ظهيرة الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر)، وبينما كان قطاع غزة يشهد قصفاً إسرائيلياً عنيفاً طال المدنيين والمنشآت المدنية، عَقَدَ كل من الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مؤتمراً صحفياً حول الحرب على غزة عقبَ زيارة الأخير لإسرائيل. ظهرَ هرتسوغ خلال المؤتمر وهو يحمل نموذجاً من مناشيرَ تم إلقاؤها على قطاع غزة، وادّعى أن إسرائيل، من خلال هذه المناشير وغيرها، تلتزم بتحذير السكان في قطاع غزة كمدنيين وقال: «نحن أبلغنا المدنيين مسبقاً بإخلاء هذه المناطق لأنه من حقنا أن ندافع عن أنفسنا، لأننا نتعرض لقصف مستمر بالصواريخ، لذلك طلبنا منهم الخروج ليتمكنوا من الوصول لمناطق السلامة/الآمنة ويحصلوا على المساعدات، ونتمكّن نحن من الدفاع عن أنفسنا».
حاولت إسرائيل ارتداء قناع قانوني من خلال إلقائها 1.2 مليون منشوراً على القطاع، وإجراء 4 مليون اتصال على الهواتف المحمولة وإرسال 6 مليون رسالة نصية، بحسب هرتسوغ في مؤتمره، وهو القناع الذي ساهم في دفع مئات آلاف السكان المُروَّعين إلى النزوح في حركة هجرة قسرية لم يشهدها قطاع غزة مسبقاً رغم الحروب الإسرائيلية المتكررة عليه، تهجيرٌ حملَ وجهاً مماثلاً للنكبة، حيث قُدِّر عدد النازحين بما لا يقل عن 1.5 مليون نسمة تركزوا في مناطق جنوب وادي غزة كما أمرهم جيش الاحتلال في المناشير ذاتها التي حمل هرتسوغ واحداً منها، ما يفرض تساؤلاً حول مدى قانونية هذه المناشير وغيرها من الأدوات التي استخدمتها إسرائيل في هذه الحرب.
تدرَّجت لغة المناشير في حدَّتها من خلال أربعة نماذج تم استخدامها في شمالي قطاع غزة ومدينة غزة؛ كان النموذج الأول يحمل صيغة توجيهية مع خارطة لقطاع غزة تؤكد على أن «مدينة غزة قد أصبحت ساحة معركة، عليكم إخلاء بيوتكم والتوجه فوراً إلى جنوب الوادي»، فيما جاء الثاني يحمل عنوان «تحذير عاجل»، ويؤكد على أن «الملاجئ في شمال قطاع غزة ومحافظة غزة غير آمنة»، وأن «حماس والمنظمات الإرهابية يستغلون الملاجئ والمستشفيات والمدارس في هذه المنطقة، لذلك وجودكم في هذه الأماكن غير آمن»، مُسمياً منطقة جنوب الوادي بـ«المنطقة الإنسانية».
بعدها، تصاعدت حدة التهديد في محتوى المناشير، إذ حمل الثالث جملة «كل من اختار أن لا يُخلي من شمال القطاع إلى الجنوب من الممكن أن يتم تحديده على أنه شريك في تنظيم إرهابي»، فيما كان الرابع أكثر عنفاً وحزماً عندما خاطب سكان منطقة مخيم الشاطئ: «انتهى الوقت، في الساعات القريبة سوف تقوم قواتنا بقصف مخربي حماس بقوة ساحقة، لا نعدكم أن تكون هناك رسالة أخرى، أخلوا فوراً». وبناء عليه، بات من المهم تقييم هذا المحتوى من حيث قانونيته، ومن حيث إمكانية استخدامه لتبرير ما ارتُكب بحق المدنيين تحت زعم «لقد حذرناهم»؟.
يقول زيد الشعيبي من مؤسسة الحق: «يسمح القانون الدولي الإنساني بأن تحمل المناشير خلال الحروب تحذيرات، لكن الأمر يتعلّق بمحتوى المنشور والتحذير، بمعنى أن ما يطلبه الجيش الإسرائيلي هو أصلاً غير قانوني، فتهجير الناس من مكان لآخر وتهديد الناس في المناشير ومطالبتهم بالإخلاء من الشمال إلى الجنوب هو تهجير قسري حسب القانون، وذلك حتى لو كان بذريعة الحماية. كان استخدام أداة المنشورات إجراءاً شكلياً ليقولوا إننا ’حذرنا الناس‘ وإن هدفنا ليس المدنيين، ولكن منطقياً لا يستطيع المدنيون الإخلاء حتى وإن افترضنا مجازاً أن هذا الطلب قانوني. الإخلاء إلى أماكن آمنة غير قابل للتنفيذ وهو ما ينفي الحالة القانونية والغرض منها».
ويُعتبر «التهجير القسري» انتهاكاً صارخاً بمقتضى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وانتهاكاً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي حظرت تهجير السكان المدنيين من بيوتهم ومناطقهم قسرياً كما ورد في المادة 49 منها: «يحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكناهم إلى أراض أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة».
تقول زهرة (35 عاماً)، وهي نازحة من شرق مدينة غزة، وتحديداً حيّ الشجاعية، إلى غرب المدينة ثم إلى جنوبي القطاع في مدينة خانيونس: «أُلقيت على منطقتنا منشورات. هذا الشيء مرعب، يعود بذاكرتي إلى حرب 2014، حين لم نصدق المناشير التي أُلقيت على حي الشجاعية وتعرّضنا لمجزرة وهربنا تحت القصف. هذه المرة عندما رأينا المناشير أخلينا فوراً. لا يمكننا المجازفة مرة ثانية». وتتابع: «نزحنا إلى خانيونس، ولكن حتى هناك ألقت الطائرات الحربية الإسرائيلية مناشير تطلب من السكان المساعدة في العثور على المحتجزين. حتى جنوب القطاع ليس آمناً، ولا يوجد طعام ولا ماء ولا كهرباء، والغارات تستهدف الناس والعمارات السكنية، ويسقط الشهداء والجرحى، وفي كل يوم يزداد الوضع صعوبة وقسوة».
