مظاهرات ثورة أيار (مايو) 1968. لم يعد أميرالاي للدراسة وانطلق في مسيرته كمخرج أفلام وثائقية ترك رصيداً من الأفلام التي تُعتَبر اليوم بمثابة مراجع تاريخية وفنية في الأوساط اليسارية والعلمانية السورية المؤيدة للثورة. والمخرجيِّن محمد ملص (مواليد القنيطرة، 1945) وأسامة محمد (مواليد اللاذقية، 1954).منذ الأشهر الأولى التي تلت اندلاع الثورة وأنا أفكر في سؤال المنفى، ما قادني إلى إجراء لقاء حول هذا الموضوع مع المخرج أسامة محمد في صيف 2011، أي عندما كان هذا الوجود خارج سوريا يبدو مؤقتاً. بعد مُضي اثني عشر عاماً على إجراء هذا اللقاء، مازال أسامة محمد في فرنسا. كما تحدَّثت العبد الله كثيراً عن «الشباب»، عن الحرية الإبداعية التي جلبتها الثورة، وعن رفض الهوية بمعناها التقليدي لدى معظم هؤلاء الشباب والشابات الناتج عن رفضهم لمفاهيم كالوطن والعروبة بتعريفهما الموروث عن النظام البعثي، ومساءلتهم لمعنى أن يكون المرء اليوم سورياً أصلاً. في حديثي معها، ردَّدت العبد الله باستمرار كلمة «تضامن»، وهي كلمة غالباً ما تعود في مداخلاتها وفي اللقاءات التي تُجرى معها. شدَّت انتباهي علاقتها مع فرنسا وقرارها بعدم الحصول على الجنسية الفرنسية لفترة طويلة جداً على الرغم من كونها مقيمة في باريس منذ عام 1981. هالة العبد الله سورية تعمل من أجل سوريا، واندلاعُ الثورة وتحوُّلها إلى حرب زاد من سوريتها، ما دفعني إلى التفكير في العلاقة بين الهوية السياسية وعملية إنتاج الفنون والثقافة في السياق السوري داخل وخارج حدوده الوطنية. وهكذا بدأت مسألة الناشطية والالتزام السياسي تأخذ حيزاً أكبر في قراءتي للحضور الثقافي السوري في باريس خلال العقد الأخير، إذ بدت لي كأحد أهم المفاتيح لقراءة هذا الحضور إن كان على الصعيد الفردي أو الجماعي. أثناء الحديث، قالت العبد الله شيئاً أخراً لفت انتباهي: «قبل الثورة، كانوا في فرنسا يظنون أن فاروق مردم بك فلسطيني، وذلك بسبب عمله في مجلة الدراسات الفلسطينيةساهم فاروق مردم بك بتأسيس النسخة الفرنسية من مجلة الدراسات الفلسطينية عام 1981، وقام بإدارتها من عام 1986 حتى توقفها سنة 2008. والكتب العديدة التي ألَّفها ونشرها عن فلسطين».
