«أعظم تلت رجال في ساحة المعركة حالياً، يضربون بقوة ولا يبالون، أبو عبيدة – إيلون ماسك – جاكسون هينكل. كل واحد بيضرب حسب مجاله، والتلاتة أعظم من بعض»؛ بهذه الكلمات انتشرت تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقاً)، ونالت آلاف الإعجابات وإعادات التغريد بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الناطقين بالعربية، جامعةً ثلاثياً يبدو جمعه في مديح واحد أمراً غريباً.

ليست السطور التالية تفنيداً لما تحمله التغريدة أعلاه من عبثية وحاجة مُلحّة لوجود أبطال، بل هي محاولة لتفكيك ماضي شخصية وصولية مثيرة للجدل أُلبِسَت ثوباً لا يليق بها بين ليلة وضحاها؛ الأميركي جاكسون هينكل. وسواء كنتَ ممّن يستخدمون منصة إكس باستمرار أم لا، وسواء كنت من متابعي هينكل أم لا، لا بدّ وأنك قرأت اسمه في مكانٍ ما أو شاهدت من يحتفي بتغريداته المعادية لإسرائيل على الأقلّ. كيف لا وهو صاحب أحد الحسابات الخمس الأعلى وصولاً على منصة إكس، مُتجاوِزاً صاحبها إيلون ماسك نفسه الذي يوجّه موظفيه صراحةً لتضخيم وصول تغريداته.

لم تكن التغريدة المُقتبَسَة في مطلع هذا المقال حالة شعبية فردية، إذ صار هينكل أحد نجوم الإعلام العربي منذ بداية الحرب الشاملة التي شنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى. سارعت قنوات تلفزيونية كبرى لاستضافته مثل الجزيرة وروسيا اليوم، كما احتفَتْ به عدو وسائل إعلامية أخرى كقناة الغد التي احتفت بمواصلته «فضح وحشية إسرائيل ضد الأطفال الفلسطينيين»، وذلك في تقرير مكتوب استعرضت فيه عدداً من التغريدات التي نشرها خلال الأيام الماضية.

جاكسون هينكل يُمجّد بوتين ويُغازل نتنياهو

قبل عملية طوفان الأقصى والتصاعد الجنوني للأحداث كان هينكل ينشط بشكل أساسي على يوتيوب من خلال قناة أُغلقت منذ أشهر قليلة حملت اسم الغوص مع جاكسون هينكل (The Dive with Jackson Hinkle)، حيث كان يقدّم «تحليلات» للسياسة الأميركية الداخلية والخارجية مع الكثير من نظريات المؤامرة حول مفهوم الدولة العميقة، والكثير من الأفكار المعادية للحكومة (Anti-government). بدأت شُهرة برنامجه خلال جائحة كوفيد-19، إذ كان من مُتصدّري الخطاب المؤامراتي المناهض للّقاح، ثم ازدادت مع الحرب الروسية على أوكرانيا عندما أخذ على عاتقه تجميل الغزو وتبريره كضرورة لإعادة التوازن إلى قُطبية العالم. وكنتيجة حتمية لانحيازه للمحور الروسي لم يتوقف هينكل عن التغزُّل ببشار الأسد ووصفه بـ«البطل»، وحتى بنجله حافظ عندما قارن «نجاحه» عند حصوله على شهادة في الرياضيات بفشل نجل الرئيس الأميركي جو بايدن الذي تلاحقه قضايا المخدرات.

لا يمكن قراءة مواقف هينكل الحالية المعادية لإسرائيل بمعزل عن سياقها الأوسع، والذي ينطوي على عاملين؛ الأول هو مواقفه من الإدارة الأميركية الحالية ومن دعمها اللامشروط لإسرائيل وأوكرانيا (لا قضية فلسطين نفسها)، وهو الذي عُرف بترويجه لحملة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب: «لنجعل أميركا عظيمة مجدداً» (MAGA). والعامل الثاني هو ارتباطاته المباشرة مع شخصيات روسية قريبة من الكرملين أو مُتحكَّم بها روسيّاً، مثل خطيبته آنا لينيكوفا ملكة جمال روسيا.

ازداد حديث هينكل مطلع هذا العام عن «التعددية القطبية» في العالم وضرورة قلب النظام العالمي، في الوقت نفسه الذي ازداد فيه حديث البروباغندا الروسية وأتباعها في سوريا وبيلاروسيا وغيرها عن سياسة «الانزياحات الكبرى». وكما في الإعلام الحكومي لتلك الدول، أرجعَ هينكل الفضل في ذلك إلى «عملية بوتين العسكرية في أوكرانيا»، إذ كتبَ في إحدى تغريداته أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادنا إلى عالم جديد مُتعدّد الأقطاب. وبعدها بأيام، نشر تغريدة قال فيها «أريد الإيضاح لكل من يدّعي أنني أدعمُ العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا… أنا أدعمُها بالفعل!».

