هذه رسالتي إلى العالم

الذي لم يكتب إليّ يوماً،

هذا ما كتبته ذات يومٍ إيميلي ديكنسون، وهي امرأةٌ كانت تعيش مُنعزلةً، من قلب حديقتها في ماساشوستس. كانت الشاعرة الموهوبة تقول إنّ تلك الرسالة تضمّنت «الأخبار البسيطة التي تُقدّمها الطبيعة بجلالٍ حَنون». وباسم هذا الجلال، طالبت بالحكم عليها بحنان: لأنّ العالم كان أخرس، لكنّ «شركاءها في الوطن» تكلّموا وقدّموا أحلاماً. 

اليوميات التي سنقرؤها هي «رسالةٌ إلى العالم» من نوعٍ آخر. وهي ليست قصيدةً، بل شهادة امرأةٍ تُرسِلُ، من «آخر العالم» الذي أصبحت عليه سوريا المتمرّدة «شرقي دمشق»،أقتبسُ هنا عنوان شهادة مجد الديك التي كتبها بالفرنسية بالشراكة مع ناتالي بونتان، وصدرت في باريس عام 2018 عن دار Don Quichotte بعنوان: شرقي دمشق، في آخر العالم. شهادة ثائرٍ سوري. «الأخبار البسيطة» لتاريخٍ إجراميٍّ يَسحق شعباً على نحوٍ متزايدٍ يومياً: هذا أمرٌ غريبٌ عن إيميلي ديكنسون التي لا تتّسم بكثيرٍ من السياسة، لكنّ سميرة الخليل لم تكن لتكتب أو لتفعل لولاه.

*****

والحال أنّ سميرة الخليل، وهي تتحدّث إلى العالم عبر جمهورٍ غير موجود، تجهد لأن تُعيد إلى هذا الشعب الذي طاله العدم «جلالاً حَنوناً». وهي مهمّةٌ مستحيلةٌ أيضاً، لكنّها فعلية، تضع بين أيدينا هذه الكتابات الحارقة عن كارثةٍ طويلة المسار «مجرّدَ أخبارٍ» ذات صفاءٍ مبهر. نارها تُحرقنا، لكنّ الغيظ يُسرِّبُ أحياناً حَناناً يَمسُّنا أيضاً، مثلما يَمسُّنا دُوار.

كتبت سميرة الخليل هذه اليوميات في 2013، ونشرها بعد سنوات من ذلك زوجها ياسين الحاج صالح، في بيروت عام 2016، ثمّ عام 2022 في فرنسا.سميرة الخليل، يوميات الحصار في دوما، بيروت، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر. يتضمّن الكتاب جزءاً صغيراً من التدوينات على موقع فيسبوك، تمكّنَ أحد الأصدقاء، محمّد عيسى (أكّاد الجبل) من إنقاذها، وكذلك الملاحظات المكتوبة باليد التي عثر عليها صديقٌ آخر في دوما، واسمه أسامة نصّار، فصوّرها وأرسل الصور إلى ياسين الحاج صالح الذي كان خارج البلاد، إذ غادر سوريا منذ صيف 2013. أمّا من كتبتها، فقد اختفت منذ اختطافها في دوما بتاريخ 9 كانون الأوّل (ديسمبر) 2013.

*****

في العام 2013، كان السوريون المُحاصَرون يعلمون أنّهم منذورون للتصفية بوصفهم متمرّدين، واليوم لا يستطيع أيٌّ من الناجين العودة إلى «البلد» دون أن يُخاطر بحياته. في 2021، بعد عشر سنواتٍ من الثورة، ليس هنالك أيّ منظورٍ لحلّ هذه المسألة ولا لتحويلها إلى وعد. بل على العكس من ذلك، يبدو أنّ مسار العالم وروتين إفلاتٍ ضخمٍ من العقاب، على خلفية الفوضى الصحّيةبالصلة مع جائحة كوفيد 19.، يجعلان هذه المسألة منذورةً للنسيان التامّ. لقد أصبح أولئك الذين طالبوا في 2011 بالديمقراطية «بروليتاريا»، أو «المنبوذين خارج المعنى»، مثلما يكتب ياسين الحاج صالح في رسائل إلى سميرة التي كتبها بُعيد إصدار النسخة العربية لليوميات. لقد نالت الحرب من الثورة المستحيلة فأخرجت السوريين من الإنسانية. لقد حدث المستحيل. 

