على الرغم من استقرار الوضع العسكري في الشمال السوري منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، لا تزال الحكومات القائمة على هذه الرقعة الجغرافية تفتقد إلى حوكمة قطّاعاتها، وعلى رأسها الاقتصادية، إذ لا تزال قضية تطبيق الحوكمة المالية الرشيدة في إدلب وريف حلب الشمالي والشرقي غائبة تماماً عن الحكومتين الموجودتين في المنطقة، ويسود نمط اللامركزية في الحكومة السورية المؤقتة الفاعلة في الجزء الشمالي والشرقي لمحافظة حلب بدءاً من مدينة عفرين إلى مدينة جرابلس، في وقت تدار فيه منطقة إدلب، التي تشمل مدينة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، بمؤسسات تابعة لحكومة الإنقاذ التي تعتبر الواجهة المدنية لفصيل هيئة تحرير الشام، والذي يتلخّص بدوره في إدارة مركزية واحدة يقف خلفها قوة عسكرية تحميه، في حين تناقضُ توجهاتُه مطالب معظم أهالي المنطقة، ما يجعل حكومته تفتقد إلى مفهوم الحوكمة الرشيدة.

في القسم الشمالي والشرقي من محافظة حلب تعمل جميع المجالس المحلية بشكلٍ مستقل، ويطفو نمطٌ من اللامركزية على الرغم من تبعية هذه المجالس لولايات تركية مختلفة (باعتبار هذه المناطق شهدت التدخلات العسكرية التركية المسماة «درع الفرات» و«غصن الزيتون»)، وسط تحجيم صريح لدور وزارة الاقتصاد والمالية التابعة للحكومة السورية المؤقتة، التي تتبع بدورها للائتلاف السوري المُعارض.

وبشكلٍ واضح، يعتمد كل مجلس في إدارته على سياسة وقوانين خاصّة به، وتحديداً تلك التي تتعلق بالأمور الإدارية والتنظيم والتراخيص وغيرها، في حين تلعب البيئة المحلية دوراً هاماً في حوكمة القطاع المالي في هذه المناطق؛ كتأثير رؤوس الأموال وتعدد الفصائل العسكرية التي أسهمت بشكل كبير في تأخر تعافي القطاع المالي وحوكمته.

وعملياً لم تكن قضية الحوكمة المالية هي الوحيدة التي تفتقدها اليوم تلك الحكومات، بل تعدّت إلى قطّاعات عدّة، لكن باتت الآثار السلبية لغياب الحوكمة المالية تظهر بشكل أوضح مؤخراً، وأبرزها احتكار بعض التجمعات والمؤسسات للأنشطة الاقتصادية، وتحجيم دور الحكومة وتهميشه في النشاط الاقتصادي، مِمّا خلّف تشابكاً معقداً في جميع الأنشطة المالية والاقتصادية، وانهيار فكرة تقسيم العمل وتخصيصه للأفراد، واختلاط المعايير وغياب الرقابة والمساءلة وتهميش مبدأ الشفافية بين الشعب والسلطة.

وتُبنى الحوكمة المالية الرشيدة في العرف القانوني لأي حكومة على عناصر ثابتة تتضمن نظام رقابة ومتابعة وتوجيه وفقاً لخططٍ استراتيجية دائمة، كما تُعتبر الحوكمة بمثابة العمود الفقري لأي نظام حكم للوصول إلى مستوى تطبيق ثقافة العمل المؤسساتي وتمكين مبادئ الحوكمة الستة؛ المشاركة وسيادة القانون والشفافية والتجاوب والتوافق والعدل والشمولية، والتي تكون كفيلة بتوفير الحكم الرشيد لأي حكومة على أي بقعة جغرافية.

أسباب غياب الحوكمة المالية

يرى محمد العبدالله، الباحث الرئيسي في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أن جميع التحديات التي وقفت في وجه تطبيق حوكمة القطاع المالي، شمال حلب تحديداً، تتركز على عوامل سياسية وإدارية، من بينها الخطة التركية التي عكست تحجيم الحكومة السورية المؤقتة عبر إقرار المجالس المحلية في المدن والبلدات السورية، ليقتصر عملها على تطبيق «حوكمة فرعية»، ولكل مجلس محلي استقلاليته الكاملة، لافتاً إلىِ أن معظم القطاعات المالية المنتشرة في المنطقة لا علاقة لها بالمجلس، إذ لا تملك هذه المجالس أي سلطة على مكاتب الحوالات والصرافة، وإنما يقتصر عملها على منح التراخيص لفتح هذه المكاتب وتحصيل ضريبة سنوية منها كأي منشأة أعمال أخرى.

