تتسارع الأحداث على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، حيث تستمر المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فيما تستمر العمليات الحربية على جبهة الجنوب اللبناني الذي نزح الآلاف من سكانه نحو مناطق أخرى؛ لكن الانتهاكات بحق اللاجئين السوريين في لبنان لم تتوقّف، بل هناك استغلالٌ للظرف العالمي والمأساة الفلسطينية لممارسة مزيد من العنف.

«بينما غزة تحترق، هناك دول ترمي اللاجئين بصمتٍ وبشكل غير قانوني»، هذا ما جاء في بيانٍ أصدرته هيومن رايتس ووتش في العاشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، مشيرةً فيه إلى الانتهاكات المُمارسة ضد اللاجئين تزامناً مع الأحداث في غزة.

الترحيل ثمّ الترحيل 

ثمة إجماع سياسي لبناني شديد اللهجة متعلّق بضرورة التخلص من اللاجئين السوريين بأي طريقة، وكان قد بلغ ذروته قبيل عملية «طوفان الأقصى». يتمثل هذا الإجماع بإجراءات قانونية صارمة، ومقترحات نيابية ما زالت قيد الدراسة، وذلك تزامناً مع تفاقم الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها اللاجئون في لبنان عموماً والنازحون من الجنوب اللبناني خصوصاً.

في 19 أيلول (سبتمبر) من العام الجاري تقدّمَ أربعة نواب لبنانيّين، وعلى رأسِهم النائب الياس جرادة، باقتراح قانون «يرمي إلى تنظيم الإقامة المؤقتة وترحيل النازحين السوريّين في لبنان». ويستند الاقتراح إلى أربعة مراجع منها مُذكّرة التّفاهم مع مفوضيّة الأمم المتحدة عام 2003، وقانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه عام 1962، بالإضافة إلى معاهدة الأخوَّة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسوريا عام 1991؛ معاهدة الأخوّة التي أضفت الشرعية على الوجود العسكري السوري في لبنان.

جاء هذا الاقتراح ردّاً سريعاً بعد أن قدّمَ البرلمان الأوروبي تقريراً يتضمّن توصيات موجَّهة إلى السلطات اللبنانيّة في تموز (يوليو) 2023، ويؤكد على ضرورة حماية اللاجئين السوريين. ورغم أنّ البرلمان الأوربي لم يُصرّح أو يدعو إلى توطين اللاجئين أو منحهم حقّ الإقامة الدائمة على الأراضي اللبنانية، غير أنّ جرادة وزملاءه استمرّوا في التذرّع ببيان البرلمان الأوروبي لبثّ الرعب في الشارع اللبناني.

تجاهلت الحكومة اللبنانيّة 16 بنداً من بنود التقرير الذي قدّمه البرلمان الأوروبي، والذي يُحمِّل الحكومة اللبنانيّة مسؤوليّة ما آلت إليه البلاد من كوارث سياسيّة واقتصاديّة، وجرى التّركيز فقط على البند 13 المتعلّق بالتّشديد على ضرورة توافر شروط العودة الآمنة للاجئين وفقاً للمعايير الدوليّة، والذي يحذِّر من تصاعد الخطاب المناهض للجوء السوري في لبنان. وكان التقرير قد أشار بحزم ووضوح شديدين إلى دور حزب الله اللبناني في استمرار الصراع في سوريا: «ساعد حزب الله نظام الأسد عبر القتال على الأرض ومرافقة أفراد من الحرس الثوري في تدريب الميليشيات السوريّة»، وبالتالي على النخبة السياسيّة اللبنانية أن تتحمّل نصيبها من مسؤوليّة الوضع الحالي في البلاد.

اشتمل اقتراح جرادة ثلاث موادٍ لا يُمكن القول إلا أنّها تمييزيّة وغير قابلة للتّطبيق؛ إذ يشترط على مفوضيّة شؤون اللاجئين إعادة توطين اللاجئين في بلدٍ ثالثٍ خلال سنة واحدة بعد المصادقة على الاقتراح وإقراره قانونيّاً، وإلّا، فإنه سيتم اعتبار الإقامات التي حصل عليها بعض السوريّين عن طريق مفوضيّة شؤون اللاجئين لاغية، ما يستوجب بالتالي ترحليهم إلى سوريا. أمّا المادة الثانية فهي تتعلّق بالأولى وتقتضي منع تسوية أوضاع اللاجئين بعد انتهاء مدّة الإقامة التي ذُكرت أعلاه، وتوقيف كلّ من دخل خلسةً أو لا يحمل إقامة قانونيّة وترحيله إلى سوريا. قالت المحامية غيدة فرنجية في مقال لها نُشر على المفكرة القانونيّة إن «الاقتراح مقاربة عقابيّة لمعالجة مسألة اللجوء من سوريا. في حين ينصّ عنوانه على تنظيم إقامة النازحين السوريّين وترحيلهم، إلا أنّه ينحصر عمليّاً بالترحيل».