في الواقع، يشمل جرح الحصار بوضوح هنا جرحاً للإنسانية. سوف يكتب أسامة نصّار الذي عاش الحصار وناضل بين المدنيين حتّى سقوط دوما في 2018 ـ وهو نفسه من اكتشف ما كتبته سميرة بخطّ يدها وأرسله: «لم تكن الغوطة الشرقية تشبه منطقةً محاصرةً بقدر ما كانت تشبه مخيّم اعتقال؛ سجناً هائلاً يعيش فيه نصف مليون إنسان».Osama Nassar, «Le siège/la prison : écrasement comparé». ويضيف: «مخيّم اعتقالٍ محضّرٍ للإبادة بالغاز والحرق»، مُذكِّراً بالهجمات الكيميائية التي لم تقتصر على غاز السارين في آب (أغسطس) 2013 ـ 1438 قتيل، 67 بالمئة منهم نساءٌ وأطفال، و900 مصاب ـ وقرب صيدنايا، «السجن المسلخ» حيث يتعرّض المعتقلون للتعذيب والرمي بالرصاص والشنق، وهو مزوّدٌ بمحرقة. وصل عدد سكّان الغوطة إلى 850 ألف نسمة في 2012، وزاد عن ذلك أثناء الثورة وقمعها؛ ثمّ انخفض عدد سكّانها إلى 150 ألفاً بعد سقوط دوما والإجلاء إلى إدلب ربيع 2018.

يتجلّى الانقطاع عن الكون لدى سميرة الخليل بشعور بلدٍ قيد الاختفاء. وتقول إنّه يجب من أجل منع هذا الاختفاء سحبُ الخنجر الذي غرسه النظام في خاصرته. يشهد كتاب يوميات الحصار على حالات الاختفاء كلّها قبل اختفاء كاتبته، يوم 9 كانون الأوّل (ديسمبر) 2013 في الشقة التي كانت تتقاسمها مع المحامية والمناضلة رزان زيتونة، في مقرّ مركز توثيق الانتهاكات. لكنّ سميرة الخليل رأت نفسها قبل ذلك ترحل في الوقت الذي رأت فيه «وطنها» يرحل: «أنا طلعت من الوطن لمّا طلعت من بيتي» (صفحة 20)؛ «إي، أنا بقطعة من الأرض خارج حدود الوطن» (صفحة 22)؛ «تتطلّع على الوطن، تشوف بيوته أنقاض. بتطلّع على أهل الوطن ما في حدا» (صفحة 84). في دوما، أمضت المُحاصَرة وقتها في البحث عن بيوت وناس، لكنّ السجن الضخم الذي أصبحتهُ المدينة المحاصرة والمقصوفة لم يعد فيه «بيت».

*****

وصلت سميرة الخليل من دمشق إلى دوما في أيّار (مايو) 2013. وعلى الرغم من إحساسها بأنّها تَحضرُ نهايةً للعالم، لم تعش فيها سوى بداية هذه «النكبة». يرتعد المرء عندما يتخيّل أنّ ما وصفته دام خمس سنواتٍ أخرى. تاريخ السوريين غير قابلٍ للتخيُّل.