ويُضيف العبدالله: «لو استعرضنا التفاصيل، فإن مراكز البنك التركية أيضاً، والتي تُعرف بـPTT، لا علاقة لها بالمجالس المحلية، وفي حال ورود شكوى لأي مجلس ضد تلك المراكز يتم مراجعتهم وحل الشكوى، وتمتلك المجالس حسابات عدّة في البنوك دون أي خصوصية لهذه الحسابات»، منوّهاً إلى أن كثيراً ما تضطر المجالس المحلية للاحتفاظ بمبالغ المشاريع الصغيرة وفواتير المشتريات والمصاريف اليومية لديها، بسبب عدم تمكنها من الإيداع والسحب اليومي من شُعب PTT بسبب الازدحام الكبير على هذه الشُعب.

وأمّا المكاتب المالية التابعة للفصائل العسكرية العاملة في شمالي وشرقي حلب، فلا يوجد أي علاقة للمجالس بها، إذ يقتصر الأمر أحياناً على وجود بعض المعاملات كإجراء مناقصة أو بيع أو عقد إيجار لصالحها، فقد أسّست معظم الفصائل العسكرية المنضوية في الجيش الوطني السوري مكاتب اقتصادية مسؤولة عن إدارة مواردها المالية، وتدير هذه المكاتب أعمالاً تجارية ومشاريعاً استثمارية، وتفرض رسوم عبور وإتاوات على البضائع، كما تلعب دور الوسيط في الصفقات التجارية بين المنتجين المحليين في المنطقة والتجار والشركات داخل تركيا.

ولَفت العبد الله في حديثه للجمهورية.نت إلى أن أبرز التحديات التي تواجه هذه المجالس المحلية هي «قلة الدعم المالي المُقدّم لها بشكل عام، إذ لا تتلقّ تمويل أي مشاريع للمنظمات العاملة عن طريقها، وإنما يقتصر الأمر على التعاون الإداري فقط، كما تغيب الرقابة المالية على المجالس المحلية، مشيراً إلى أن غالبية المشاريع التي تأتي لها تكون عن طريق الحكومة التركية من خلال منظمة «آفاد» التركية.

ويبلغ عدد المجالس المركزية في شمالي وشرقي حلب والخاضعة للنفوذ التركي 18 مجلساً، فيما تبلغ مساحة المناطق الخاضعة لسيطرة النفوذ التركي منذ تدخل تركيا العسكري شمالي سوريا عام 2017 بـ8682 كم2، فيما يقارب عدد سكانها ما الـ3 مليون نسمة.

منطقة إدلب

يرى العبدالله أن مناطق شمال حلب تعاني الفشل ذاته الموجود في منطقة إدلب التي تديرها حكومة الإنقاذ، مضيفاً: «على الرغم من غياب مظاهر اللامركزية في إدلب، ولكن السطوة الأمنية الكبيرة هي التي ساعدت على إظهار شكل مؤسساتي محوكم في القطاع المالي»، منوّهاً أن حكومة إدلب «سخّرت جميع الفرص الاقتصادية في القطاع المالي لصالح شبكة من المتنفّذين في السلطة الحاكمة، وإلباس هذه السياسات لُبوسَ المصلحة العامة».

وتجسدت محاولات السيطرة بحسب العبدالله في حجم الضرائب السنوية ورسوم التأمين التي تفرضها حكومة الإنقاذ على مكاتب وشركات الحوالات والصرافة، أو بعض القرارات المالية المُتخذة من قبلها، وزيادة مستوى الرقابة على هذه المنشآت، والتي قيّدت بشكل كبير من حرية عملها في هذا القطاع، إلى جانب عدم اقتناع بعض أصحاب هذه المكاتب بهذه الرسوم والضرائب، وتخوّفهم من مدى القدرة على استرجاع هذه المبالغ في حال حدوث متغيرات عسكرية أو سياسية مستقبلاً.

ولفت إلى أن المكتب الاقتصادي لحكومة الإنقاذ يُدير حالياً المؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك، التي تأسست عام 2017، والتي ذَكرت في بيان تأسيسها أنها «تهدف لتنظيم عمليات الصرافة ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات».