لم يقف خطاب هينكل حول العالم متعدد الأقطاب الذي «أعاده» بوتين بحربه على أوكرانيا عند حدود تلك الحرب، بل استخدمه في حديثه عن الشرق الأوسط حين تحدّث عن العوامل التي تدفع نحو «تعدد القطبية» في المنطقة، ولعلّ الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في ذلك الخطاب الذي يتبنّاه ويروّج له باستمرار في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، هو أن هينكل نفسه، الذي لم يتوقف منذ أسابيع عن نعت نتنياهو بالمجرم الصهيوني، قال في إحدى حلقات برنامجه على يوتيوب منذ عشرة أشهر فقط إنه سعيدٌ لوجود نتنياهو في سدّة الحكم في إسرائيل بدلاً من التحالف (اليساري) الذي سبقه، لما في ذلك من مصلحةٍ للعالم متعدد الأقطاب بفضل علاقاته مع القيادتين الصينية والروسية.

ضلوع في شبكات تبييض صورة الأسد

أما عام 2021 فقد كان عام تلميع صورة بشار الأسد بالنسبة لهينكل، إذ حاز على جائزة «سيرينا سحيم للنزاهة المطلقة في الصحافة» دون أن يحدد، هو أو الجهة المانحة، العمل الذي فاز بالجائزة عنه، بل اكتفى بشكر الأصوات التي أثّرت على مواقفه «المعادية للإمبريالية». بيد أن الجهة المانحة للجائزة شابَهَا قليلٌ من الغموض وكثيرٌ من الشك: «جمعية الاستثمار في لجان العمل الشعبي» وهي مؤسسة غير ربحية مقرها سان فرانسيسكو، أمين صندوقها بول لارودي، وهي الهيئة الأم لـ«حركة التضامن السورية» الداعمة للحزب السوري القومي الاجتماعي.

تم إنشاء «حركة التضامن السورية» عام 2013 لتسهيل جولة التحدُّث في أميركا الشمالية لأغنيس مريم دي لا كروا؛ وهي راهبة قالت إن الهجمات الكيميائية في سوريا، مثل هجوم الغوطة في 2013، ارتكبها «المتمردون». وفي عام 2014 أرسلت الحركة وفداً ضمَّ لارودي إلى سوريا لمراقبة الانتخابات الرئاسية، استضافه الاتحاد الدولي للأمة الموحدة، وهو منظمة إيرانية غير حكومية كانت من أبرز رعاة الانتخابات السورية حينها.

في صباح يوم الانتخابات أعلن الوفد أن «الاستفتاء على وشك إظهار الحجم الحقيقي للدعم الشعبي الذي يتمتع به الرئيس الأسد داخل البلاد، ومقاومته ببطولة للعدوان المدعوم من الخارج لأكثر من ثلاث سنوات». وظهر لارودي على شاشة التلفزيون السوري الرسمي خلال الزيارة، وعلق لاحقاً لموقع العربي الجديد بنسخته الإنكليزية بالقول: «من السهل أن نَظهرَ كمدافعين عن الأسد عندما نعمل على تصحيح المعلومات الكاذبة في وسائل الإعلام الغربية المعادية».

توالت بعد ذلك تعليقات ونشاطات لارودي و«حركة التضامن السورية» الداعمة صراحةً للنظام السوري، تخلَّلها لقاءٌ جمعهم بالأسد نفسه في مؤتمر للنقابات العمالية، وجولة أخرى -رعاها النظام- في انتخابات عام 2021، وخلُصت المجموعة إلى أن «إعادة انتخاب الرئيس بشار الأسد، من حزب البعث العربي الاشتراكي والجبهة الوطنية التقدمية، هي التعبير الشرعي والديمقراطي عن الشعب السوري».

بالعودة إلى جاكسون هينكل، ولبيان تماهي مواقفه مع الكيانات الموصوفة أعلاه، نعود إلى عام 2017، عندما وَصفت «حركة التضامن السورية» هجمات الأسلحة الكيميائية التي نفّذها النظام السوري بأنها عمليات قامت بها فصائل المعارضة بهدف تشويه سمعة الحكومة، لأنه بعد أقل من عام، ومع الهجوم الكيميائي على مدينة دوما في ريف دمشق، تبنّى هينكل الخطاب نفسه.

