وسط خيمةٍ مهترئة غربي مدينة سرمدا في ريف إدلب الشمالي، سارعت ولاء حميدي لتقديم الشاي المحلى بالسكر وهي تطلب من أطفالها الثلاثة الهدوء قبل أن تجلس للتحدث عن احتمال خسارتها لمشروب الضيافة الوحيد الذي تملك.
وصل خبر إيقاف المساعدات الغذائية إلى المخيم الذي تقيم فيه ولاء سريعاً، إذ أعلن برنامج الغذاء العالمي في 4 كانون الأول (ديسمبر) الحالي عن توقف عمله في سوريا بداية عام 2024، والبدء بخطة توزيع جديدة تستثني معظم الأسر التي استفادت لسنوات من السلال الغذائية بسبب «نقص التمويل».
«الفاكهة لا تدخل بيتنا»، قالت ولاء التي كانت هي وعائلتها من المستفيدين من السلة الغذائية حتى الشهر الماضي، مضيفةً: «أما اللحم فكل شهر نتمكن من شراء نصف كيلو من الدجاج، ولحم الغنم لا نستطيع تحمل تكلفته».
ما يشغَل ولاء هذه الأيام هو إيقاف تسرب مياه الأمطار إلى خيمتها، والإبقاء على اشتعال المدفأة الصغيرة التي تحرقُ فيها أكياس النايلون المُجمّعة من النفايات، ما يجعل المدفأة تٌصدر روائح كريهة ودخاناً كثيفاً يتسبّب في انتشار الأمراض التنفسية في أجواء المخيم. أما بالنسبة للغذاء، فإن ولاء، وهي مُرضع ومصابة بسوء التغذية، تعتبر نفسها «من المحظوظين» لأن زوجها يعمل.
«سيكون الحال صعباً جداً على من لا يملك معيلاً»، أجابت ولاء عن تصورها للمستقبل بعد توقف المساعدات الغذائية: «من أين سيؤمن الناس معيشتهم في ظل انتشار الفقر وعدم وجود فرص عمل».
يعمل زوج ولاء حمّالاً في سوق الهال، ولا يزيد أجره عن 50 ليرة تركية في اليوم؛ عشر ليرات منها ثمن ربطة الخبز، وما تبقى لتأمين كافة احتياجات العائلة، في حين تستهلك حفاظات طفلها البالغ من العمر 10 أشهر الباقي غالباً.
يبلغ عدد سكان منطقة شمال غربي سوريا نحو 4.5 مليون شخص، 2 مليون منهم يقيمون داخل مخيماتٍ معظمها عشوائي، ويحتاج 4.1 مليون شخص للمساعدات الإغاثية، في حين أن 3.7 مليون منهم فاقدون للأمن الغذائي، و1.4 مليون يحتاجون لخدمات التغذية وفقاً لآخر إحصائيات الأمم المتحدة.
حمل تصوّر المستقبل من قبل سكان المنطقة بعد توقف المساعدات الغذائية أوصافَ «المجاعة» و«الكارثة» و«الموت»، مع نفاد سبل التأقلم مع الواقع الصعب لأكثر من 90 بالمئة ممن هم تحت خط الفقر.
سوء التغذية يلوح في الأفق
ما زالت ولاء تحصل على لوح الحلاوة الشهري المخصص للمصابين-ات بسوء التغذية، لكنها لا تشعر بالفرق الكبير عند تناوله، خاصةً مع استمرار أعراض الدوار الذي تشعر به كلما أرضعت طفلها، وقالت إن أشهر الحمل كانت شديدة الصعوبة مع اضطرارها للبقاء في المشفى لعشرة أيام: «قالوا لي إن السبب هو سوء التغذية، وإن عليّ أن آكل التفاح والموز واللحم والعصير الطبيعي، ولكننا لا نملك المال لنشتري أياً من ذلك».
الطبيب محمد حاج إبراهيم، المختص بأمراض الأطفال وحديثي الولادة، وصف انتشار سوء التغذية بين الأطفال والرُضَّع والنساء الحوامل والمرضعات بـ«الرهيب»، وقال للجمهورية.نت إن هذا الحال «مرهقٌ للمجتمع»، وبرأيه فإن نسب المصابين به ستتضاعف بعد وقف المساعدات الغذائية. وأضاف حاج إبراهيم أن «إيقاف المساعدات هو الموت لمثل هؤلاء؛ لأنه سينقل الحال من سيءٍ إلى أسوأ. نسبة المصابين بسوء التغذية من أطفال المنطقة تتراوح ما بين 25 إلى 30 بالمئة، وقد تصل إلى 50 أو 75 بالمئة منهم».
