تحاول إسرائيل منذ عقود سرقة أملاك الفلسطينيين والاستيلاء على أراضي المزارعين منهم. الفلسطيني مزارعٌ في الأصل، وتعني له الأرض كل شيءٍ تقريباً، في حين تسعى إسرائيل لقطع هذا الرابط بينه وبين أرضه، سواء بتهجيره منها أو سرقتها أو انتزاعها بموجب قوانين استعمارية أو باعتداءات تطال شجر الزيتون، لتخلق هذه الدولة معضلةً تاريخية وهوياتية بينها وبين شجر الزيتون الفلسطيني، الذي يُعطي الزيت الأشهى في العالم بالنسبة للفلسطينيين.
قضم أراضي الضفة الغربية
منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967، استولى الاحتلال الإسرائيلي على 2380 كم مربع من المناطق المصنفة «ج»، وهي تخضع للسيطرة الإسرائيلية حسب اتفاقية أوسلو، وتشكل ما نسبته 61 بالمئة من مساحة أراضي الضفة الغربية التي تسعى إسرائيل طوال الوقت للاستيلاء على أراضيها المسجلة بأسماء الفلسطينيين، أو طرد من يسكنها منهم، على اعتبار أنها مناطق عسكرية مغلقة في غالب الأحيان.
يعيش في الضفة الغربية نحو 762 ألف مستوطن-ة، يتمركزون في 362 مستعمرة وبؤرة استيطانية، تعترف سلطات الاحتلال بنحو 176 منها، ويشمل هذا المستوطنات المبنية في القدس الشرقية، بينما يوجد 186 بؤرة استيطانية غير مُعترَف بها رسمياً من حكومة الاحتلال. يصحّ القول إن البؤر الاستيطانية هي أنوية لمستوطنات جديدة، البعض منها يبدأ على شكل خيمة، وبعضها يبدأ بكرفان أو مبنى متنقل أو كوخ خشبي. وبعد أن يظهر تواجد مادي للمستوطنين في أي موقع جديد يأتي دور موقع الحراسة، وتتبعه بعد ذلك مواقع السكن، ثم الربط بالخدمات الأساسية.
الحقيقة أنه من الصعب الحديث عن المساحات التي تسيطر عليها سلطات الاحتلال أو التي تسعى للسيطرة عليها، فلا يوجد مساحات محددة كمعطى إحصائي ثابت، ولدى منظومة الاستيطان الاستعماري رغبة دائمة في التوسّع والتهام أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية.
يقول أحمد فرج، المزارع من قرية دير نظام شمالي غرب مدينة رام الله: «القرية محاصرة حصاراً كلياً. أعتقد أن المزارعين لم يستطيعوا هذه السنة قطف 90 بالمئة من الزيتون حتى الآن، وأقربهم واحد من جيراننا يبعد محصوله عن باب بيته ما لا يزيد عن 150 متراً، اقتلعوا له 50 شجرة، وعندما ربط إحدى الشجرات بحبلٍ حتى يسحبها إلى باب بيته ويُلقِّطها أطلقوا عليه النار؛ ‘الهدف إنه ما يكون في موسم زتون السنة’».
يقول تقرير لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان عام 2022 إنه تم رصدُ 10291 شجرةً اقتلعها الاحتلال أو تعرضت لاعتداءات مستوطنين، وهذه الاعتداءات تكون إما بالاقتلاع أو التخريب أو تسميم الشجرة، ومن بين هذه الأشجار 354 شجرةً مُعمِّرة.
عطا الله التميمي مزارعٌ من قرية النبي صالح الواقعة شمالي غرب مدينة رام الله، لم يستطع منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الوصول إلى أرضه. لديه 2700 دونماً في «مناطق ج»، وهو لا يستطيع التصرُّف بها أو زراعتها أو حرثها. يقول: «قبل الحرب ممنوع ندخل أرضنا إلا بتنسيق أو تصريح، لأنه إحنا قرب مستوطنة حلميش وأراضينا بالقرب من منازل المستوطنين والمدخل من هناك عليه حاجز دائم. كل سنة بناخد تصريح عشان نقطف زتون، ولكن حالياً ممنوع. إحنا ممنوع ننزل بعد بيوت قرية النبي صالح باتجاه الشارع الرئيسي إطلاقاً. يمكن يقتلوك مباشرةً إذا نزلت. الحاجز مغلق، وبعد البيوت بأمتار ممنوع حد ينزل، ويعتبروا منطقتنا منطقة عسكرية مغلقة تماماً».
