لم يكن طرد سويلا برافرمان من منصبها كوزيرة للداخلية في بريطانيا يوم أمس فوزًا للمتظاهرين الداعين لوقف إطلاق النار في غزة، أو لمناصري القضية الفلسطينية عمومًا. فهذا الإجراء ليس تجاوبًا مع استيائهم من مواقفها، أو على الأقل لا يجب النظر إليه في هذا النطاق حصرًا، فهو جزء من «انتفاضة» يقودها رئيس الوزراء ريشي سوناك الراغب في تحقيق إنجاز تحت عنوان: «لقد لممتُ شملَ الحزب، وقُدته نحو الانتخابات، وحققت فوزه».
صحيحٌ أن مواقف برافرمان من التظاهرات، والتي كلَّلتها بمقالتها المنشورة في التايمز قبل التظاهرة الأخيرة يوم السبت الماضي، كانت محورية في تحفيز رئيس الوزراء ريشي سوناك على اتخاذ هذه الخطوة خلال التغيير الحكومي الذي كان متوقعًا يوم الإثنين، وهو ما حدث بالفعل، غير أن طرد برافرمان، التي لم تشأ الاعتذار أو تَحمُّل المسؤولية والاستقالة من تلقاء ذاتها، يأتي في سياق مساعي سوناك إلى أن يرفع عن كاهله حملًا فوق طاقته. هو الذي لا يبدو متقدمًا في استطلاعات الرأي، وتسيطر عليه المخاوف من خسارة الانتخابات المقبلة لو جرت فعليًا الآن، إذ يُعبّر العديد من البريطانيين عن استعدادهم للتصويت لصالح حزب العمال، لكن ليس حبًا فيهم بل استياءً من المحافظين، كما أن نتائج الانتخابات الفرعية الأخيرة أرسلت نبضًا سلبيًا.
منذ بدء التظاهرات في لندن احتجاجًا على الحرب الخارجة عن القيود الدولية في قطاع غزة، انتهجت برافرمان خطًا معاديًا واضحًا لا لبس فيه. وَصَمَت المتظاهرين بالكارهين والمُعادين؛ «تظاهرات الكراهية» كما أسمتها. اختارت برافرمان أن تبتعد عن اللغة الجامعة، المنبِّهة من خطورة الانزلاق إلى مفردات أو أفعال مُعادية لليهود، والمُحذِّرة من تأجيج مناخ الخوف والكراهية لدى المكون اليهودي أولًا والمسلم أيضًا. لم تبعث برافرمان برسالة طمأنة واحدة إلى أيّ من الجهتين، بل اختارت أن تُعبّر عن حقيقة موقفها الشخصي والسياسي دون مواربة أو دبلوماسية، ولم تُخفِ أنها شخصيًا معنيةٌ بالوقوف إلى جانب إسرائيل لارتباطاتها العائلية (رائيل برافرمان زوج سويلا يهودي ولديه أقرباء في إسرائيل). وضعت برافرمان موقفها فوق أي اعتبار، واتَّبعت أسلوبًا يضرُّ بمصلحة الحكومة ولا يتماشى مع رئيس الوزراء.
في مقالها، تمسّكت برافرمان بمنطقها القائل إن المتظاهرين كلُّهم إسلاميون متطرفون إرهابيون ينادون بالجهاد في شوارع العاصمة البريطانية، وعبَّرت عن ذلك بمفردات مختلفة. اتهمت الشرطةَ بالانحياز لهم، وقارنتهم بالمتظاهرين في إيرلندا الشمالية. لم تُلبِّ رغبة رئاسة الوزراء بتغيير بعض ما جاء في المقالة، وفضَّلت تجاوزَ خطوط حمراء لم يكن بإمكان سوناك تجاهلها، أبرزها اتهام الشرطة بمحاباة مظاهرات فلسطين والإشارة إلى تظاهرات إيرلندا الشمالية.
لم يكن من الممكن أن يبتلع سوناك الضرر الناجم عن ضرب برافرمان بالشرطة البريطانية، وانتقادها استقلالية الشرطة بعدما لم تنفع ضغوطها لتأجيل التظاهرات بحجة أنها تُصادف يوم ذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى. توافقت قيادة الشرطة الحالية والسابقة على أن استقلالية الشرطة أمرٌ أساسيٌ في الحفاظ على الديمقراطية. كانت الشرطة هي من ذكَّرَ وزيرة الداخلية بمبدأ فصل السلطات، وكانت الشرطة أيضًا هي من ردَّ على اتهام برافرمان باتهام مضاد؛ بأنها، بخطابها ومقالها، عزَّزت مناخًا سلبيًا ومعاديًا على نحو خاص للشرطة، ما جعل عناصرها عُرضة للاعتداء من قبل مناصري مجموعات اليمين المتطرف.
راكمت برافرمان خطابًا عنصريًا خلال توليها وزارة الداخلية، عبَّرَت عنه فيما يتعلق بالمهاجرين غير النظاميين واللاجئين، وبالمشردين أيضاً مُعتبِرةً أن التشرد خيارٌ ونمط حياة، بالإضافة إلى مواقفها خلال ما يزيد عن شهر الآن منذ بدء الحرب على قطاع غزة. حاول سوناك صدَّ تبعات مواقف برافرمان وتصريحاتها في أكثر من مناسبة، وهذه المرة أراد تَجنُّب ارتدادات ما قد ينتج عن مقالها عليه وعلى الحكومة والحزب، لكن برافرمان لم تُعدِّل من لهجتها، وغَلَّبَتْ إرادتها على إرادة رئيس الوزراء، وهذه نقطة فاصلة.
برافرمان طامحة لقيادة حزب المحافظين، وتاليًا لرئاسة الوزراء، يدرك سوناك ذلك. لكن يبدو أنه فضَّلَ مواجهة برافرمان من الآن بدلًا من الإبقاء على سياسة استيعابها واحتوائها ضمن حكومته، فوجود الوزيرة المثيرة للجدل خطرٌ مُعزِّزٌ للانقسام حسب وصف سياسيين بريطانيين، كما أن وجودها داخل الحكومة لم يَحُلْ دون التعبير عن مواقفها باستقلالية، ولم يمنعها من خوض معركتها نحو قيادة الحزب من خلال تبني خطاب يتجاوب مع التيار اليميني الشعبوي داخله، وهو التيار المؤيد منذ 2016 لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي.
يكتسب طرد سوناك لبرافرمان من الحكومة بُعدًا إضافيًا مع تعيين ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء السابق، وزيرًا للخارجية. كاميرون الذي كان من مُحبِّذي البقاء في الاتحاد الأوروبي، وله مواقف تنتقد بعض سياسات سوناك الحالية. ومن الواضح أن هذه الخطوة الصادمة للعديد من البريطانيين تهدف إلى استمالة «المعتدلين» في الحزب المحافظ لتعزيز فرصه بالفوز في الانتخابات وضمان موقعه في قيادة الحزب ورئاسة الوزراء.
مهمة جعلتها سويلا برافرمان صعبة، والأرجح أنها ستجعلها تحديًا أكبر لسوناك في الفترة المقبلة.