لم يكن مطلوباً من فيلم يحكي قصّة شخصيّة بحجم نابليون بونابرت، سبقته حملة إعلانيّة ضخمة ودَفعت لأجله عملاقة التكنولوجية آبّل حوالي 200 مليون دولار، أن يحكي التاريخ كما هو، فذاك أصلاً مُختلَفٌ على تفاصيله. ولم يكن مطلوباً أيضاً أن ينقل الشخصية بِسِماتها المعروفة تاريخياً، بل على العكس تتطلّب شخصيّة نابليون تدخُّلَ صانع محترف ليبتكر سِمات في هذه الشخصيّة يواكب بها السينما أكثر مما يواكب بها التأريخ، ويخرج بها عن التوثيق الكلاسيكي لشخصيّة القائد العسكري الفذّ، فيجترح سياقاً غير موثّق وغير معروف يربطه بالتاريخ والحدث الموثَّق، وبالديكور والملابس. لكن فيلم نابليون الجديد لريدلي سكوت جاء مُرتبِكاً، يريد أن يروي التاريخ حيناً، ولا يريد أحياناً. يهمّ لبناء شخصيّة بِسِمات افتراضية، فيصطدم بعراقيل في ذلك، أو ربما يشغله المَروي الموثّق أيضاً، فيجد نفسه في منتصف الطريق دون هدف سينمائي تم تحقيقه بشكل كامل.
ليس مُستغرَباً كم الانتقادات وتنوّعها حول نابليون الذي يتصدّر شبابيك التذاكر اليوم في الكثير من بلدان العالم، والذي سبقته حملة إعلانية مهولة وصلت حدّ إرخاء ملصق عملاق فوق قوس النصر في باريس. فعادةً ما تَخلق أفلام تحكي سير شخصيات ذات أثر كبير في التاريخ جدلاً يعيد الشخصية ذاتها إلى طاولة النقاش والنقد، بل ويتطلّب قراءات جديدة فيها. الجدل في حالة نابليون لم يكن كذلك تماماً، فموقف الفيلم من الشخصيّة، وهو موقف مرتبك، تفصيلٌ يمكن نقاشه، لكن الأهم هو السطحيّة الواضحة في قراءة الشخصيّة، وفي تقديم الحدث التاريخي. الفيلم أراد من نابليّون معاركه، وقصّة حبّه، ولا شيء مهم بعد ذلك.
في التاريخ حاول الفيلم حشد أكبر قدر من المعارك الموثّقة بأسمائها وتواريخها، إلى درجة يبدو معها أن الجانب التوثيقي هو نقطّة محوريّة يريدها الفيلم، لكن مُبرّر ذلك هو أن مشهد المعركة كان هو المرتكز الفني الأساسي الذي يريده الصّانع. يبلغ عشق ريدلي سكوت لحشد المعارك والخيول والأسلحة أشدّه، وهو المخرج المعروف بميله نحو هذه الصناعة، وهنا بالذات توفّر له شخصيّة نابليون ما لا توفّره شخصيّات أخرى، فالمعارك متعددة البيئات والأجواء، من البرد القارس في معارك الشمال التي خاضها ضد الروس، والتي تتيح للقذائف المدفعية اختراق البحيرات المتجمّدة التي تجري المعارك فوقها، إلى الغابات والجبال والبحار. قدّمَ نابليون لريدلي سكوت ساحات متعددة يمكنه تجريب ما يشاء فيها، والخروج بتجربة لم يخضها في معارك أفلامه السابقة. وهنا يمكن القول إن إخراج المعارك كان متقدّماً فنياً ومبهراً بصريّاً، ويجب القول أنَّ لإغداق المُنتِج مالياً اليد الطولى في ذلك.
يعترض المؤرّخون، ومنهم المختصّون في دراسة تاريخ بونابرت، على قضايا تاريخيّة متعددة في الفيلم، منها حضوره الشخصي في بعض المعارك، ولقاؤه المباشر مع أعدائه على طاولات عشاء، وهو ما قد يكون له مبرره السينمائي من وجهة نظر صانعي الفيلم، فليس من الجيد صناعة معركة عملاقة في فيلم بطله نابليون، دون أن يكون حاضراً بشكل مباشر فيها، يحمل السيف فيها قبل البندقيّة، ويقف في مقدمة الجيش أحياناً. أما اجتماعه مع أعدائه فهو ما يصعب تأكيده أو نفيه تاريخياً، ولكنّه يخلق دراما في سيناريو فيلمٍ يفتقر إليها. أمّا أن يقصف الأهرامات، ويستهتر ويسيء لمومياء فرعونية بشكل مباشر، فهو ما يبلغ ذروة في المغالطة التاريخية، ذلك أنه وإن كان التوثيق صعباً، إلا أن ذلك مُنافٍ للمنطق. من المعروف والمُوثَّق والثّابت أن واحدة من أشد اهتمامات نابليون وضوحاً هي الآثار والوثائق، ومن ذلك سرقته لها، ولعلّ اللوفر لم يُصبح متخماً إلى درجة فائضة في تاريخه إلا بعد نابليون الذي جلب الآثار إليه من المناطق التي احتلّها. بل إن اهتمام الأوروبيين بحضارة الفراعنة، وبزوغ علم المصريّات، لم يكن إلا بعد حملة نابليون على مصر حين فتح عيون الغرب كلّه على حضارة الفراعنة.