اقتراح «كتلة لبنان القوي»

في كانون الثاني (يناير) 2022 تقدّم ستة نواب من «كتلة لبنان القوي»، من بينهم جبران باسيل، بمقترح لمجلس النواب بعنوان «اقتراح قانون لتنظيم الوضع القانوني للنازحين السوريّين في لبنان» متضمّناً أربع موادٍ؛ تمنع المادة الأولى منه دخول أي سوري يحمل صفة «نازح» إلى الأراضي اللبنانيّة، سواء أقدمَ على الدخول أو الخروج من الأراضي اللبنانية برّاً أو بحراً أو جوّاً، فيما يُعاقب أي سوري يحمل صفة النزوح أيضاً بغرامة مالية في حال «أقدمَ على العمل»، ويُعاقَب كلّ ربّ عملٍ لبنانيّ «أقدم» على توظيف عامل يحمل صفة النزوح بالغرامة و-أو السجن. 

بالتدقيق في صياغة المقترح نجد أنّه سيعمل بمفعول رجعي في حال تمّ إقراره، وبخاصّة المادة الأولى التي تُعاقب أيّ لاجئ غادر لبنان بمنعه من دخولها. أمّا بقية المواد فتركز على العمالة السوريّة في لبنان، لكنّها ليست تنظيماً بل يمكن القول بأنّها سياسات نحو الإفقار والبطالة والإذلال، وبخاصّة أنّها تمنع وتُعاقب دون ذكرها أيّ آليّات تشريعيّة واضحة، مُتجاهلةً حقّ الإنسان في الحياة والعمل والتنقّل.

في حال تمّ إقرار هذا القانون فإن 789,842  ألف سوري-ة يحملون صفة اللجوء قد يُواجهون كارثة إنسانيّة حقيقيّة، ما عدا غير المسجلّين كلاجئين، والذين لا يملكون أيّ أوراق ثبوتيّة. 

وأشار بيان لمجلس النواب أنّه بناءً على الجلسة التي عقدتها لجنة الإدارة والعدل في الثالث من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لمتابعة دراسة اقتراح القانون الرامي إلى تنظيم الوضع القانوني «للنازحين» السوريين في لبنان، قرّرت تأجيل البت بالاقتراحات لمزيدٍ من الدراسة.

لا يمكن النظر إلى هذين المُقترحين إلّا على أنّهما آلة قتل وتعذيب للسوريّين في حال تمّ إقرار أحدهما، إذ يكشفان بوضوح الفئة التي لا تُريد السلطات إبقائها في لبنان، ويستهدفان بشكلٍ أساسيٍّ الطبقة العاملة والمفقرة من السوريين غير القادرين على دفع تكاليف الإقامة، وهذه الفئة هي المُسجَّلة لدى مفوضيّة شؤون اللاجئين، وهي الأكثر هشاشة إذ جرى استغلالها اقتصاديّاً واستنفاذ طاقاتها بسبب عدم وجود أوراقٍ نظاميّة وأذونات عمل، وهي الفئة ذاتها التي لم تسجِّل أبناءها في المدارس للأسباب ذاتها، وبينما يستحيل عليهم ارتياد المدارس الخاصّة التي تقتصر إمكانية ارتيادها على أبناء الطبقات العليا.

المحضر 53، القرار رقم 1

في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2023 قرّر مجلس الوزراء اللبناني اتخاذ عدّة إجراءات فوريّة لمعالجة موضوع «النزوح السوري ولا سيّما التسلّل غير الشرعي للنازحين»، وبناءً عليه طُلب من الأجهزة الأمنيّة والعسكرية تعزيز التدابير على الحدود لضبطها ومنع عمليات الدخول غير الشرعي، وطُلب من وزارة الداخلية والبلديات إجراء مسح فوري للّاجئين القاطنين ضمن نطاق كلّ بلدة، ووجوب الإفادة الفوريّة عن «أيّ تحركات أو تجمّعات مشبوهة تتعلّق بالنازحين»، وإزالة التعديّات والمخالفات.