سوء التغذية هو مدخل الإصابة بالأمراض الهضمية ونقص المناعة وزيادة أعداد الوفيات بين الأطفال، خاصةً حين تضع الحامل طفلاً ناقص الوزن لأنها لم تتناول ما يكفيها من الطعام، حسب رأي حاج إبراهيم، مضيفاً أن أخطاء التغذية من قبل الأهل هي أيضاً من العوامل الهامة في انتشار المرض لدى الأطفال الرضع.
تلجأ الأمهات المصابات بسوء التغذية واللواتي لا تملكن ما يكفي من الحليب لإرضاع أطفالهن إلى إطعامهم حليب الأبقار أو الرز والنشاء، وهو «خطأ كبير» للأطفال دون عمر 10 أشهر بحسب طبيب الأطفال، الذي أشار إلى أن المخاطر لا يمكن علاجها بألواح الحلاوة أو الزبدة أو المتممات الغذائية التي توزع عادة من قبل المنظمات الإغاثية: «بعض الحالات تتطلب دخول المشفى والعلاج بالحليب عالي التغذية، لأن الإصابة بالالتهابات والوذمات الناتجة عن سوء التغذية قد تقود إلى مشاكل في الكبد وقصور الكلية والوفاة».
تُقدر الأمم المتحدة إصابة 22.3 بالمئة من الأطفال في شمال غربي سوريا بالتقزّم، وهو نقص النمو الناتج عن سوء التغذية، بينما يعاني 36.18 بالمئة من الأطفال ما بين عمر ستة أشهر وخمس سنوات من فقر الدم، ونسبة الذين يحصلون على الحد الأدنى المقبول من الغذاء الكافي لمن هم ما بين عمر ستة أشهر إلى سنتين لا تزيد عن 11 بالمئة، وأما من هم دون عمر ستة أشهر، فإن 44 بالمئة منهم لا يعتمدون على حليب الأمهات الذي يجب أن يقتصر عليه غذاؤهم.
الصبر لم يعد متاحاً
بيان برنامج الغذاء العالمي الأخير حذر من «عواقب لا توصف على ملايين الأشخاص» نتيجة وقف توزيع المساعدات الغذائية، متعللاً بـ«مستوى الاحتياجات الإنسانية غير المسبوق حول العالم والتحديات الاقتصادية العالمية والتشديد المالي من جانب الجهات المانحة الرئيسية» كأسباب لعدم القدرة على متابعة خطة التوزيع الحالية.
يتوقف موقع المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة في تقييمه لأعداد فاقدي الأمن الغذائي في سوريا، البالغ 12.1 مليون شخص، عند إحصائيات العام 2022، والتي بينت خطر وقوع 2.9 مليون آخرين ضمن تلك الفئة.
كانت المساعدات الغذائية تصل إلى 5.5 مليون شخص في عموم سوريا، قبل أن يختصر البرنامج للمرة الأولى أعداد المستفيدين لـ3.2 مليوناً في حزيران (يونيو) من العام الحالي، «ممن هم غير قادرين على البقاء من أسبوع لآخر دون مساعدة غذائية» على حد وصف البرنامج، وذلك بعد عامين من تقليص حجم السلة الغذائية تدريجياً لتصل إلى نصف الحجم الموصى به.
أما خطة التوزيع القادمة فما زالت «مجهولة» بحسب تصريح أحمد هاشم، منسق المشاريع الاجتماعية في جمعية عطاء للإغاثة الإنسانية، للجمهورية.نت، موضحاً أن برنامج الغذاء العالمي أبلغ جميع المنظمات الشريكة العاملة على الأرض بقراره وقف توزيع السلال الغذائية للمستفيدين، على أن يعود للعمل بعد شهرين أو ثلاثة من بدء العام الجديد بنسبة تدخُّل تقل عن 60 بالمئة من حجم التدخل السابق.
قال هاشم إن «عدد السلال التي سيقدمها ستكون لـ60 ألف عائلة بدل 300 ألفاً من المستفيدين»، مضيفاً أن آلية التوزيع ستكون مختلفة لكن لا معلومات عنها حتى الآن: «لم تكن السلال تكفي للعائلات الفقيرة لكنها كانت تسد رمقهم بالحد الأدنى من الحاجيات المعيشية».
وعلى الرغم من أن العجز عن تغطية المحتاجين ليس جديداً، حيث أشار هاشم إلى أن جهود جميع المنظمات في المنطقة لم تتمكن من سد 40 بالمئة من المطلوب، إلا أن حالة الانقطاع الكلية تعتبر جديدة بالنسبة للمنطقة.
