بدأ المزارعون في الشمال السوري قطف ثمار الزيتون من أراضيهم، وسط تحديات وصعوبات جمّة تترافق مع غياب الفرحة التي اعتادوا عليها في كل موسم أثناء عملية جني المحصول، بسبب اعتداءات قوات النظام السوري وحلفائه على الأراضي المنتشرة في غالبيتها على خطوط التماس، والتي تصاعدت منذ مطلع شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الجاري.
ويعتمد أهالي منطقة إدلب على الزيتون كموسم رئيسي لهم، ويترقّبونه طوال السنة أملاً في أن يكون موسماً مميزاً يساعدهم على تأمين المؤونة التي يخزنوها كل عام، بالإضافة إلى الأرباح التي تسمح لهم بإعالة عائلتهم. إذ يبدأ موسم القطاف سنوياً منذ منتصف شهر تشرين الأول وينتهي في نهاية كانون الأول (ديسمبر).
وتحتل شجرة الزيتون مكانةً مهمةً لدى أهالي إدلب، خاصةً في موسم حصاده، حيث تجري زراعة صنفَين رئيسيَّين من الزيتون في المنطقة الممتدة من جسر الشغور غرباً إلى تفتناز شرقاً وجبل الزاوية جنوباً وحارم شمالاً، وهما «الصوراني» و«الرصاصي»، ويتوجه غالبية المزارعين بعد جني ثمارهم إلى المعاصر لإنتاج الزيت المتميز بجودته، وقلة منهم يبيع الزيتون للاستهلاك المباشر.
نزهة الزيتون
مع بداية موسم القطاف في كل عام تخرج العائلات إلى «رحلة الزيتون»، وقد رافقت الجمهورية.نت مع شروق الفجر رحلة المزارع عبد الله الصالح الذي يملك 30 دونماً في بلدة إحسم التابعة لمنطقة جبل الزاوية جنوبي إدلب، والتي بدأت بتجمع العائلة أمام المنزل وتحميل السلالم والأكياس والقطع القماشية الكبيرة ولوازم الفطور في سيارته من نوع بيك أب.
وحين وصولنا إلى أرضه الزراعية التي يُطلِق عليها اسم «الكَرم»، بدأ الفتية بنصب السلالم التي تصل إلى أعلى الأشجار وفرش القطع القماشية أسفلها، وشرعت النساء بجمع الزيتون المتساقط ووضعه داخل أكياس البلاستيك البيضاء، بالإضافة لقيام بعضهن بقطف الأجزاء السفلية من الأشجار.
يقول الصالح إن موسم الزيتون يُعتبر مصدر رزقٍ له ولعائلته المكوّنة من 8 أفراد في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة في إدلب وعدم توفر فرص العمل، متابعاً بوجهٍ عابس: «هذا العام ليس وفيراً كما في الأعوام الماضية بسبب تغير المناخ، ما أثر سلباً على زهرة الزيتون وكمية الإنتاج».
بعد مضي ساعات من العمل، تجمّعت العائلة وبعض الأقارب لأخذ قسطٍ من الراحة، بينما يعمل الأطفال الصغار على جمع العيدان الصغيرة بهدف إشعال النار لتحضير الشاي، الذي وصف الصالح طعمته وأجواءه بالـ«خاصّة والمميّزة».
تبعد أرض الصالح من خطوط التماس مع قوات النظام السوري قرابة 5 كيلومتراتٍ فقط، ويُعتبر الوقوف بداخلها خطيراً، لكنّ المزارع برّر مجيئه إليها بقوله: «لقمة العيش مغموسة بالدم، فأنا لدي فتية بحاجة إلى الزواج، بالإضافة إلى أن الشتاء على الأبواب ونحن بحاجة إلى مونة الزيت والزيتون والحطب للتدفئة». وأوضح الصالح في حديثه للجمهورية.نت أنه في نهاية القِطاف يقطع الأشجار المريضة لاستخدامها للتدفئة أثناء فصل الشتاء، بالإضافة إلى أنه يُخزّن كميات من الزيتون لاستخدامها في «التكليس والدق».
في المقابل، حدّثتا المزارع عبد الرزاق عبد السلام عن أمله بالوصول إلى أرضه التي تحوي على أكثر من 300 شجرة زيتون، والتي لم يستطع جني محصولها منذ أربع سنوات بسبب وقوعها على خطوط التماس بين فصائل المعارضة السورية والنظام السوري على أطراف بلدة آفس شرقي إدلب.