*****

أعادت سميرة الخليل ارتباطها بالعالم عندما شاهدت «أصنص» انعدام الأخلاق الدولية يعبّر عن نفسه في دوما. لكنّها استعادت موطئ قدمٍ لها في الحياة عبر الرعاية. كانت تلك حالة كثيرٍ من نساء المناطق المتمرّدة، إذ انخرطنَ بعمقٍ في نشاطات الإغاثة والصحّة ودعم الأطفال والنساء. لكن خلف كلمة «رعاية»، التي أصبحت في مناطقنا مشهداً نظرياً مزدهراً ومزهوّاً بنفسه، حكايةٌ فريدةٌ كلّ الفرادة. «رعايةٌ فائقة»، هذه هي الصيغة التي كانت وجدان ناصيف، الصديقة القديمة لسميرة الخليل، تستخدمها قبل فترةٍ وجيزةٍ لوصفها كزوجة، لكن أيضاً صديقتها اليَقِظة منذ أيّام السجن التي عاشتاها معاً؛ تقول: «الرعاية، هذا ما يميّز سميرة أفضل تمييز. رعاية الآخرين والاهتمام بهم وتقديم الدعم والطاقة لهم، هذا ما عبّرت عنه لي أيضاً، على مدى حكايتنا الطويلة من الصداقة والرفاقية».

*****

تعمل سميرة الخليل على مكافحة القهر عندما تكتب يومياتها. ولحظة تعلن عن استنفاد العالم المتحضّر، تَظهرُ عبارةٌ تُكرّرها المُحاصَرة بين حينٍ وآخر وتُفصِح همساً عن وعدٍ يبدو بديهياً: «ما من شعبٍ يموت ولا شيء يدوم…». تُكرِّر سميرة العبارة بثقةٍ بسيطة، غريبة. لا يمكن أن يموت شعب، وما من نظامٍ أبدي، والعبارة الثانية تُفسّر الأولى. تؤمن سميرة بالشعب، بـ«الناس»، مثلما تؤمن بـ«الأرض» على الرغم من «الشياطين» التي تبدو وكأنّها تنفلت فيها. تقول: «لا تموت الأرض»، وهي بذلك لا تقول بأنّ الحياة تستمرّ، بل بأنّ «الإنسان» يستمرّ في الحياة (صفحة 68).

*****

إذاً، لا يمكن أن يموت شعبٌ من الشعوب، مثله كمثل الأرض أو الحياة. لكنّه شعبٌ يُصفَّى، وهي تكرّر ذلك، تكرّره بعنادٍ لأنّ الواقع واضحٌ وضوح الشمس في كلّ مكان: إنّها «سياسة دمار كلّ شيء»، المستلهمة من البديل الشهير، «الأسد أو نحرق البلد» (صفحة 29)، سياسةٌ تجعل الحصار بعيداً عن أن يكون «حالةً»، لأنّها حشد أساليب القتل كلّها معاً: المجازر، الإغلاق (الكامل بدءاً من تشرين الأوّل 2013)، القصف اليومي المتزايد الكثافة. سوف يُحسّن الجيش الروسي أساليب تلك السياسة في 2015 عبر هدم المباني من أساساتها، ما يؤدّي إلى تدمير شبكة الأنفاق التي كانت تسمح بالتحرّك من دون التعرّض للموت.

أدّى اكتشاف الهجمات بغاز السارين إلى تراتبيةٍ مرعبةٍ ثانيةٍ في هذه اليوميات لصالح الموت «الكيميائي». فالغاز يُفاجئ النائمين لكنّ أجسادهم تبقى كاملةً، في حين أنّ رُعب الأجساد المتناثرة يُحوّل الحِداد إلى أحجيةٍ رهيبة. هنا لا أثر لأيّ سخريةٍ تجاه أوباما و«خطّه الأحمر»، ففظاعة الأجساد المُختزلَة باللحم العديم الشكل، وهو عنفٌ عدميٌّ دفعَ سمر يزبك للكتابة عن «غذاء العدم»Samar Yazbek, Le corps syrien, nourriture du néant, dans Tous témoins, textes réunis par Farouk Mardam-Bey, Arles, Actes Sud, 2021, p. 71-74. ـ والفيلسوفة أدريانا كافاريرو للحديث عن الاستنكار «الفظيع»«يفقد الجسد المفكّك (المفجّر، المجزّأ) فردانيّته. والعنف الذي يقطّع الأوصال ينتهك الكرامة الوجودية التي يمتلكها الإنسان ويجعلها غير قابلةٍ للنظر إليها». انظر: Adriana Cavarrero, Horrorism : Naming Contemporary Violence (2007), trad. William McCuaig, New York, Columbia University Press, 2009, p. 9. ـ تحوِّلَ بفعل الواقع الهجمات الكيميائية إلى شرٍّ أقلّ. الأسوأ هنا أيضاً معنوي. فقد أظهرت التحقيقات المزرية التي ستجريها الأمم المتّحدة، وأكثر منها الاتّفاق الدولي بصدد نزع السلاح الكيماوي الموقّع مع بشّار، أنّ قصف المدنيين اليومي طيلة سنواتٍ مقبول. 