ما الذي تغيّر بعد الحرب على غزة؟
حسب الأمم المتحدة فإن هجمات المستوطنين ارتفعت بأكثر من الضعفين منذ بدء الحرب على غزة، حيث يستهدف المستوطنون الفلسطينيين بشكلٍ واضح يهدف إلى القتل، وهذا الواقع ليس مستجداً مع الحرب، إذ إن اعتداءات المستوطنين بحق الفلسطينيين كانت تتكرر على الطرقات حين يتحرك الفلسطينيون من مدينة لأخرى، وكانوا يتعرضون للرش بغاز الفلفل ورشق مركباتهم بالحجارة ودهسهم، بالإضافة إلى اعتداءات شبه يومية على الأراضي وتحديداً أشجار الزيتون.
ووفق تقرير لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان نُشر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، يقول رئيس الهيئة مؤيد شعبان إن الاحتلال الإسرائيلي بقواته ومستوطنيه نفّذوا خلال شهر تشرين الأول الماضي 2074 اعتداءً بحق الفلسطينيين. ويعتبر أن عدد الاعتداءات التي نفذها المستوطنون فقط في هذا الشهر قد بلغت رقماً قياسياً بتسجيلها 390 اعتداءً في شهرٍ واحد، تسببت بمقتل 9 مواطنين فلسطينيين على يد المستوطنين المسلحين 6 منهم في مذبحة قُصرة.
في 12 تشرين الأول (أكتوبر) هاجم مستوطنون منازل سكان قرية قُصرة الواقعة جنوبي شرق نابلس، فقتلوا معاذ الذي ذهب إلى منزل خالته عندما سمع الأخبار، بالإضافة إلى الشابين عبادة ومصعب، وأصابوا آخرين. وفي اليوم التالي، خلال تشييع القتلى، كان المستوطنون يتربصون في الطريق الذي سيمشي فيه الفلسطينيون، وكانوا يختبئون بين الأشجار، وعند وصول الموكب هاجموا المركبات بالحجارة وحاولوا الاعتداء على سيارات الإسعاف، وعندما نزل الفلسطينيون من مركباتهم ليحتموا من الهجوم، أطلق المستوطنون الرصاص بشكلٍ مباشر، فقتلوا إبراهيم وادي وابنه أحمد.
وأكد تقرير هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن هذه الهجمات طالت المواطنين أثناء قطاف الزيتون، ما أدى إلى انحسار الموسم إلى حدوده الدنيا، موضحاً أن المستوطنين شنوا أكثر من 126 هجمة عنيفة ضد قاطفي الزيتون، 55 حالة منها ترافقت مع إطلاق النار، وفي 41 حالة كان هناك تهديد وإشهار أسلحة، وفي بعض الحالات «صادروا» المحصول واعتدوا على الفلسطينيين بإطلاق النار والضرب. هذه الهجمات تسببت باقتلاع وحرق 3465 شجرة، منها 2730 شجرة زيتون في محافظات الخليل ورام الله ونابلس وقلقيلية.
وحسب المزارع أحمد فرج، فإن الواقع قبل الحرب على غزة لم يكن أفضل. يقول: «كنا نحتاج ‘تنسيقاً’ إسرائيلياً قبل مدة شهر حتى نتمكن من التقاط الزيتون، ويعطوننا مدةً زمنيةً محددة مع فحص أمني وحجز هويات، ولا يسمحون بالدخول سوى للمُسنين والنساء. هناك تضييق من نواحي عديدة، والموسم الذي من الممكن أن نقطف منه 200 كيلو لا نستطيع التقاط أكثر من ربعه. كل محاولات الناس للنزول إلى أراضيهم في الأيام الماضية كانت تنتهي بالطرد. السبت الماضي حاول الناس النزول، ولكن الجندي الإسرائيلي كان ينادي بأنه سيطلق النار على من يقترب، كما كانوا يحذروننا من الاقتراب بإطلاق الرصاص في الهواء».
حاول فرج أن يتواصل مع الجهات الفلسطينية التي تنسّق مع الجهات الإسرائيلية: «قالولي بعد 10 الشهر رح يحكوا مع الجانب الإسرائيلي، وإجا 7 أكتوبر وصارت الحرب. لا أنا اتصلت ولا هما رجعولي».