يقول عبد السلام إن أشجاره احترقت في معظمها وباتت مريضة، ولكنها رغم ذلك مليئة بالزيتون بحسب معلوماتٍ وصلته من عسكريين من فصائل المعارضة، مشيراً إلى أنه يمكن قطف المحصول السنوي، ولكنّ القوة العسكرية التي تتواجد بالقرب منها تحوْل دون ذلك، فالأرض تحت مرمى قناصة النظام ونيران دباباته.
وتأثرت المناطق الشمالية الغربية من سوريا، وخاصّةً المحاذية للحدود السورية التركية بعد عام 2011 بعوامل عديدة أدّت إلى تراجع الزراعة، أبرزها تبعات العمليات العسكرية وهجرة المزارعين لأراضيهم. كما لعب عدم الاستقرار الأمني في المنطقة دوراً هاماً في هذا التدهور مع تبدل السيطرة العسكرية عليها وعدم وجود جهات حوكمة قادرة على الإشراف على هذا القطاع واتخاذ الإجراءات اللازمة لتعافيه، وذلك وفقاً لدراسةٍ أعدها مركز عمران للدراسات.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مجمل إنتاج الزيتون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، في محافظات حلب وإدلب والرقة ودير الزور والحسكة ومنطقة الغاب يُقدّر بحوالي 363.073 طناً؛ أي ما يقارب 49 بالمئة من مجمل الإنتاج السوري حالياً، وذلك بحسب مكتب الزيتون في وزارة الزراعة التابعة للنظام.
موسم الزيتون ليس وفيراً
يقول رئيس دائرة وقاية النبات في حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام المهندس عبد اللطيف غزال للجمهورية.نت: «هذا الموسم أقل إنتاجاً من الموسم الماضي، وذلك لكون أشجار الزيتون تتصف بالمعاومة، والتي تعني أن إنتاج الشجرة يكون جيداً في عام وضعيفاً في العام التالي».
وبحسب غزال، فإن أعداد أشجار الزيتون في منطقة إدلب يُقدر بـ10 ملايين شجرة، وأن المساحة المزروعة تُقدر بـ95 ألف هكتار، موضحاً أن أكثر الأصناف انتشاراً هي الصوراني المعري، والقيسي، وأبو شوكة، والكبربري، والخضيري، والحمصي، لافتاً إلى أن أكثر المناطق إنتاجيةً شمالي سوريا هذا العام هي منطقة سلقين وريفها.
ويضيف غزال أن العديد من المزارعين لم يتمكنوا هذا العام من جني محصولهم بسبب قرب أراضيهم من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، ولا يقتصر الأمر عليهم فقط، وإنما يطال القصف الحقول البعيدة عن نقاط التماس، والتي يتم استهدافها بشكل مباشر من قبل طائرات النظام ومدفعيّاته الثقيلة.
ورغم سوء إنتاج هذا العام من الزيت في إدلب وعدم تمكن العديد من جني محاصيلهم، فإن سعر الصفيحة لا علاقة له بالناتج المحلي وفقاً لغزال، مشيراً إلى أن ارتفاع سعر تنكة الزيت يعود إلى ارتفاع أسعار الزيت عالمياً، بحسب قوله.
وارتفعت أسعار زيت الزيتون عالمياً خلال موسم 2022-2023 بأكثر من 40 بالمئة مقارنةً مع الموسم الماضي 2021-2022، وبلغ سعر كل 100 كيلوغرام من زيت الزيتون الممتاز 519 يورو.
تكلفة الموسم
خلال إعداد هذا التقرير التقينا أيضاً مع المزراع باسل سيد إبراهيم، الذي حصد أرضه التي تحوي على 530 شجرة زيتون في مدينة حارم شمالي إدلب، مؤكداً أنه دفع قرابة 700 دولاراً أميركياً مقابل جني المحصول، منوّهاً إلى أنه استعان بـ35 عاملاً للحصاد، وبأجرة يومية تبلغ دولارين ولمدة 10 أيام.
وتابع في حديثه للجمهورية.نت أنه عمل أثناء جني المحصول على نقل الزيتون بشكل يومي بسيارته الشخصية إلى معصرة الزيتون لعصره وتعبئته ضمن صفائح (تنكات)، مؤكداً أنه حصل على قرابة 4500 كيلو زيت، قام بتعبئتها ضمن 300 صفيحة (16 كيلوغراماً لكل واحدة).