كما تم إلزام وزارة العمل بالتشديد في اتخاذ التدابير القانونية الرادعة لأيّ مخالفة من حيث تنظيم العمالة الأجنبيّة. ومن جهة وزارة العدل، وجب عليها الإسراع في محاكمات وإجراءات اللاجئين السوريين المحكومين والموقوفين في السجون اللبنانيّة وترحيلهم إلى سوريا «لتخفيف الاكتظاظ في السجون»، مع التنويه  إلى أنّ السوريّين يُشكّلون نحو 27 بالمئة من المساجين داخل السجون اللبنانيّة. وعلى الرغم من الإشارة إلى أنّ ذلك سيتمّ «مع مراعاة الاتفاقيات الدولية»، إلا أنّها لا تذكر بشكلٍ صريح  بناءً على أيّ معاهدات أو التزامات ستتمّ هذه العملية، لأنّه وعلى مدى أعوام ارتكبت السلطات اللبنانية عدداً لا يُحصى من الانتهاكات الجسيمة بحقّ اللاجئين، لذلك يُخشى على الموقوفين من الترحيل إلى سوريا نحو مصير مُنتظر مجهول ومرعب خاصة بالنسبة للمطلوبين للأجهزة الأمنية السورية.

على صعيد آخر، وُجِّهت وزارة الإعلام نحو إطلاق «حملات توعية من مخاطر النزوح».

كيف طُبقّت القرارات التعسفيّة على اللاجئين السوريين؟

يقول أحد اللاجئين السوريين الذين تحدثتُ إليهم إن بلدية سد البوشريّة، في قضاء المتن التابع لمحافظة جبل لبنان، قامت بطرد عشرات العائلات السوريّة من مبانٍ يقطنها سوريون، وإحدى هذه العائلات لم تجد مكاناً فافترشت الطُرقات. ويقول لاجئٌ سوريٌ آخرٌ أيضاً: «أقدم شبان مجهولو الهوية على ترهيبنا في سد البوشرية، مهددين: ’بدنا نرجع بكرة ما نلاقيكم‘. ولأنّنا شاهدنا ما فعلوه بعائلات تسكن قربنا من إذلال وضرب قمنا بالفرار، مع العلم بأنّ زوجتي مريضة سرطان ولديَّ أربع أطفال».

بحسب التقرير الدوري الأول المتعلّق بنتائج القرارات المشار إليها أعلاه، فقد دعت البلديّات كافة، وبخاصة في بيروت والبقاع شمال البلاد والنبطية وبرجا في الجنوب، المحافظين والمخاتير إلى وجوب تنظيم «الغرباء» وتكوين قواعد بيانات بشأنهم. وقد أخذ «تنظيم الغرباء» أشكالاً مُتعدّدة، من الإيعاز بوجوب تنظيم الإقامة القانونيّة مع تهديد بالطرد، إلى قيام بلديات أخرى بطرد العائلات بشكلٍ فوري. 

في سن الفيل كشفت دوريات على المنازل التي يعيش فيها سوريون، وأجبرت العائلات على الإخلاء. أخبرنا أحد السوريين في مقابلة: «أعيش في سن الفيل منذ تسع سنوات. كشفت إحدى الدوريّة عن أوراقي، وعندما علموا أنّي لا أمتلك إقامة صالحة طردوني من المنزل وأخذوا أوراقي الثبوتيّة، ثمّ طلبوا منّي الذهاب إلى البلديّة في اليوم التالي. عندما ذهبت، أعادوا لي أوراقي ثمّ أُجبِرتُ على توقيع ورقة تعهُّد بعدم السكن مُجدّداً في سن الفيل. أنا الآن أبحث عن منزل، ولم يقبل أحد أن يؤجِّرني حتى هذه اللحظة». 

وفقاً للتقرير الدوري أعلاه، رحّلت الأجهزة الأمنية والعسكريّة بين أيلول والسادس من تشرين الأول من العام الجاري  5025 لاجئ-ة، و سلّمت إلى الأمن العام 172 لاجئ-ة، وأقفلت الآلاف من المحلات التجارية والمراكز التي يستثمرها سوريّون على امتداد الأراضي اللبنانيّة. في بلدية الغبيري وحدها في قضاء بعبدا، وفي سوق سويدان بالتحديد الذي يُعدُّ أكبر مساحة يستثمر فيها عمّال أجانب، تمّ إقفال 21 محلاً تجاريّاً يُديره ويعمل فيه عمّال سوريّون. كما شدّدت البلديات على تنقُّل السوريين، وقامت بنصب حواجز لضبط الدراجات الناريّة، وصادر «فوج حرس بيروت» وحده نحو 1250 دراجة وتُكتوك. 