حاول العديد من الفلسطينيين منذ بداية أكتوبر الماصي الوصول إلى أراضيهم لقطف الزيتون، إلا أنهم مُنعوا من ذلك، وهُدِّدَ البعض بمصادرة معدّاته الزراعية. في 28 أكتوبر أطلق أحد المستوطنين رصاصةً في صدر الفلسطيني بلال محمد صالح (40 عاماً) وتسبب بقتله. صالح كان متواجداً مع رفاقه لقطف الزيتون في بلدة الساوية جنوب نابلس.
وانحسر موسم الزيتون
بُنيت مستوطنة «حلميش» عام 1977 على أكثر من 4000 دونم من الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها من قريتي النبي صالح ودير نظام التابعَتين لمدينة رام الله في الضفة الغربية. اعتاد المستوطنون أن يضايقوا الفلسطينيين في قريتي النبي صالح ودير نظام مُتّبعين كل أساليب الترويع الممكنة، وهو الأمر الذي ازداد بعد 7 أكتوبر وطال أراضي الفلسطينيين هناك.
يضيف فرج: «أنا بالعادة بعمل 50 تنكة زيت. السنة عملت تنكة ونص، والموسم انتهى فعلياً. بعد المطرة الأخيرة إذا ما لقطتهم فالزيت بيطلع على الحب، يعني حب الزِّتون بصير يعطيك زيت 10 بالمية. الزتون مع مرور الوقت بصير مش منيح، الزيت الباقي فيه بيروح مع الغسيل».
يعتقد كثيرٌ من الفلسطينيين في الضفة الغربية أن المستوطنين هم من يحكمون حياتهم، وهو ما ينعكس على تفاصيلهم اليومية جميعها. المستوطنات الإسرائيلية في كل مكان في الضفة الغربية، وواقع اتساع رقعتها أمرٌ حاضرٌ طوال الوقت، وهذا الواقع مفروضٌ بقوة السلاح من جهة، وبتشريعاتٍ إسرائيلية من جهة أخرى.
حاول الفلسطينيون في مرّاتٍ لا حصر لها اللجوء للقانون؛ الذي هو أيضاً إسرائيلي، لمواجهة اعتداءات المستوطنين ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أراضيهم. هذه المحاولات غالباً لا تعود عليهم بالنفع، وتُغلَق الملفات في إطار «عدم كفاية الأدلة». فأحد جذور المشكلة هو أن هذه الاعتداءات تكون في الأصل بحماية جنود الاحتلال الموجودين في كل نقطة فاصلة في الضفة وعلى مرأى ومسمع منهم، وأحياناً تترافق مع اعتداءاتٍ تطال المواطنين على يد جنود الاحتلال مباشرة.
يُحدّثنا المزارع عطاالله التميمي: «إحنا رفعنا قضية من سنتين بالاشتراك مع أحد المجالس القروية التابعة لقرية مجاورة بسبب الحاجز الذي وضعوه عند معسكر النبي صالح على مدخل الشارع الرئيسي. ذهبنا إلى الجلسة ووكلنا محامية إسرائيلية. ادّعت النيابة أن المستوطنين يصلّون هناك عند الحاجز. الكلمة العليا للمستوطنين، فاليمين الإسرائيلي المتطرف هو الذي يحكم. لدينا قطعة أرض تبلغ مساحتها 18 دونماً، وفي الموسم الجيد تُعطي 150 تنكة زيت، ولكننا لم نحصل على شيء هذا العام. نستطيع اليوم الذهاب إلى الصين، ولكن ليس بوسعنا الوصول إلى أرضنا التي لا تبعد سوى بضعة كيلومترات».
يشبه موسم الزيتون عند للفلسطينيين أيامَ العيد، إذ تجتمع العائلة والأحباب والأقارب ليُعدّوا طبخةً فلسطينيةً مع أول سكبة زيت زيتون، وغالباً ما تكون الطبخة هي المسخّن، ويتسابقون للحديث عن موسم الزيتون وكيف كان مقارنةً بالموسم الذي سبقه.
يقول فرج في نهاية حديثنا معه: «إحنا خسرنا موسم زيتون، غزة قدمت شهداء. شو بدنا نسوي!».