وفي جانب مدى حوكمة المؤسسة العامة للنقد لنفسها، أكّد العبدالله على أنه في الحقيقة «لا تظهر أي مؤشرات تدل على ذلك؛ فمنذ تأسيسها لم تُصدِر المؤسسة الإحصاءات الدقيقة والمُحدّثة عن حجم الكتلة النقدية المتداولة والقطع الأجنبي. كذلك تغيب المعلومات الرسمية عن ماهية عملها وهيكلها التنظيمي وطاقمها الوظيفي وتقاريرها السنوية، ولم يتمظهر وجودها بسياسات مالية ونقدية واضحة تراعي متطلبات الظروف التي تعيشها المنطقة». إلى جانب ذلك، بحسب العبدالله، لا تملك المؤسسة موقعاً إلكترونياً لنشر قوانينها وتشريعاتها في الجانب المالي، وإنما اقتصر الأمر على فتحها لقناة على تطبيق تلغرام، وهذا «ما يُضعف بشكل كبير من مستوى الشفافية والمهنية والإفصاح المطلوب منها كمؤسسة مسؤولة عن إدارة النقد في هذه المنطقة».

وتابع القول: «وبالتالي يُلاحَظ تمركز نشاط المؤسسة بشكل أساسي على مراقبة وتنظيم مكاتب الحوالة والصرافة، إذ لا يوجد رسوم حوالة موحدة بين مكاتب الحوالة، وإنما تخضع الرسوم أو التعرفة لجو من المنافسة بهدف كسب الزبائن، ومحاولة المؤسسة لعب دور المستثمر في هذا السوق لتحقيق العوائد أسوة بمكاتب الصرافة والحوالة الأخرى عبر فروعها، وعبر شبكة شركاء من الصرافين المتعاونين معها في المنطقة بشكل غير معلن، والذين يسهّلون عملية نقل الأموال من وإلى مؤسسة النقد وبنك الشام إلى الخارج بسبب تبعية هاتين المؤسستين لحكومة الإنقاذ، وتفادي الجهات الخارجية التعامل معها مالياً بشكل مباشر».

الحوكمة مرتبطة بالسيادة

خلال إعداد هذا التقرير التقينا مع المستشار الاقتصادي والمالي أسامة القاضي، والذي رأى أن المشكلة في مناطق الشمال السوري تكمن في أنه «لا يوجد لها ‘هوية تركية’ باعتبار الأخيرة هي التي تبسط سيطرتها على المنطقة، كما أنها في الوقت نفسه ليس فيها أي سيادة سورية، إذ تتواجد فيها حكومتان إحداهما تصنفها تركيا كخارجة عن القانون وحكومة أخرى غير ممكنة»، منوّهاً أن الشمال السوري «يعيش ظاهرة فريدة، وهي حكومتان ومنطقة نفوذ وأرض بلا سيادة، ولذلك لا يوجد هناك قوانين تحكم أي شيء».

وأوضح القاضي في حديثه للجمهورية.نت أن الأتراك اليوم «ينتظرون انتهاء الحل السياسي أو صفقة سياسية حتى يأخذوا ضمانة بأن تواجدهم شرعي على الأرض السورية، وأن لا أحد سيطالبهم بالانسحاب من سوريا، وتحديداً من المنطقة التي تشكل 15 بالمئة من الأراضي السورية، ولذلك هم يستثمرون على استحياء في تلك المناطق، لأنهم لا يعرفون إلى متى سيبقون في تلك المنطقة».

وأشار إلى أنه «في اللحظة التي تشهد شرعنة تواجدهم في تلك المنطقة بشكل رسمي ودولي، ستكون الإدارة أكثر استقراراً والأمور ستكون أفضل وأوضح»، لأن المنطقة وفقاً لقوله «لا تدار عملياً بإدارة تركية مثل أي محافظة أو ولاية تركية وبنفس مستوى الشفافية وبوجود انتخابات مجالس البلديات مثل ما يحصل في كيليس أو غازي عنتاب.