وأشار إلى أن أصحاب معاصر الزيتون لا يتقاضون أموالاً من المزارعين، إذ يحصلون مقابل العصر وتعبئة الزيت داخل الصفائح على 2 بالمئة من نسبة الزيت بالإضافة إلى حشوة الزيتون بعد العصر، والتي تُسمى «البيرين» وتستعمل في التدفئة.
سعر الزيت وأسباب الغلاء
عقب انتهاء المزارع من عصر الزيتون وتعبئة الزيت داخل الصفائح في المعاصر، يتوجه التجار إلى شراء الزيت بعروض مختلفة من داخل المعاصر، حرصاً منهم على عدم العبث بالزيت عقب خروجه من المعصرة، وذلك بحسب ما أخبرنا به تاجر الزيت مصعب حاج إبراهيم.
يؤكد حاج إبراهيم أن أسعار الزيت هذا العام أعلى من العام الماضي بنسبة 40 بالمئة، إذ وصل سعر تنكة الزيت الواحدة هذا الموسم إلى 85 دولاراً أميركياً، بينما كانت تُباع العام الماضي بحدود 40 دولاراً أميركياً فقط.
وبخصوص آلية التسعير، أوضح حاج إبراهيم أن سعر الزيت يختلف بحسب أنواعه ونسبة الأسيد فيه، إذ يبلغ سعر الصفيحة ذات الـ«أسيد 5» 85 دولاراً، و«أسيد 12» 65 دولاراً، مضيفاً أن سعر الزيت المُخزّن من العام الماضي يبلغ سعره اليوم 55 دولاراً.
وعزا التاجر غلاء الزيت إلى سببٍ واحدٍ فقط، وهو تصديره إلى دول أوروبا، وتحديداً دولة إسبانيا «بسبب مطابقة مواصفاته لجميع الشروط المطلوبة هناك، وتمتعه بخاصية ‘الزيت العطري’؛ الذي لا ينحلّ بالماء ويحمل رائحة الزيتون الخالصة». وأوضح أن التجار الإسبان طلبوا من تجار إدلب إجراء تحاليل عدّة على الزيت قبيل تصديره، وهي تحاليل الحموضة والبروكسيد والدلتا، والتي كانت نتائجها «ممتازةً» بحسب تعبيره، الأمر الذي سمح للتجار بتصدير كميات كبيرة من المخزون المحلي بأسعار مرتفعة، ما انعكس سلباًً على المستهلكين وعاد بالنفع على التجار والمُصدّرين بالدرجة الأولى.
عجز المستهلكين الشرائي
يمثّل زيت الزيتون وجبةً أساسيةً لدى شرائح واسعة من السوريين، ولكنّ الغلاء وهجرة الآلاف من المزارعين لأراضيهم خلال سنوات الحرب حرمهم من مونته، إذ تروي ليلى العلي، المُهجرة من بلدة حيش جنوبي إدلب وتسكن حالياً في مخيم العودة في بلدة كللي شمالي إدلب، أنها تعتمد هي وعائلتها المكونة من 9 أفراد على زيت دوار الشمس منذ تهجيرهم «لعدم قدرتها على شراء زيت الزيتون».
وتوافق جارتها السيدة أحلام الباشا، المُهجرة من بلدة كفرنبل، كلام السيدة ليلى، وتقول إنها تعتمد على خلط كل كيلو زيت زيتون بكيلو زيت نباتي بهدف الحصول على كمية زيت أكبر، مؤكدةً أن هذه الطريقة هي الحل الأنسب لعائلتها التي تحتاج إلى خمس صفائح زيت سنوياً.
من جهتها، تتحسر السيدة نوال عبد الحميد المُهجّرة من مدينة طيبة الإمام بريف حماة وتسكن مخيم أطمة شمالي إدلب على عدم شرائها زيت الزيتون منذ سنوات، إذ تعتمد على الزيت النباتي الذي تحصل عليه من المساعدات الشهرية التي تقدمها المنظمات الإنسانية في الطبخ وتحضير جميع الوجبات.
وفي عام 2019 وضعت منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) في خطتها هدفَ مساعدة 3.5 مليون شخص بمبلغ 120 مليون دولار بمشاريع تدعم الإنتاج الزراعي وتحدُّ من نقص الأمن الغذائي الذي يعاني منه 6.5 مليون سوري وسورية بشكلٍ حاد، في حين يوجد 2.5 مليون آخرين مهددين بالتعرض لنقص الأمن الغذائي.