حَكمَ الإعلان الدعائي على الفيلم قبل صدوره بأنه هوليودي كلاسيكي لا شيء مبتكر فيه، حيث نال الإعلان حصته من النقد، بل والسخرية، لأنه تضمّنَ جملة «جاء من لا شيء وغزا كل شي»، باعتباره من جهة يبدو كإعلان لقصة نجاح هوليوديّة ومن جهة أخرى لا يُطابق الحقيقة، فنابليون الذي غزا كل شيء، لم يأت من لا شيء، فهو إن لم يكن من نبلاء فرنسا في ذلك الوقت إلا أنه لم يكن أدنى منهم بكثير؛ بدأ حياته عسكريّاً ناجحاً، ما يعني أن قوته وحنكته العسكريّة جاءت من مصدر طبيعي لا يحمل هذه الاستثنائية البالغة.
أراد المخرج استخدام موهبة الممثل خواكين فينكس الفذّة في تكوين سمات الشخصيّة وتصرفاتها وردود أفعالها الجسديّة، وانطباعاتها، وحاول من خلال ذلك أيضاً ألّا يُضفي على الشخصيّة مكونات كلاسيكية مستهلكة عادة ما ترسم شخصية الأبطال التاريخيين، لكن ذلك أيضاً جاء مستهجناً إلى حدّ ما، فطريقة تلقّي حديث الآخرين، واستصغار كل شيء، ظهرت أحياناً بشكل كوميديّ. يكاد يغفو نابليون وهو يستمع لسواه، بل هو بالفعل يغفو واقفاً أحياناً، حتى خلال الحرب والحوارات الهامّة. أما استمتاعه بالطّعام والجنس وما إلى ذلك، فجاء في سياق منطقي مناسب لشخصيّة كتلك. نابليون الذي يخوض الحروب، يستقطع منها أوقاتهاً ليعود إلى غرفة نوم حبيبته ثائراً بحاجة إلى الجنس، فيمارسه بسرعة بوضعية يأتي فيها زوجته واقفاً خلفها. أراد المخرج بث شهوانيّة حيوانيّة ما في الشخصيّة، فهو يطلبُ الجنس بأن يُصدِرَ صوتَ حيوان، فتبتسم جوزفين وتُخلي له المكان وتمنحه ما يريد.
لعبت قصّة الحب دوراً محوريّاً في الفيلم، وتم منحها القيمة المصيريّة في حياة نابليون منذ البداية، إذ تُجبره جوزفين على أن يقول لها بأنه لا شيء دونها، ليصبح طفلاً صغيراً في فراشها، يحبّها حتى وهو يطلّقها، يتوجّه إليها برسائله موثِّقاً حروبه كلّها وكأنه يخوضها لأجلها، ويرفعها إلى قيمة بلاده فيقول إنه يمتلك شيئين؛ «فرنسا وجوزفين». لعبت تلك القصة دوراً مؤثراً في حياة بونابرت بلا شك، إلا أن الفيلم استخدمها بشكل طاغ على مفاصل كثيرة تَجنَّبَها كليّاً. بل كرّسها كرابط يمنع تفكُّك القصة بين معركة وأخرى. في الفيلم لم يكن هناك سياسة، ولا مجتمع، هناك حب وحرب فقط، تُرمِّمُ المعاركُ الثغرات في قصة الحب، وتملأ جوزفين ما بين سطور المعارك.
يتحدّث نابليون بإنكليزية أميركيّة واضحة. كان يمكن أن يمرّ ذلك لو أن انكليزيّته تلك كانت أداة سينمائية في مكان ما لخلق أي تغيير، أو خلق أي بنية فنيّة فريدة لا يمكن بناؤها بلغة نابليون الأصليّة. لكن تلك اللغة جاءت أيضاً كنقطة ضعف محوريّة هوجم الفيلم عليها، خاصة من قبل دوائر النقد في فرنسا التي تنتمي الشخصيّة لها، إذ كان نابليوناً أميركيّاً هوليوديّا خالصاً لا يُمكن أن يُرَى إلا بهذا الشكل، واللغة كانت إحدى أدوات ثبوت هذه الصفة. ليبراسيون وصفته بالسيء والفظّ والمُسيء للتاريخ.
يحب ريدلي سكوت التاريخ، خاصة تلك المراحل القديمة نسبياً، والتي لا يملأ التوثيق كل ثغراتها، فيجد في تلك الثغرات أماكن للسينما، يبني فيها قصصاً بعضُها خالي، ويعتمد أحياناً على الأسطورة فيستمدّ منها ما يجعل من الحادثة التاريخيّة أكثر إثارة وقدرة على نسج البناء الحكائي. لكنه يقع في ضياع البوصلة، وهنا ليس فيلم نابليون وحده المقصود، بل هي مشكلة عانت منها أفلام عديدة قدّمها سكوت، ذي الخمسة وثمانين عاماً، وكان موضوعها التاريخ. وفي مقدّمتها فيلم مملكة الجنّة، الذي ذاع صيته في عام إنتاجه 2005 بتوجهه نحو رؤية أكثر اعتدالاً من الرؤى الغربية الشائعة عن الحروب الصليبية، إلا أنه أيضاً وقع في مشكلة بناء القصة التي لا تنتمي للتاريخ، فروى ما لم يحدث، وكوّنَ ما لم يكتمل دراميّاً. لكنّه كالعادة أجاد في صناعة المعارك، كما حدثَ في نابليون تقريباً.