هذا لا يقلّل من الرعب والشعور الجديد بالعجز الناجميَن عن الاختناق بسبب الغاز ـ ليس فحسب لأنّ إسعاف المصابين كان شبه مستحيل، إذ إنّ الإسعاف بأسلوب قبلة الحياة مميتٌ ولم تكن المستوصفات تمتلك إلّا عدداً ضئيلاً من أقنعة الغاز. يجب إعادة قراءة شهادة مجد الديك الذي لم يكن بوسعه العلاج فصوّرَ القتلى الثلاثمئة في زملكا لتوثيق الجريمة: «كنت قبل كلّ صورةٍ أطلب الصفح من الميّت. الصفح لأنّني ما أزال على قيد الحياة». ذهبَ إلى مركز توثيق الانتهاكات لإرسال الصور إلى وسائل الإعلام، ثمّ انتابته كوابيس الصحو بعد عدّة ليالٍ من الأرق. كما يحكي أنّه ساعد الناجين من اللجنة المحلّية في توصيل المعلومات إلى وسائل الإعلام الأجنبية وأنّ الجميع أخذوا ينتظرون الضربة الأميركية التي أُعلن عنها قبل سنة؛ ثمّ فهموا أنّها لن تحدث ـ إذ أدّى تغيير موقف بريطانيا العظمى إلى تغيير موقف الولايات المتّحدة ـ فاستأنفوا معركة البقاء اليومية التي باتت أكثر صعوبةً بسبب التخوّف من هجمةٍ كيميائيةٍ جديدة. فقد أفشل مقاتلو الغوطة خطّة بشّار الاستراتيجية القاضية باختراق المنطقة المحاصرة عبر زملكا، لكنّنا نعلم ما حدث بخصوص وعد تسليم الترسانة الكيميائية. يقول مجد الديك: «ربّما اختفت المجزرة تماماً من ذاكرة الولايات. ما لم يعلموه هو أنّ الناس أمضوا شهوراً كاملةً وهم يبحثون عن أقاربهم». 

لقد حوّلَ القمع الدامي للمظاهرات، وتعذيب الأطفال وإعدامهم والحواجز والمجازر، ثورةً تحظى بالإجماع إلى حربٍ أهليةٍ ودُفِعَ حتّى المنشقّون السلميون إلى حمل السلاح. بعد عامين، أدّى الهجوم الكيميائي إلى جعل النزاع راديكالياً ومذهبياً، كما دفع الخلافات في صفوف المعارضة إلى ذروتها وأضعف الجيش السوري الحرّ لصالح الكتائب الإسلاموية التي سرعان ما ازدهرت بشدّة. كتب مجد الديك أيضاً حكاية الاستيلاء على الأملاك في الغوطة الشرقية. نجد في ما كتبه إجاباتٍ دقيقةً عن أسئلة سميرة الواخزة بصدد اختفاء البضائع والأدوية، بعد سؤالها عن «المحرِّرين»: «أين من حرّروا المكان؟ لماذا لا يقفون بوجه تجّار ومرتزقة المكان؟»؛ تتّسمُ سخرية سميرة هنا بمعنيين. فقد اختفى بعض المحرِّرين وبقي آخرون يسمحون للمستفيدين من الحرب و«المرتزقة» بالتصرّف على هواهم ـ إلّا إذا كانوا هم أنفسهم قد أصبحوا مستفيدين من الحرب ومرتزقةً.