العنف على الأرض

تمتلك جِهات وجماعات في لبنان سلطةً لممارسة العنف ضد آخرين بحجّة الدفاع عن الحقّ والوجود، وهذا ما شهدنا فصولاً عنيفة منه ضد اللاجئين السوريين بعد عملية «طوفان الأقصى» واشتعال جبهة الجنوب اللبناني، وفي مواجهة موجة نزوح السوريين من قرى الجنوب هرباً من العدوان الإسرائيلي. وقد تحدَّثَ رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي بعد النزوح السوري من الجنوب اللبناني عن مشروع  سيتم البحث فيه في مجلس الوزراء، يقتضي بعد التشدُّد في تطبيق القوانين: «ترحيل السوريين غير المستوفين للشروط والذين لا يملكون الغطاء القانوني إلى مخيمات تُقام بعد الحدود اللبنانية وداخل الحدود السورية، بالاتفاق مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والدولة السورية». 

بلغ عدد النازحين من الجنوب بحسب آخر إحصائياتٍ للأمم المتحدة نحو 46325 شخصاً، تُشكِّلُ النساء منهم-ن 52 بالمئة، مع غياب أى إحصائيات دقيقة تتعلق بأعداد السوريين النازحين منهم، فيما تبلغ أعداد اللاجئين السوريين في الجنوب اللبناني بشكل عام 89168 لاجئ-ة.  

ومع تغييبهم عن خطة الطوارئ الوطنية اللبنانية، والتدخُّل الخَجول لمفوضية شؤون اللاجئين الذي اقتصرَ على الصعيد الإغاثي فقط، يبدو أن اللاجئين السوريين النازحين من الجنوب ذاهبون نحو وجهة مجهولة في ظلّ آليات تضييق و خنقٍ، ذلك أنهم محاصرون بشكل حقيقي بين قرارين؛ الأول يمنع تسجيلهم كنازحين والثاني يحظر استقبال أي «نازحٍ» سوري جديد تطبيقاً لتعاميم صدرت عن وزارة الداخلية، لتكون الاحتمالات جميعها مؤلمة وكارثية.

ما يحصل الآن هو أنّه يتمّ تدفيع اللاجئين السوريّين أثماناً باهظة أكبر من طاقاتهم على التحمُّل، إذا ما الذي يعنيه طرد عائلات بأكملها من منازلها بين ليلة وضحاها، وتحويل لبنان إلى جحيم غير قابل للعيش فيه؟ ذلك بينما يبدو واضحاً أن إطباق الحصار على اللاجئين السوريين بسياسات الإفقار والتجهيل والإذلال لن يؤدي إلى عودتهم إلى سوريا، بل سيجعلهم يدورون في حلقة مستمرّة من العنف، ويخلق ويُكرّس ضغائنَ وأحقاداً يصعب التعامل معها أو تجاوزها.

وكان النظام السوري قد عبّرَ في أكثر من محفل على أنّ سوريا مرهقة اقتصاديّاً وغير قادرة على استيعاب وفود «اللاجئين العائدين» هذه، إذا «كيف يمكن للاجئ أن يعود دون ماء وكهرباء أو مدارس لأبنائه؟» بحسب بشار الأسد نفسه، ما يعني أن الحكومة اللبنانيّة ربما تنوي الاستمرار بالضغط على الدول المانحة لتحويل المساعدات الإنسانيّة إلى النظام السوري بحجّة تأمين إمكانيّة عودة اللاجئين. 

الآن، يتعلّق مصير نحو أكثر من مليون ونصف المليون سوري في لبنان بمقترحات القوانين التي سيُباشر العمل عليها قريباً في حال تمّ إقرارها، والأكيد أنّ مصائرهم ما تزال مجهولة وأن العنف السياسي والشعبي بازدياد، وأن دور مفوضيّة شؤون اللاجئين كممثّل عن اللاجئين في لبنان ينحسر أكثر فأكثر، مع غياب أيّ شكلٍ آخر من أشكال التّمثيل.

اللاجئون السوريّون في لبنان متروكون وحدهم. هذه حقيقة لا تقبل الجدل، والأوضاع بالتأكيد غير إنسانيّة على جميع الصُعُد، وكلّ المُعطيات تُشير إلى كارثة إنسانيّة قد يختبرها اللاجئون-ات في حال لم يحصل ضغط دولي فوري لإيقاف عمليّات الترحيل القسري التي بلغت الآلاف في غضون شهر واحد فقط، وفي حال لم يتم إيقاف الانتهاكات التي تجرّد اللاجئين السوريين من إنسانيتهم وكرامتهم وتشرّع العنف ضدهم على أسس وطنيّة و/أو حتى وجوديّة.