لا تصيبُ حالة الرعب التي تتسبب بها هذه الممارسات الكبارَ فقط. سارة (13 عاماً) تتحدث عن خوفها من الاتصالات الهاتفية التي تتلقاها عبر الهاتف: «كلما رنّ هاتفي قرأتُ مقدمة الرقم. صرتُ أعرف الأرقام الإسرائيلية وأعرف أنها أسطوانة مُسجَّلة من الجيش، ولكنني لا أجيب أبداً خاصة وأن معظمها في الليل. أشعر بالذعر، أخاف أن يخبرونا بقصف منزلنا، أو بالإخلاء مرة ثانية. أخاف أن أسمع صوت الجيش!».
لم تكن المناشير الأربعة المذكورة أعلاه هي الوحيدة التي أُلقيت، فحتى تاريخ كتابة هذا المقال ألقت إسرائيل على الأقل سبعة نماذج، أحدها يُطالب السكان في جنوب القطاع بالإبلاغ عن معلومات عن رهائن محتجزين، وآخر يعلن عن «الطريق الآمن» ومواعيد الإخلاء المسموح بها على شارع صلاح الدين، والذي تحوَّلَ فيما بعد إلى منشور إلكتروني يومي على صفحة المنسق الإسرائيلي يحدد ساعات الإخلاء والطريق المسموح به. فيما كان أحدثُ المنشورات مُوجَّهاً لسكان شرق خانيونس بوجوب النزوح إلى «الملاجئ المعروفة» التي لا يعرفها أحد، فلا وجود للملاجئ في قطاع غزة!
يروي نازحٌ أربعيني، فضَّلَ عدم ذكر اسمه، عن رحلة نزوحه يوم الـ12 من تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي بدأت صباحاً بانتظار المنشور حول الطريق الآمن على صفحة المُنسّق عبر فيسبوك؛ يقول: «لم نستطع البقاء أكثر في بيتنا، الدبابات تقدَّمت وتم قصف الطاقة الشمسية فوق سطح منزلنا. تحرَّكنا بعد رؤية المنشور على صفحة المُنسّق حوالي الساعة العاشرة صباحاً، يُعلن عن أن ’الممر الآمن‘ مفتوحٌ في الساعة التاسعة صباحاً. كان من المفترض نزوله قبل التاسعة لو أن إسرائيل تمارس شيئاً قانونياً، لكن ما تفعله هو مجرد رفع للحرج أمام العالم».
يصمت عبر الاتصال الهاتفي ويتنهّدُ قبل أن يتابع: «كانت طريق موت. لا أستطيع وصف الرعب الذي عشناه، زوجتي وبناتي وأولادي. حملنا راية بيضاء ومشينا باكين. بقيتُ طوال الطريق أناديهم فرداً فرداً حتى لا يتوه أحدهم في الزحام. قصف الاحتلال مجموعة من النازحين ونحن نسير، لم نستطع الإسعاف أو حتى التراجع، أكملنا طريقنا عبر شارع صلاح الدين مشياً على الأقدام والنيران فوق رؤوسنا والجنود منتشرون، وعندما وصلنا أول الطريق بعد الوادي استطعنا أن نركب عربة يجرها حمار إلى أن وصلنا إلى مكان يتواجد فيه أصدقاؤنا. اعتقدنا أن الحال سيكون أفضل، لكن القصف في كل مكان ويمكن أن نموت في أي لحظة».
يصف يوسف سالم، وهو باحث قانوني في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ما يحدث بـ«جريمة الحرب» مستنداً إلى ما أوردته المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: «قيام دولة الاحتلال بترحيل أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجه يشكّل جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية» مؤكداً أن إسرائيل تمارس منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 جرائم حرب مُركَّبة تبدأ بترويع الآمنين من خلال المناشير الورقية والالكترونية والاتصالات الخليوية، والتي تجبر سكان مخيمات لجوء بالأصل على النزوح مرة أخرى عبر ممرات ادّعى الجيش الاسرائيلي أنها آمنة. وفي نهاية حديثه أشار سالم إلى أنَّ إسرائيل تتبنّى جريمة التهجير القسري بموجب سياسة إسرائيلية مُمنهجة، مُعلَنٍ عنها عبر خطابات رئيس وزراء الاحتلال ووزير الدفاع والناطق باسم الجيش الإسرائيلي؛ حيث يطالبون في كل ظهور متلفز سكان مدينة غزة وشمالها بالنزوح إلى المناطق الجنوبية.
ووفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة بتاريخ الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، فإن 42 بالمئة من الشهداء هم من مناطق جنوب الوادي، وهي المناطق التي أسماها جيش الاحتلال «مناطق آمنة»، واستشهد حوالي 1012 من سكان الشمال ممن نزحوا إلى الجنوب، مما ينفي جملة وتفصيلاً ما يدعيه جيش الاحتلال حول التزامه بالقانون الدولي الإنساني من خلال التحذير المُسبق للمدنيين، ومن خلال تحديد الممرات الآمنة والمناطق الآمنة لحماية المدنيين وتجنيبهم ويلات الحرب.