وصل فاروق مردم بك إلى فرنسا عام 1965 ولم يعد إلى سوريا لأسباب أمنية منذ عام 1976. أضاف الحديث الذي أجريته معه في أحد المقاهي الباريسية في كانون الأول 2021 بُعداً جديداً للبحث المُقترح، إذ حدَّثني مطولاً عن جاهزيته للانخراط في الثقافة الفرنسية نتيجة للتعليم الذي حصل عليه في سوريا في السنوات التي تلت انتهاء الانتداب الفرنسي على سوريا، عن التجمُّعات والجاليات العربية في باريس في السنوات التي تلت حرب الجزائر (1954-1962)، عن ثورة أيار(مايو) 1968، عن التضامن مع القضية الفلسطينية، عن المثقفين العرب في باريس وعن أماكن اللقاء التي كانت تجمع سوريين ولبنانيين وفلسطينيين وعراقيين… وهي مقاهي ومكتبات استقطبت مثقفي اليسار من كل الجنسيات ولم تعد موجودة اليوم أو لم تعد تستقبل الجمهور نفسه.للتعمُّق في تجربة فاروق مردم بك خلال هذه المرحلة، انظر: MARDAM BEY, Farouk, PLENEL, Edwy, SANBAR, Elias, Notre France, Paris, Actes Sud, coll. «Sinbad», 2011. في هذه الفترة، صدرت العديد من الجرائد والدوريات العربية في باريس، ونشطت المكتبات العربية وحركة الترجمة في مناخ عام من الجاهزية لاستقبال الثقافة العربية وقضاياها خاصة في العاصمة الفرنسية التي طالما اتسمت بالكوزموبوليتانية، وإن كانت علاقة فرنسا مع مستعمراتها السابقة غاية في التعقيد حتى هذه اللحظة. اليوم، مع التحديات التي يواجهها اليسار وصعود اليمين المتطرِّف في فرنسا وأماكن أخرى من العالم، يبدو المناخ العام أكثر عدائية تجاه الثقافات الأخرى خاصة بعد بداية أزمة اللاجئين في أوروبا والهجمات الإرهابية على باريس عام 2015. لسنا هنا بصدد دراسة تعقيدات الواقع السياسي الفرنسي، ما يهمنا هو أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير المناخ العام في فرنسا على تلقي السردية السورية المعاصرة في الفضاء العام الفرنسي وبشكل خاص في أوساطه الثقافية والفنية.خرجتُ من لقائي مع فاروق مردم بك وأنا أفكر بسؤال التضامن والالتزام السياسي بمعناه الواسع. كما سألتُ نفسي: أين يلتقي الفنانون والفاعلون الثقافيون السوريون في باريس اليوم؟في تلك السنوات الأولى من بدء الانتفاضة الشعبية، كان الجميع يلتقي «عند أحمد» وهو اسم صاحب أحد المطاعم السورية الذي اتخذته أوساط المعارضة السورية كمقرٍ لها في باريس. «عند أحمد» كُنتَ تلتقي بفنانين وناشطين ووافدين جدد وكل من كان يجتاحه الحنين إلى سوريا، كان بإمكانك استراق السمع إلى نقاشات سياسية حادة أو اجتماعات تنظيم وقفات احتجاج في باريس، وبالتأكيد أن «عند أحمد» كانت اللغة العربية هي السائدة. ما هي طبيعة علاقاتهم مع مجتمعات الشتات الأخرى ومع محيطهم الجديد؟ هل هم معنيون بالنقاشات التي تشغل الرأي العام الفرنسي باعتبارها تؤثِّر على مصائرهم أيضاً؟ وأين هم من الثورة التي اندلعت قبل أكثر من عشر سنوات؟ وهنا، يجدر توضيح ما نشير إليه بـ«الثورة» في هذا النص مستعينين بكتابات الباحث الفرنسي ليو فورن الذي يعمل على الناشطية السورية في المنفى، وتحديداً في لبنان وفرنسا، وقد عرِّف «الثورة السورية» على النحو التالي: «نسمي بمصطلح ’ثورة‘ الحركة الاحتجاجية التي بدأت في سوريا في ربيع 2011 والتي كان مطلبها الأساسي هو إسقاط النظام السياسي القائم».FOURN, Léo, «Soutenir la révolution à Distance : Mobilisations de Deux Générations d’Exilés syriens en France», in Migrations Société, vol. 174, no. 4, 2018, pp.59-73, p. 59 لماذا ضرورة هذا التوضيح؟ لأننا سريعاً ما نُدرك أن عمل الأفراد والمبادرات التي ننظر إليهم هنا يأتي كاستمرار للحراك الشعبي في بدايته السلمية قبل الانزلاق نحو العسكَرة والحرب، وذلك بما قد ينتج عنه من انزياحات بين الحلم بالحرية والتغيير الذي يحمله السوريون في منافيهم المختلفة والواقع على الأرض داخل سوريا المُمَزَّقة اليوم.