وأكّد القاضي أن مشكلة الشمال السوري أساساً هو أنه «تحت النفوذ التركي ولكنه غير تركي، فلا يصح تطبيق القوانين التركية عليه. وفي الوقت نفسه لا يوجد هناك دستور وقانون سوري يحكم المنطقة، فهناك قوى أمر واقع وفصائل وحكومتان بلا سيادة؛ فالحكومة المؤقتة غير ممكنة ولا تستطيع تفعيل أي قانون في منطقة تحكمها الفصائلية»، لافتاً إلى أن تركيبة الجيش الوطني «بحاجة ملحّة إلى ترتيب مختلف تماماً، بدايةً بنزع الوجود المسلح بين المدنيين»، مرجحاً استمرار الفوضى الإدارية والمالية شمال سوريا بسبب غياب حل سياسي.

وأكّد القاضي على أن وزارات المالية أو الاقتصاد في تلك الحكومتين لا يوجد لها سلطة أو قوة تنفيذية حقيقية، فكل تاجر عملة له فصيل يحميه، وهنالك 27 فصيل عسكري، لكل منها مكتب اقتصادي خاص به، وله دخل مالي خاص من المعابر أو الحواجز أو من الترفيق أو من أي مصدر آخر، وهذا لا يجوز حتى في العرف العسكري.

واعتبر المستشار الاقتصادي أن افتقار هاتين الحكومتين للحوكمة المالية «وضعٌ طبيعي لأرض بلا سيادة»، مشدّداً على أن الحوكمة تحتاج لأدوات تنفيذية وأدوات رقابية، وتحتاج لحكومة وسيادة من شأنها قياس مستوى الفساد في المنطقة، ووضع آليات لتنفيذ وسيادة القانون ومرونة القوانين، ومراقبة الأداء الديمقراطي الحكومي، وتتأكد أنه دائماً بخدمة المستثمر والمستهلك والمنتج، وفقاً لقوانين ناظمة لهذه المسألة».

وتابع قائلاً: «في مناطق الشمال الغربي على الأقل وكذلك مناطق الشمال الشرقي، لا يوجد هناك أي حوكمة حقيقية على الإطلاق»، لافتاً إلى أن المنطقة «تُدار مالياً بالحد الأدنى من الأخلاقيات عند الناس، وبعض الضبط هنا وهناك، لكن ليس هناك قانون واضح ولا قضاء مستقل تابع لوزارة العدل، فهناك هيئات شرعية وهيئات مصالحات، لكن لا يوجد حقيقةً أي دور للحكومة، كما لا يوجد للحكومة المؤقتة سلطة حتى على المجالس المحلية ولا على أي كادر يعمل على الأرض».

مبادرات فاشلة

في مطلع عام 2015، أطلقت منظمات عديدة؛ منها Creative ،Bllc ،Acu ،ldo مبادرات مشتركة «للحد من الفوضى المالية وتطبيق الحوكمة الرشيدة في المناطق السورية الشمالية الخارجة عن سيطرة النظام السوري»، ولكنها فشلت في طرح أفكارها وتحسين واقع الحال، بحسب رأي المدير الإداري لمجلس محافظة حلب الحرة سابقاً أحمد بكور.

يقول البكور للجمهورية.نت إن هذه المنظمات قدمت برنامجاً من شأنه تطبيق الحوكمة المالية الرشيدة في شمالي سوريا، إذ تعاونت مع مجلس محافظة حلب حينها، وتضمّن برنامجها ندوات تدريبية وورشات ومحاضرات وجلسات توعية، كان الهدف منها تعزيز روح التعاون بين المواطنين والمجالس المحلية وتنظيم الأمور المالية إلى حد ما في هذه المجالس.

ولفت إلى أن هذا البرنامج «على الرغم من استمراره قرابة العام، لكنه فشل في نهايته لعوامل عدّة كان أبرزها ‘غياب الوعي’ عند موظفي المجالس المحلية التي هي حقيقةً التي تتولى جميع أمور المنطقة»، منوّهاً إلى أن معظم الموظفين في تلك الفترة «يفتقدون للشهادات العلمية ومعظمهم لا يملكون شهادات ثانوية أساساً، ولذلك كان أمر الإصلاح أشبه بالمستحيل».

إن التحديات التي تواجه القطاع المالي في ظل حالة الفوضى المالية الواسعة التي يعيشها الشمال السوري منذ سنوات، انعكست في حقيقة الأمر على السكان المقيمين في المنطقة وزادت من سوء أحوالهم وقلّلت فرص العمل والإنتاجية، في وقت لا يزال ملايين السوريين يعيشيون في خيامٍ مهترئة على سفوح أودية تفصل الأراضي السورية عن جارتها التركية التي تتحكم بمفاصل المنطقة.