في مناظرة نقدية أجرتها قناة «Vaush» على يوتيوب، بُعيد الحادثة، سأل المقدم هينكل عن تفسيره لوجود جثثٍ بأفواه مُزبدة في المقاطع التي انتشرت توثيقاً للهجوم. راوغ هينكل السؤال بالقول إن ضحايا الهجوم لم تظهر عليهم أي علامات للتعرّض لغاز الأعصاب، واتَّهم بعد ذلك من وصفهم بـ«محققي المعارضة» بتزوير التحقيقات، ذلك بينما نصّ تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الأوليّ عن الحادثة بشكلٍ واضح على أن نظام الأسد منعَ المفتشين من الوصول إلى المواقع المحورية.

وبنى هينكل حينها حجته الإنكارية على عاملين أساسيين: الأول هو افتراضه أنه حتى وإن كان هناك انتشار لغاز الكلور، فإن النوافذ والفتحات التي كانت في الأسقف والمخارج المفتوحة كانت ستسمح للناس بالحصول على هواء نقي، في إنكارٍ صريح لحقيقة أن غاز الكلور أثقل من الهواء بضعفين. أما العامل الآخر فهو مرافعته عن أن المروحيات لا تطير على ارتفاع منخفض أبداً لتجنب النيران الأرضية في العديد من مواقع الاشتباك، لكن هناك عشرات المقاطع المصوّرة التي تُظهِرُ طائرات هليكوبتر روسية وسورية تطير على علوّ منخفض أثناء تنفيذ عملياتها. كما اختتم حجته بأن الأسد لم يكن لديه أي سبب لإطلاق هجوم كيميائي لأنه كان على وشك النصر، في تغاضٍ تام عن توثيق ما لا يقل عن 349 هجوماً كيماوياً مؤكداً في سوريا منذ بداية الحرب.

وفقاً للمعايير المهنية فإن جاكسون هينكل ليس مصدراً موثوقاً ولو بالحدّ الأدنى حتى للأخبار وليس للمُحاججات فقط، فخلال الأيام القليلة الماضية نشرَ عشرات الأخبار الزائفة أو المُضلِّلة، ومعظمها يتعلق بالولايات المتحدة. تارة ينشر صورة يدّعي أنها لقصف أميركي حديث على مواقع إيرانية في سوريا ليتضح أنها من دير الزور، وتارة يُروِّجُ لمقطع من رومانيا على أنه لوصول الجنود الأميركيين إلى إسرائيل، وأخرى يُحمّل صحيفة هآرتس الإسرائيلية عدداً من الادعاءات المتعلقة بأعداد القتلى الإسرائيليين ونسبة الجنود إلى المدنيين ليتبيّنَ أن الصحيفة لم تأتِ على ذكرها، وأخيراً يدّعي أن الصين حذفت اسم إسرائيل من تطبيقات خرائطها وهي لم تفعل ذلك قط.

أما من ناحية مادية أكثر تجريداً، فقد أطلق هينكل من خلال برنامجه على يوتيوب عام 2022، أثناء ذروة ترويجه للحرب الروسية على أوكرانيا، حملة «القمصان الممنوعة» التي باع من خلالها آلاف القمصان السوداء التي حملت حرف «Z» الأبيض، الشعار الذي اتخذه بوتين لعمليته العسكرية. اليوم، يكتب هينكل في التعريف الخاص بحسابه وفي تذييل كل تغريدة ينشرها: «ساعدني في كشف دُعاة البروباغندا عن طريق الاشتراك في إكس بريميوم مقابل 3 دولارات»، فهل ما يحدث الآن هو مجرد «حملة أخرى» تنتهي مع انتهاء الحدث الشاغل للأخبار والرأي العام و«حجم الوصول»، لننتقل إلى حملة جديدة؟ والسؤال الأهم، ماذا لو عاد ترامب صديق نتنياهو إلى البيت الأبيض ومعه الإدارة التي دعمها هينكل لسنوات؟وفقاً لمجلة علم النفس اليوم فإننا نختار الأجزاء من المعلومات التي تجعلنا نشعر بالرضا لأنها تؤكد تحيّزاتنا، وبالتالي قد نصبح سُجناء لافتراضاتنا. هذا ما يحصل اليوم مع ظاهرة هينكل الذي لم يقل حتى الآن سوى ما ترغب شريحة من الجمهور سماعه، هينكل الذي جعله كثيرون بطل الموسم لأنه «ينقل صوتنا إلى الغرب» بعدما أمضى سنوات يمجّد من يُحاولون إسكاته. وربما هذا جوهر المشكلة، أنه يلعب لعبته لتحقيق مكاسب لنفسه في الغرب، وما «صوتنا» إلا وسيلة لها تاريخ انتهاء صلاحية.