ويخشى هاشم ألا تتمكن العائلات المحتاجة من التكيف مع الظروف الجديدة: «كان الصبر على تخفيف السلة متاحاً. كان للناس القدرة على التعامل معه، أما الانقطاع فيعني أن الأطفال لن يكون لديهم ما يأكلونه ولن يحصلوا على المتممات الغذائية، وسنكون أمام مجاعة».
ليس الجوع وحده هو الخطر المتعلق بانقطاع السلة الغذائية، إذ أنها كانت تساعد أيضاً في تدوير العجلة الاقتصادية في المنطقة حسب هاشم، الذي أضاف بأن الشركات والعمال الذين كانوا يقومون باستيراد السلة وتعبئتها وتوزيعها صاروا دون عمل، ما يعني انتقال أكثر من 1500 شخص حسب تقديره إلى البطالة في منطقةٍ تندر فيها فرص العمل.
كما توقع هاشم أن ترتفع أسعار المواد الغذائية في الأسواق نتيجة توقف وصول المواد الأساسية التي كانت تتضمنها السلة عبر المعابر الواصلة بين تركيا وسوريا، والتي لا تُزرع أو تُنتج في المنطقة، ما يعني الحاجة لاستيرادها لتلبية طلب السوق المحلي وبالتالي ارتفاع أسعارها.
مصدر للدخل لمن لا معيل له
منذ ثلاث سنوات اعتمدت حميدة الجمعة (55 عاماً) على خطة لتأمين احتياجاتها واحتياجات ابنتها المصابة بالضمور الدماغي من خلال الاقتصاد في استهلاك المواد البسيطة التي تتضمنها السلة الغذائية، وبيع الفائض لشراء ما يلزم من احتياجات أخرى. «نشتري الخبز»، تقول حميدة للجمهورية.نت، مضيفةً أنها تحتاج إلى دواء الضغط وأدوية الالتهاب لابنتها البالغة من العمر 33 عاماً: «نحتاج أيضاً إلى التدفئة وإلى كل شيء».
لعشرين عاماً عملت حميدة مع عائلتها في الزراعة في لبنان، حتى تمكنوا من امتلاك بيت وأرض في ريف حلب الجنوبي، سرعان ما اضطروا للتخلي عنه والنزوح قبل عشر أعوام نتيجة القصف والقتال، متنقلين بين المخيمات إلى حين الوصول إلى مكان إقامتها الحالي بخيمةٍ في ريف إدلب الشمالي.
لم تعد حميدة قادرة على العمل، وبعد وفاة زوجها وبقائها وحيدة مع ابنتها كان عليها الاعتماد كلياً على السلة الغذائية للنجاة، ولا تدري كيف ستتمكن من ذلك بعد اليوم. تقول: «لولا السلة كنا متنا جميعاً».
حميدة لم تكن الوحيدة التي اعتمدت على بيع الفائض من سلتها الغذائية، بل هي ممارسة منتشرة بحسب مالك متجر طيبة إبراهيم دوريش الذي يقول للجمهورية.نت: «كنت أشتري المواد الغذائية من المستفيدين عند استلامهم للسلال، وكانت نسبة البيع والشراء كبيرة… منذ عام ونصف تراجع ذلك إلى حد كبير».
يرى إبراهيم، الذي يعمل وسط تجمع المخيمات في دير حسان بريف إدلب الشمالي، بأن الحاجة إلى المال هي التي تدفع الناس للتخلي عن بعض المواد التي تتضمنها السلال، خاصة العدس والحمص، وقال إن الأهالي يبيعونها لشراء الأدوية أو لإعالة الأطفال أو لشراء مواد أخرى للبيت من خضار وخبز. «هناك من يبيع المساعدات بداية الشهر ثم يعود لشرائها لاحقاً»، قال التاجر الذي أشار إلى أن أسعار المواد الغذائية التي تتضمنها السلال الإغاثية تقلُّ بفارقٍ واضح عن أسعار المواد الأخرى في الأسواق، وذلك لفرق الجودة.
كانت المستفيدون يحصلون لقاء سلالهم على 15 دولاراً، أما بعد تخفيض الحصص أصبحت نسبة البيع قليلة وتقتصر على كميات قليلة لقاء مئة ليرة تركية، ووصف إبراهيم قطع المساعدات بالكامل بـ«الكارثة على الناس».
حسب تقدير مبادرة مراقبة أسعار الأسواق التابعة للأمم المتحدة، فإن تكلفة السلة الغذائية التقديرية للحد الأدنى من الإنفاق للبقاء على قيد الحياة بالنسبة لعائلة من ستة أفراد مدة شهر في شمال غربي سوريا تبلغ وسطياً 141.25 دولاراً، بانخفاض بنسبة 7 بالمئة عن تكلفة العام السابق. لكن مقارنة سعر السلة بالليرة التركية يعطي واقعاً مختلفاً نتيجة تدهور قيمة العملة المعتمدة للتعامل التجاري في المنطقة، إذ ازدادت تكلفة السلة في الشمال الغربي بنسبة 42 بالمئة خلال 12 شهراً، ومقارنة تلك الاحتياجات مع قيمة السلة الغذائية الموزعة والتي لا تتجاوز 20 دولاراً بعد التخفيض، وفق تقدير السكان، تبيّنُ درجة التقشف التي كان المستفيدون قد وصلوا لها بالفعل.
لا يوجد استقرار اقتصادي قبل الاستقرار الأمني
ما زالت منطقة شمال غربي سوريا تعاني من القصف المدفعي والجوي من قبل قوات النظام وحليفته روسيا على المناطق المدنية، ما سبب عدداً من المجازر خلال الربع الأخير من العام الحالي، وأدى لموجات جديدة من النزوح بالنسبة لعشرات الآلاف من مناطق التماس نحو الحدود التركية. سبقهم موجة نزوح مماثل جراء زلزال شباط (فبراير) الماضي، والذي دمر ما يزيد على عشرة آلاف مبنى وأوقع أكثر من أربعة آلاف قتيل في المنطقة، بكارثةٍ سببت مزيداً من الخسارة والضعف والفقر للسكان في الشمال الغربي.
ارتبطت أسباب الفقر خلال سنوات الحرب بالنزوح ودمار البنى التحتية، لكن المنطقة التي ما زالت تعيش تحت مسمى «وقف إطلاق النار» الذي بدأ في آذار (مارس) 2020، واستمر رغم الخروقات المتكررة، في حين انتشرت بعض «مشاهد إعادة الإعمار» بافتتاح مراكز التسوق الواسعة في مدينتي الدانا وسرمدا وافتتاح الدوّارات في مدينة إدلب والأوتوستراد الواصل مع معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، دون افتتاح مصانع أو مشاريع تؤمن فرص العمل.
«رؤوس الأموال جبانة»، قال المحلل الاقتصادي المقيم في إدلب حيان حبابة للجمهورية.نت، مضيفاً: «لا يعمل المستثمرون في بيئة غير مستقرة»، وبرأيه فإن الأمن الاقتصادي مرتبط بالأمن الاجتماعي أولاً، لذلك لا يرى حلاً قريباً لمشاكل البطالة والفقر في الشمال الغربي.
يتوقع حبابة تقلص الإنتاج بشكل أكبر في المستقبل مع ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين نتيجة انقطاع الدعم المقدم من الأمم المتحدة، مشيراً إلى الضغط الذي يعانيه سكان المنطقة نتيجة تحكم التجار بالأسعار غير الموحدة والتي تؤدي لغلاء متزايد، وتعد بمزيد من العجز والفقر.
وفي تقييم لفريق منسقو استجابة سوريا نُشر نهاية تشرين الثاني (نوفمبر)، بلغت نسب البطالة في شمال غربي سوريا 88.74 بالمئة من مجموع السكان القادرين على العمل، مع اعتبار عمال المياومة، الذين تتراوح أجورهم ما بين 55 إلى 95 ليرة تركية (2 إلى 3 دولارات)، من الفئة المذكورة.
وأدى تخفيض كمية المساعدات الإنسانية الواردة عبر الحدود إلى الداخل السوري منذ تموز (يوليو) الماضي إلى زيادة أسعار أغلب المواد الموجودة في الأسواق المحلية بنسب تتراوح ما بين 14 إلى 66 بالمئة.
الحل الوحيد لمساعدة السكان على مواجهة الضغوط الاقتصادية الحالية، وفقاً للباحثين والمسؤولين الإغاثيين الذين تحدثنا إليهم هو عبر زيادة الدعم المقدم إلى سوريا من جديد، إذ إن عظم الاحتياجات يفوق قدرة تلبية المنظمات والجهات المحلية.
وفي خطاب مديرة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للعمليات والمناصرة لمجلس الأمن في 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، طالبت إديم وسورنو بزيادة التمويل: «ما نحتاجه هو تمويل عاجل لإنقاذ الأرواح ولوقف المزيد من التدهور الكارثي للوضع الإنساني. نحن بحاجة التمويل وبحاجته الآن… وأكثر ما نحتاجه هو التقدم الواقعي تجاه إنهاء هذا الصراع. بدون ذلك من المستحيل ببساطة أن نوقف تعاظم الاحتياجات الإنسانية في سوريا».